تفضل الصديق الشاعر د. عامر جنداوي من بير المكسور، بإهدائي مشكورًا عددًا من إصداراته، ولكني سأتوقف هنا مع مجموعته الشعرية الأخيرة التي اختار لها عنوان “وعودٌ ليسَ أكثر”، وجاءت 142 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم بين دفتيها عشرات من النصوص الشعرية والنثرية، القصيرة والطويلة، المتنوعة في أغراضها وموضوعاتها وعناوينها وثيماتها، التي كتبها د. عامرجنداوي ونشر الكثير منها في عدد من الصحف والمجلات المحلية والمواقع الالكترونية وفي صفحته الشخصية على الفيس بوك.
قدم للمجموعة الأستاذ د. كمال زيدان، المحاضر في كلية الفنون الجميلة بجامعة النجاح الوطنية في نابلس، ومما قاله: ” في هذا الديوان، أجد للحرف طعمًا آخر، وللكلمة صدى لم يكن من قبل وأشعر أن القصيدة الواحدة وحيدة في نبضها ولونها وكبريائها، تظللني بظلها حيث لا تعب ولا نصب ولا سبيل للانعتاق من فضائها الرحب وسمائها الواسعة”.
وفي الواقع أنني ما زلت مؤمنًا أشد الإيمان بجمال وعمق وإحساس ما يكتبه ويبوح به شاعرنا الأنيق د. عامر جنداوي، فهو يمتلك موهبة شعرية حقيقية، وثروة لغوية، ومخزونًا معرفيًا، وأناقة حروف، وجمال صورة، وصدق مشاعر، يفتقدها الكثير من الشعراء وأشباه المتشاعرين.
فهو صوت شعري ناعم طافح بالرقة والعذوبة والحس الإنساني المرهف، مع ما يختزنه من ألم وشجن وخيبة أمل، وعشق للحياة والجمال، وحُبّ للوطن والأرض والإنسان والبيئة والبداوة، وتمسكًا بالقيم الأخلاقية والفضائل الدينية، ونصوصه تعبق سحرًا وجمالًا وبهاءً.
قرأت مجموعة د. عامر جنداوي بكثير من المتعة والاستمتاع، ووجدت فيها من أشعار الحُبّ والغزل العفيف والإنسانية والوطنية ووصف المكان والهروب للطبيعة الغنّاء، ولمست فيها المقومات الجمالية. إنه يأتينا بقصائد وجدانية ذات نزعة إنسانية وطابع رومانسي، وبشعر عاطفي وغزلي عفيف ورقيق شفاف غير مبتذل، يدل على اتزان شاعرنا العاطفي والفكري والذهني، وبكلمات وجمل شعرية منسابة رقراقة على صفحات الورق في نهر اللغة، لفظًا ومعنى، وبمنتهى الرقة والطلاوة والعذوبة.
ومن خلال قراءة قصائد المجموعة يشعر القارئ ويستشف النفس الشعري المتين، والسمو التخيّلي الشفاف، والبراعة في التوصيف والتصوير التعبيري الحسي من خلال السلاسة وانسيابية وتدفق الألفاظ والجمالية الفنية التعبيرية، والمعاني البديعة، والصور الحديثة المبتكرة، واللغة القوية المتينة، والصياغة المتماسكة.
جاءت قصائد المجموعة زاخرة بالصور الفنية الموحية، والانفعال العاطفي الوجداني، والابتعاد عن الترهل اللفظي والتكرار الممجوج، وتوظيف التشبيهات والاستعارات البلاغية الرشيقة، ونرى عامرًا متمتعًا بثروة لغوية محكمة، ومتخذًا من المرأة رمزًا للوطن والأرض في الكثير من مقطوعاته الغزلية الوجدانية.
لنسمعه يقول في هذه القصيدة الرائعة المشبعة بالدفء العاطفي والجيشان الملتهب، والوصف الفاتن:
لا تَعْتَبوا، هذا الْفُؤاد مُسيَّرٌ
يا لَيْتَهُ لي تابعٌ ومُخيَّرُ
لو خَيَّرُوني أيْنَ أنْصُبُ خَيْمَتي
لَقَضَيْتُ عُمْري زاهِدًا أتَفَكَّرُ
في عَيْنها الْيُمْنى أُعَلّقُ خافِقي
والرُّوْحُ يَحْرُسُها اللّحّاظُ الأيْسَرُ
وَجَعَلْتُ ليلَ الْعاشِقينَ جِنانَها
والصُبْحَ مِنْ أنْفاسِها يتعَطّرُ
والْبَدْرَ يَحْرُسُ في السّماءِ سَماءَها
والشَمْسَ حولَ سَرِيرِها تَتَبَخْتَرُ
والصَّيْفَ نبْعَ الشّوْقِ يَلثُمُ خَدّها
والْغْيمَ مِنْ فِيها رَحيقًا يُعْطِرُ
والنَّسْمَةَ الْجذْلّى تُداعِبُ فّرْعَها
والْخَمْرَ مِنْ ظَلْمِ الأَحِبَّةِ يَسْكَرُ
وفي المجموعة قصائد مترعة ومشعة بالحكم والمواعظ والارشادات، والدعوة إلى التمسك بالأخلاق الدينية والقيم الإنسانية، وهذه المواعظ تنم عن تجربة شاعرنا المختمرة والثرية ونضوج الوعي في فهم الحياة ومقارعة مشاكلها ومصاعبها وخطوب الدهر. وهي قصائد تمزج بين الرقة والشفافية، والقوة والعبر والحكم، وخرجت كلماتها عفوية بشكل تلقائي دون أي افتعال.
منجز د. عامر جنداوي يقوم على الرؤية الفكرية العقلانية والفلسفية، التي تجعل القصيدة تحلق في الآفاق العالية، شكلًا ومضمونًا، وهو يشدنا بروح الدهشة في النص الذي يخلق فينا الإثارة والدهشة، ويجعلنا نعيش لحظات التجلي، وحالات الإبهار في الحلم، وينجح في خلق الصور الفنية المركزة، في السرد المكثف، في نغم الصوت والإيقاع الموسيقي، في البنية الشعرية، في الصياغات التعبيرية، وفي اللغة الشعرية الآسرة الأخاذة، دون الإبهام والغموض، والتلاعب بالمعاني، والتوجه بكل الوضوح نحو الهدف والمرام والغرض.
ويمكننا أن نجمل ونقول أن قصائد مجموعة د. عامر جنداوي “وعودٌ ليسَ أكثر” تملك البعد السردي الوصفي بتعابيرها الدالة، في الإيحاء والمغزى، وبجمالية سردية، في منطلقاتها المتنوعة في الصياغات والتراكيب، وفي منصات النص المفتوح على ثيمات متنوعة، بما فيها الإبداع واستلهام الشكل التعبيري، وخلق مساحات لكشف خبايا النفس والروح والوجدان، وجمال الوطن وسحر الطبيعة وأسرار الحياة، ومرارات الواقع والحال الاجتماعي المعاش بكل أهواله وويلاته ونوائبه، برؤية فكرية سليمة مدركة تمامًا لواقع الحياة والتعبير عنه بأشكال مختلفة في الإبداع المتنوع في التناص والاستقراء والتوظيف والاستكشاف.
تحية لكَ صديقي الشاعر د. عامر جنداوي، متمنيًا المزيد من النجاحات والإصدارات القادمة، وهي قادمة بلا شك.