22 نوفمبر، 2024 7:55 م
Search
Close this search box.

مشياً على الأقدام بإتجاه الوطن: من موسكو الى قرية نائية .. هكذا استقبلتُ العام الجديد

مشياً على الأقدام بإتجاه الوطن: من موسكو الى قرية نائية .. هكذا استقبلتُ العام الجديد

بعد ستة اعوام قضيتها في العاصمة السوفيتية موسكو (1975- 1981)، أصدر الحزب الشيوعي العراقي قراراً ملزماً لخريجي المعاهد والجامعات في الأتحاد السوفييتي للإلتحاق بحركة الأنصارالشيوعيين، التي كانت قد بدأت بالتشكّل وتستقبل الملتحقين بها من داخل العراق وخارجه، وتقوم بتجميع القوى المناهضة للنظام في بغداد.
حصلتُ على وثائق التخرج (ماجستير في هندسة تكنولوجيا الطباعة ودبلوم عال في الفلسفة)، واقتنيتُ تذكرة السفر الى دمشق وحزمتُ حقيبتي وودعتُ صديقتي الروسية واصدقائي الكُثر. فقد كنت على عجالة من امري، تواقاً ومتلهفاً للدخول الى الوطن، وإن بطريقة مغايرة، ليست كما غادرتُه، في سبتمبر (ايلول) 1975 عبرمطار بغداد الدولي.
في 22 أيلول (سبتمير) 1981 تركتُ موسكو الى دمشق، وبعد شهرواحد قضيتُه فيها، حان موعد السفر الى القامشلي. استقليتُ الحافلة المتوجهة الى المدينة الحدودية الواقعة في جهة الشمال الشرقي من سوريا وتتبع ادارياً لمحافظة الحسكة. وفيها انتظرتُ، مع رفاق آخرين، 27 يوما ليطلع القمر وينير ضوئه دربنا، المحفوف بالمخاطر. وبطلوعه مُنحنا الأمل، في ان وقت الدخول الى بوابة الوطن، قد حان.
في القامشلي، سكنتُ مع عدد من الرفاق في بيت سري. تقاسمنا الرغيف والخفارات، وتناوبنا على الحراسات الليلية، وقمنا بتهيئة انفسنا لمواجهة الصعاب، بالتّدرب على حمل الاثقال على ظهورنا، التي ألفت الراحة ايام الدراسة واعترى اجسادنا الخمول.
وعندما حانت ساعة الإنطلاق الى الوطن، نقلتنا السيارات من القامشلي الى منطقة مفتوحة باتجاه الحدود العراقية، كان القمرُ بدراً. وهناك ارتدينا الملابس الكردية، وتم تزويدنا ببندقية وبريد وادوية وزمزمية ومصابيح يدوية وماء ورغيف خبز. ثم سرنا الواحد خلف الآخر باتجاه النقطة الحدودية للعبور الى العراق.
عند اقترابنا من محطة العبور، سمعنا هدير النهروغرير المياه وتلاطم الأمواج ببعضها، وهي تصطدم بالحجارة .. كان نهر دجلة (50 كيلومترا)، الذي ينبع من جبال طوروس بتركيا وبعبر الأراضي السورية الى الأراضي العراقية، هائجاً.
عبرنا نهر دجلة الى الضفة الآخرى بمشقة كبيرة، ساعدنا فيه الأدلاء وإطارات سيارات وحبال سميكة. وهناك قمنا بترتيب ملابسنا، وشّدينا البشدّين (عبارة عن قطعة قماش طولها بضعة أمتار. وهو جزء لا يتجزأ من الشروال الكردي ويستخدم بمثابة حزام يتم لفه على منطقة الخصر) وتفقدنا محتويات حقيبة الظهرالثقيلة، وبنادقنا، مخافة ان تكون قد تبللت أو طالتها امواج النهر العاتية. وتم تبليغنا بعدم إشعال السكائر أو استعمال المصابيح اليدوية.
سرنا خلف الأدلاء الى ان وصلنا الى الطريق الدولي، الذي يربط تركيا والعراق، وتسير فيه المركبات وشاحنات النقل البري مسرعة، وتجوب فيه دوريات شرطة الحدود والجندرمة التركية (قوات الدرك). والطريق عبارة عن شريط حدودي بين البلدين يبلغ طوله 367 كيلومتر ويمتد من النقطة الثلاثية مع سوريا في الغرب الى النقطة الثلاثية مع ايران في الشرق، عند التقاء نهر دجلة ونهر الخابور الصغير.
اجتزنا الشارع العريض بسرعة، وسرنا على ارض متعرجة، تؤدي الى تل مرتفع يطل على الطريق الدولي، تربض فوق قمته ربيئة عسكرية للجيش العراقي. كان علينا العبور الى الطرف الثاني من التل وتجاوزالربيئة، والسير من تحتها بهدوء وحذر، مخافة ان يتعثّر احدنا بحجارة فيحدث صوتا يسمعه الجنود، وتتعرض حياتنا للخطر، خاصة ونحن في مرمى الجنود المباشر وتحت رحمتهم.
عندما تسلقنا التلة، كان الوقت مساء وضوء القمر يفرش الأرض. سمعنا صوت الجنود، وهم يتحدثون معا ويتسامرون فيما بينهم ويستمعون الى اذاعة عراقية ويتهيؤن لوجبة العشاء.
بعد ساعتين من عبور مفرزتنا الطريق الدولي وتجاوز الربيئة العسكرية، اصطدمنا بعدد من قوات الجندرمة التركية، التي اطلقت علينا النار وطاردتنا الى ان دخلنا منطقة سلوبي (جنوب شرقي تركيا على الحدود العراقية السورية). وواصلنا طريقنا لساعات طويلة نطبق الليل بالنهار. وبعد ان قطعنا مسافات كبيرة واصابنا الأعياء، قرر آمر المفرزة ان نخلد الى قسط من الراحة.
في الطريق كان ادلاء المفرزة، قد حصلوا على معزة، ذبحوها وسلخوها واشعلوا النيران لشوي اللحم. افترشنا الأرض.. وبينما كنا ننتظر الشواء بفارغ الصبر، وتناول طعام يسد رمقنا، بعد تعب وارهاق وخوف وجوع، وصلتنا معلومات عاجلة عن نية الجندرمة التركية بالهجوم علينا، فتركنا النيران مشتعلة ونحن نعّجل الخطى ونجّر اقدامنا. كانت معنا امرأة كردية، قيل انها مطلوبة للسلطات التركية ومحكومة بالاعدام.
وعلى مدار عدة ايام واصلنا السير، اغلبه في جنح الليل، تصل ساعاته احيانا الى 16 ساعة. وفي النهار نلتجئ الى كهوف تشبه أديرة مهجورة. وبعد عشرة ايام، التقينا بمفرزة القائد الأنصاري توما توماس (ابو جوزيف) واعضاء في قيادة الحزب (ابو فاروق وابو يوسف) وآخرين، قادمة من مقر كوماته في طريقها الى دمشق للمشاركة في اجتماع اللجنة المركزية للحزب.
وبينما كنا معهم نتبادل التحايا، وصلت معلومات عن انتشارالجندرمة في المنطقة، وقامت بالسيطرة على الطريق الذي جئنا منه، والمؤدي الى القامشلي. فقررت مفرزة “ابو جوزيف” العودة ادراجها الى مقر كَوماته في منطقة بهدينان، والذي كان يبعد مسافة ثلاثة ايام مشياً، من الموقع الذي كنّا فيه.
سرنا باتجاه مقر (كوماته)، وقبل ان نصل الى المقر، عبرنا قرية (يك ماله- بيت واحد) . وبذلك تكون مسيرتنا من القامشلي الى مقر (كوماته)، الذي يفصله عن الحدود التركية نهر صغير، قد استغرقت 13 يوما.
بعدها بايام تحركتُ مع مفرزة صغيرة باتجاه مقر (هيركي) ومشينا اكثر من يومين في ظروف مناخية صعبة وقاسية، حيث فصل الشتاء القارس البرودة والثلوج الكثيفة والعواصف الثلجية.
بعد ايام تركنا مقر (هيركي) بإتجاه مقر (روست) وسرنا ساعات طويلة. في الطريق بدأ الثلج يتساقط بكثافة، واصبحت حركتنا صعبة وانعدمت الرؤية، واضحت حياتنا في كفة عفريت. فقرر آمر المفرزة، ان نقضي ليلة في بيوت القرية القادمة. فقد كان يتطلب للوصول الى مقر (روست) مشياً متواصلاً لأكثر من يومين.
في طريقنا الى القرية الصغيرة النائية في خاصرة الجبل، والمتكونة من ثلاثة بيوت طينية، وجدنا مقابر رأسية مبعثرة دون اعتناء، مكتظة بالأحراش، يفترشها الصقيع وحدود من الثلج لا ينتهي وبياض لا يخالطه مسحة من الألوان. داهمنا الليل وحل الظلام وبقي المتاح من الرؤية قليل. ولم تعد حركتنا في الثلج كما كانت قبل ساعات.
وصلنا الى القرية، وبعد ان حّل اعضاء المفرزة ضيوفاً في بيتين من بيوت القرية، بقيت انا دون مأوى. فطرق آمر المفرزة باب البيت الثالث طالباً من صاحبه ان يأويني لليلة واحدة، إلا انه رفض واراد ان يوصد الباب بوجهينا، لكننا حاولنا اقناعه، فلم يكن قد بقي لدينا خيار آخر، بعد ان بدأت العاصفة الثلجية تشتد.
واخيرا ولجتُ الى داخل البيت، ودلّني صاحبه الى غرفة صغيرة مظلمة، وهو يحمل فانوساً ضوءه يحتضر. قلت له بالكردية: هل تعرف انها ليلة رأس السنة 1981/ 1982؟ أجاب: لا انها ليست ليلة رأ س السنة لان نوروز (رأس السنة الكردية) يأتي في الربيع وليس في موسم الشتاء، وذهب مع فانوسه وتركني وحيدا في العتمة. كنتُ مرهقاً وجائعاً وملابسي مبللة وارتعدُ من البرد.
بعد قليل جاءني برغيف من الخبر وبعض الجبن المحلي وطاسة ماء.. وذهب لينام. كانت ملابسي مبللة وانا ابحثُ عن شيئ يجعلني يقظاً الى منتصف الليل، حيث تتحول عقارب الساعة الى سنة جديدة. فقد تعودتُ على حفلات رأس السنة الصاخبة قي موسكو، المليئة بالرقص والغناء، وأصناف من الأكل والشرب والفتيات الجميلات.
بقيتُ متمددا في العتمة.. تمنيتُ ان تكون عندي شمعة تضيئ ليلتي، ومذياعاً يشغلني وينقل لي احتفالات شعوب العالم في مثل هذه الليلة . لفنّي سكون مطبق وظلام دامس، لم اقدر التخلص منهما.. وبدأ هواء بارد يتسلل من اطار نافذة الغرفة. بقيتُ في الصمت وحدي أرنو للنافذة الصغيرة. وجدتُ نفسي قابعاً في لجّة الحلم الى دفء الوطن وانا في مكان لا امان فيه ولا أريج شراب وفي خلاء بلا حدود.
تذكرتُ حكايات ألف ليلة وليلة، ووالدتي عندما كانت تقصّ علينا الحكايات في ليالي الشتاء الباردة، ونحن صغار ونخاف من الظلام. جلستُ القرفصاء ولفني البرد، وذهبتُ بمخيلتي بعيداً الى سنواتي الماضية في موسكو، حيث طقوس الاحتفالات برأس السنة ومواعيدها ثابتة لا تتغير.
تركتني الظلمة مثل ذبيحة مهشمة الأوصال، وساعة محطمة، كعائدٍ لم يلق له المفتاح. كنتُ ضيفاً غير مرحباً به في تلك الليلة الشتوية الحالكة السواد، بلا قنديل زيت، كالذي انطفأ منذ زمن بعيد.. شعرتُ بالابتراد في ليلة بلا قمر ولا نجوم، وفي غرفة طينية بقرية منعزلة، فقيرة وبسيطة من قرى كردستان. حاولتُ ان اغلق عينّي في جنح الظلام.. لكنْ من فرط التعب والبرد والجوع لم تغمض جفوني..
قبل انبلاج فجر اليوم الأول من السنة الجديدة تركنا القرية وانطلقنا لنعبر نهر الزاب الآسفل، الذي ينبع من الجبال الأيرانية القريبة من الحدود العراقية- الأيرانية في محافظة السليمانية ويدخل الى الأراضي العراقية، واجتزنا الربايا العسكرية، وولجنا في الأراضي التركية. وبعد مسيرة يومين صعدنا جبل حصاروست، المطل على قرية (كَوندا زور) بمحافظة اربيل، ونزلنا من الطرف الثاني الى مقر (روست).
بعد ايام تركنا مقر(روست) ومشينا يوماً كاملا لنصل الى قرية بشتئاشان (خلف الطواحين) وهي قرية صغيرة تابعة الى محافظة أربيل وتقع على سفح جبل قنديل، ومنها مشينا يوماً آخر وعبرنا نهر (مارديو) ، لنصل الى ناوزنك، وهي القرية الحدودية التابعة الى محافظة السليمانية على الحدود العراقية الأيرانية.
في موسم تساقط الثلوج تهاجر الطيور وتذهب الحيوانات الى سباتها الشتوي. بينما نحن، في طريقنا الطويل عبر القرى الجبلية، كنا نرى اشباح جبال سامقة وبطون وديان سحيقة وتكوينات حجرية غريبة، وقد أسكن الجليد ينابيع المياه، فنقوم بإذابة الثلج لنشرب الماء. كانت الأشجار بحفيف اوراقها الهزيلة اشبه بألغاز ترهبنا. فلم تعد دروب الجبال مكتظة بالاشجار، بعد ان أُحرقت غالبيتها او قتلتها عوامل الطبيعة القاسية.

أحدث المقالات