18 ديسمبر، 2024 9:15 م

الناقد الكبير حسين سرمك حسن يغادرنا عجِلا

الناقد الكبير حسين سرمك حسن يغادرنا عجِلا

أحسب أننا نعيش زمن الموت، فأينما وليت شطر وجهك يشخص أمامك، ومهما ابتعدت مسافراً يبلغك صوت الناعي قوياً وهو يطرق سمعك بقساوة حتى بدا قول الشاعر العراقي ابن نُباتة (ت 405/1014):
من لم يمت بالسيف مات بغيره – تعددت الأسباب والموت واحدُ
قد واقعيته السببية، فكأس المنية المعلّى هو الجائحة، وحيث نمنّي نفسنا أنها الى زوال حتى تأتيك جائحة من جنس كورونا نفسه وبدرجة ثانية وربما ثالثة .. وكل واحدة أسوأ من سابقتها، وأصبح جهابذة علم الفايروسات في ذهول! ولله درّ ابن النحّاس الحلبي (ت 1640) حين قال:
كم أداوي القلبَ قلّت حيلتي – كلما داويتُ جُرحاً سال جرحُ
***
وهكذا بلغني نعي الناقد الدكتور حسين سرمك حسن، في أكثر من موقع، وكان صدمة، فقد كان من أنشط الكتاب وأغزرهم وأعمقهم وأكثرهم تنوعاً، موزع الاهتمام دائم البحث، بين التاريخ القديم وبين ميدانه الذي أبدع به وهو الطب النفسي، وبين النقد الأدبي، وقلما يمرّ أسبوع إلا وترى له بحثاً مرموقاً أو مقالة رصينة..زد على ذلك إشرافه وتحريرة لمجلة ” الناقد العراقي” الثرة بمواضيعها الأدبية التي جعلتها تستقطب خيرة المبدعين في الشعر والأدب والنقد، ناهيك عن ملفاتها الثرّة للفنانين والشعراء والكتاب عراقيين وعربا.. فهو في حيوية ونشاط جمّ وعطاء باذخ وكأني به قد أدرك أنه مزمع عجل، أرأد أن يقول كلمته في الأبداع وفي الفكر وفي السياسة التي ساءت ولا تني تسوء، فرحل وهو في أوج عطائه، فوا أسفاه!
ولد الراحل المأسوف على رحيله حسين سرمك حسن في الديوانية عام 1956 وتشبع بالقيم الفراتية الأوسطية من الحكايات وأحاديث المضايف والأشعار والغناء الفراتي الزاخر، فهو ابن للثقافة العراقية الجنوبية يحمل سحنتها وثقافتها وهمومها..وأكمل فيها دراسته من الابتدائية حتى الإعدادية بتفوق ليدخل كلية الطب العراقية عام 1980 ثم ليواصل الدراسة في جامعة عين شمس في مصر ويحوز على الماجستير في الطب النفسي عام 1990 الذي سيبدع به بحثاً نظرية وتطبيقا، ويقرنه بدراسات نفسية واجتماعية وبمنهج علمي رصين سيفتح له الباب واسعاً في مجال النقد العلمي والأدبي، ويكسبه التروي والدقة وحسن التقويم والإدلاء بآرائه السديدة في كل المواضيع الواسعة التي طرقها باحثا ومقوِّما ومصححاً لمن سبقه من الأعلام بكل جراءة.. فهو يصحح الاخطاء الفاضحة التي وقع بها هيرودوتس (أبو التاريخ) في ما كتبه عن العراق ويكشف عن التخليط لديه بين حضارتي بابل وآشور ويثبت بما لا يقبل مجالاً للشك أن أبا التاريخ لم يزر العراق فيما زعم قط وإن ما سجله عن حضارة وادي الرافدين هو السماع دون التمحيص!!
كما كتب عن الدكتور علي الوردي (بالاشتراك مع الأستاذ سلام الشماع ) ناقداً المنهج الذي تناوله الوردي والتطرف في تعميم الخاص مما قاده الى أحكام لا تخلو من الانطباعية وحتى الارتجال مثل تصويره الأدب العربي كأدب مدح وتقريظ الحُكّام كما في مؤلفه” وعاظ السلاطين” و “طبيعة المجتمع العراقي”..
زدعلى ذلك ما تناوله الراحل الدكتور حسين سرمك حسن وتغطيته للمبدعين العراقيين بروح نقدي موضوعي مسؤول، زيادة على ما ذكرت في ملفاته عن رائد علم الآثار العراقية العالم طه باقر، والناقد الكبير عبد الرضا علي، وعن الباحث الذي رحل قبل الأوان عالم سبيط النيلي وعن الشعراء: بدر شاكر السياب، ومظفر النواب، وسركون بولس، وعيسى حسن الياسري، ويحيى السماوي وغيرهم مما يصعب حصرهم.. ناهيك عمّا كتبه عن الروائيين الكبار من قبيل فؤاد التكرلي، ومهدي عيسى الصقر، وغسان كنفاني وميسلون هادي، وعبد الخالق الركابي..
كما أغنى المكتبة الطبية العراقية وسد نقصاً كبيراً في علم النفس الكلينيكي، والصحة النفسية، ولعل موسوعته في “تاريخ الطب” بثلاثة أجزاء، والمشكلات النفسية للأسرى، وكتابه عن المعوقين، يشهد على طول باعه، وترجمته لكتاب “مرض الصرع” يكشف بعلمية عن هذا المرض “المخيف الغامض” في الرؤية الشعبية له..
لقد كان الدكتور حسين سرمك حسن ناقداً كبيراً وعالماً فذاً وكاتبا موسوعياً، اتسم بالشجاعة والنزاهة والعمق، فما خاض في ميدان إلا وبرع فيه، وكان إنساناً مهذباً متواضعا جميل الأسلوب دقيقه.. وبرحيله يخسر العراق والعرب شخصية متميزة تترك فراغاً يصعب ملؤه…
أتمنى أن يثمَّن بما يستحق ومكانته السامقة من خلال دراسة ما تركه من ثروة عمية وأدبية زاخرة وأن يكرّم بتسمية قاعة درس باسمه، وأن يسمى شارع في مدينته الديوانية فهو واحد من مفاخرها ومفاخر العراق…
30 ك1/ ديسمبر 2012.