يا مريم .. رؤيتان لجيلين عن احداث العراق والتهجير ‏

يا مريم .. رؤيتان لجيلين عن احداث العراق والتهجير ‏

الكاتب العراقي سنان انطون في روايته “يا مريم” يصدر حكما قاسيا على المستقبل في العراق من ‏خلال وجهتي نظر مختلفتين: جيل الشباب المتشائم الذي بلغ مرحلة اللا أمل وجيل الكبار الذي عاش ‏ايام العراق الحلوة ولا يستطيع ان يصدق انها انتهت الى لا رجوع.‏

وصف الناشر -وهو هنا (منشورات الجمل) في بيروت وبغداد- الرواية التي جاءت في 159 صفحة ‏متوسطة القطع بالقول “رؤيتان متناقضتان لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية تجمعهما ظروف ‏البلد تحت سقف واحد في بغداد… تدور احداث الرواية في يوم واحد تتقاطع فيه سرديات الذاكرة ‏الفردية والجماعية مع الواقع ويصطدم فيه الامل بالقدر عندما يغير حدث حياة الشخصين الى الابد… ‏تثير الرواية اسئلة جريئة وصعبة عن وضع الاقليات في العراق اذ تبحث احدى شخصياتها عن عراق ‏كان بينما تحاول الاخرى الهرب من عراق الآن.”‏
في النهاية يؤدي الامر الى نهاية سوداء للاثنين يكاد القارىء لا يدري اٍية واحدة منهما هي الاسوأ: ‏نهاية الجيل القديم بالموت ونهاية الجيل الجديد الذي لم يعد امامه هربا من الموت سوى التشرد ‏والهجرة الى بلاد الله الواسعة.‏
صحيح ان هذه الرواية تأتي في نطاق اعمال ادبية تصور نهاية المسيحيين المفجعة في العراق اي ‏الموت والتشرد الا ان الاكيد ان الكاتب وهو يصور ذلك يصف لنا ايضا مصير العراقيين العاديين ‏عامة في بلد يسيطر القتلة والمتعصبون فيه على مجالات عديدة في الحياة.‏
نموذجان مسيحيان يمثلان جيلين وعقليتين.. الشابة مها زوجة اياد وهي من جيل عصف به العنف ‏الطائفي وكانت معظم ايامه اضطرابات وقتلا ومتفجرات ويوسف الذي يبلغ عمره اكثر من سبعين ‏سنة ولا يزال متمسكا بالعراق القديم وايامه الحلوة متصورا انها لا يمكن ان تزول نهائيا وان لا حياة ‏له خارج بلده.‏
لقد طاول القصف والقتال منطقة بيت الزوجين الشابين في احدى المناطق الخطرة فعرض نسيبهما ‏يوسف الذي يعيش وحيدا استضافتهما في بيته الكبير.‏
الزوجان يسعيان الى السفر الى خارج العراق اما يوسف فيحاول ان يحافظ على شيء من نمط الحياة ‏القديمة من خلال لقائه مع معارفه ومع سعدون صديقه المسلم الذي يشاركه افكاره وتصوراته.‏
يدور جدل بين يوسف والزوجين في شأن الوضع العراقي الرهيب. تقول مها “انت عيش في الماضي ‏عمو.”‏
يقول يوسف “قالتها مها لي بعصبية وهي تترك غرفة الجلوس بعد جدالنا الحاد. ارتبك لؤي زوجها ‏واحمر وجهه وهو يناديها بصوت عال طالبا منها ان تعود… اعتذر مني وهو ينظر بعينين حزينتين ‏وقال بصوت بلله الخجل: “سامحها عمو انت تعرف هي شقد تحبك وتحترمك بس مو بيدها اعصابها ‏كلش تعبانة”.”‏
يقول يوسف متسائلا “هل اهرب فعلا من الحاضر الى ملجأ الماضي كما اتهمتني هي؟ وما العيب في ‏ذلك… اذا كان الحاضر مفخخا ومليئا بالانفجارات والقتل والبشاعة؟ ربما كان الماضي مثل حديقة ‏البيت التي احبها واعتني بها كما لو كانت ابنتي. اهرب اليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها. انها فردوسي ‏في قلب الجحيم او “منطقة الحكم الذاتي” كما اسميها احيانا.”‏
اضاف “يجب ان اسامحها فزمانها غير زماني وشبابها غير شبابي. هي فتحت عينيها الخضراوين ‏على الحروب والحصار وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكرا. اما انا فقد عشت ازمنة الخير وما ‏ازال اتذكرها واصدق بانها حقيقية.”‏
يستعيد في ذاكرته حوارا دار بينهما بعد اطاحة نظام صدام حسين ومحاكمة طارق عزيز وزير ‏الخارجية المسيحي وطلب اعدامه.‏
تقول بالمحكية العراقية “لو كان من جماعتهم ما كانوا عدمونو بس طبعا لانه مسيحي دمه رخيص.‏
‏”فأجبتها بهدوء: ليش اللي انعدموا قبله شكانوا؟ كلهم اسلام. هذا اول وآخر مسيحي ينحكم اعدام.”‏
تجيبه بقولها “عيني قيعدمونا بكل مكان بلا محكمة وما حدا بحكي. الكنايس قتنحرق والناس قتتهجر ‏وقيذبحون بين يمنة ويسرة.”‏
يرد عليها قائلا “مو بس كنايس قتنحرق بنتي. الجوامع اللي انحرقت اكثر بكثير والاسلام اللي انقتلوا ‏عشرات الالاف.”‏
ويقول لها “مو قصة علينا لوما علينا. بس دولة ماكو والاقليات ما حدا يحميها غير الدولة القوية. احنا ‏لا عندنا حزب ولا ميليشيا ولا بطيخ.”‏
كان يتوقع ان تعتذر له. وكانت هي قد قررت ان تعتذر له فعلا وان تطبخ له طعاما يحبه لكن ذلك لم ‏يتحقق اذ لم تستطع ان تلتقيه فقررت ان تلقاه في الكنيسة التي يقصدها عادة.‏
في الكنيسة وقف الجميع وبدأوا يصلون بصوت عال وعندما وصلوا الى ” اعطنا خبزنا” اقتحمت ‏اصوات اطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددونها… بدأ البعض يتلفت حوله ووراءه وسرت ‏بلبلة… تصاعد بكاء بعض الاطفال ثم هز انفجار عنيف الكنيسة كلها… ارتبك يوسف وظل واقفا لا ‏يعرف ما الذي يمكن له ان يفعله.‏
‏”لمح مها… هم باللحاق بها وناداها مرتين لكنها لم تسمع. ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا ‏بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء.‏
‏”كانت مها جاثمة على الارض. فكرت بزوجها ووالديها وشقيقها وفكرت بيوسف الذي لم تعتذر منه.”‏
لقد قتل يوسف مع الكثيرين الذين قتلوا في كنيسة سيدة النجاة. “ظل جسد يوسف مسجى على ارض ‏الكنيسة لاكثر من اربع ساعات قبل ان يحمل الى الخارج بعد تخليص الرهائن واخلاء الجرحى… ‏واحدة من الرصاصات الاربع التي كانت قد اخترقت جسده قبل ساعات كانت قد عثرت على قلبه ‏واسكتته. قبل ان يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت “يا مريم” لكنه لم يكمل جملته.” ‏

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة