تقلبات الحياة كثيرة، وقد تصل بالانسان الى حد اليأس والاحباط. ولكن هل وصل بك الحال يوماً، الى التفكير بالتخلي عن اطفالك او عرضهم للبيع؟
انه لأمر مروع ان يفكر أب او أم، مجرد تفكير، بالتخلي عن فلذات الاكباد. ولكن هذا يحصل اليوم في بلدي العراق، لا عقوقاً بحق الأباء على الابناء، ولكن اشفاقاً عليهم وعلى مستقبلهم، واعلاناً صريحاً بالعجز عن تأمين الحد الادنى للعيش لهم، وهو الرغيف.
نعم، هذا ما يجري في بلدي العراق . والمؤلم ان لا احد يقدر مصاعب الحياة اليومية بالنسبة للمواطن العراقي العادي لاي دين او طائفة انتمى. والمؤلم ايضاً، ان صحافتنا العراقية تهتم بما قال فلان وبما يفعله علان، من اصحاب دكاكين السياسة والتجارة والسلاح والاجرام في العراق. لكنها بعد احدى عشر سنة من الدمار، اخفقت في التركيز على الجانب الانساني من الحياة العراقية. اخفقت في ان تنتزع من صميم شارع الموت والدمار صورة لحياة العائلة العراقية خلال 24 ساعة من المعاناة والآلام والشقاء، سواء في تجنب الموت قتلاً او تجنب الموت جوعاً.
هل هانت الحياة والكرامات الى درجة ان يعرض العراقيون ابناءهم للبيع او للتنازل عنهم في مقابل التكفل بتعليمهم واخراجهم من هذه المصيدة الهائلة…. العراق؟
نعم، ليس هذا مستغرباً، فالامراض والمجاعات والانهيار الاقتصادي والاجتماعي تأتي كلها دائما بعد الحروب النظامية او الاهلية. لكن المستغرب هو السكوت عما يجري في بلدي العراق من تدمير يومي للحياة الانسانية. فالعراق ليس صاحب الفخامة، ولا صاحب الدولة، ولا اصحاب الميليشيات… العراق اليوم صورة يومية مروعة للذعر والرعب والفوضى والقتل والاغتيال والخطف والتفجير والسرقة…
المستغرب، ان هذا يجري تحت سمع وبصر اصحاب الفخامات والدولارات واصحاب الميليشيات من زعماء العراق او متزعمية.. من سفلة المجتمع وحثالاته ..
المستغرب كذلك ان هذا يجري تحت سمع وبصر الحكومات العربية المتورطة في العراق والتي تمول وتسلح هؤلاء السفلة والحثالات…
المستغرب ان هذا يجري تحت سمع وبصر امتنا العربية منذ احدى عشر سنة دون ان توحد قرارها وموقفها لانقاذ عراقنا، او على الاقل للتخفيف من نزفه وآلامه…
المستغرب ان هذا يجري تحت سمع وبصر المجموعة الدولية وهيأتها الانسانية، فلا يهمها سوى انقاذ حفنة من مجرميها، بينما يخطف شعب بكامله ليصبح رهينة سلاح الحثالات والسفلة المحميين الذين يعيثون قتلاً وفساداً وسرقة في الشوارع والاحياء….
احدى عشرة سنة من الدمار، عجزتم فيها عن تحقيق نصر فئة على فئة او طائفة على طائفة او ميليشيا على ميليشيا…
احدى عشرة سنة من التوازنات المخطوطة بدقة على الارض، لا احد يغزو ولا احد يغزى، لا احد يجتاز الخطوط الحمر او الخضر، لا نصر هنا ولا هزيمة هناك…
اذن، فلماذا هذا الصراع والخصومة؟ لماذا تكديس كل هذا السلاح في الحسينيات والجوامع؟ لماذا استمرار هذه الحالة من الميوعة والفوضى والرعب؟ لماذا كل هذه الاموال التي تنفقها ايران وغيرها على تمويل وتسليح المسلحي، عفواً السلفة والحثالات؟ لماذا كل هذا الارهاق لهذا الشعب المخطوف والمقتول والمذعور بكامله؟
ثم ماذا ينفع نصر فئة على فئة اذا خسرنا العراق وشعب العراق، شعبنا؟ ماذا يعني ان يتدهور سعر النقد وترتفع الاسعار بشكل متسارع يوماً بعد يوم؟انه يعني ببساطة، ان الانهيار الكامل ينذر بتفكيك العراق، بمحوه من الخريطة دولة وشعباً.
انه يعني ببساطة ان العراق كف عن العمل والانتاج، فأكثر من تصف الايدي العاملة في العراق بلا عمل اليوم وبلا مورد.
الدولة لا تحصل سوى 5% من الضرائب والرسوم الكمركية بينما تنهب، الميليشسيات الباقي (خوّة) في الشارع وفي المصنع وفي…
هناك اليوم اكثر من 20 ميليشيا وتنظيماً وعصابة معروفة بأسمائها وزعاماتها واتجاهاتها الى جانب عشرات لا تحصى ولا تعد من التنظيمات والدكاكين والعصابات المجهولة…..
الميليشيات تحولت الى جيش نظامي تحصل على المال من الدولة ومن الخارج… وتغتصبه عنوة من القادرين وغير القادرين في الداخل، لتتسلح بالاسلحة…
هناك 3 مليون عراقي هجروا من بيوتهم ومساكنهم ومناطقهم… هناك 4 مليون عراقي هاجروا من العراق، وعدد كبير منهم يعاني الامرين في منفاه…
أباء ينتظرون هبوط الليل ليغامروا بالخروج بحثاً عن بقايا الطعام في صناديق النفايات بالقرب من المطاعم في بغداد وبقية المحافظات…
هناك أسر لم تتذوق اللحم منذ سنوات. هناك أسر تجمع العظام من دكاكين القصابة لتغليها وتغمس رغيفها بمرقها…
هناك مرضى وجرحى لا يجدون في جيوبهم ما يكفي لشراء الادوية اللازمة لعلاجهم.
هناك تآكل كامل للطبقة الوسطى في العراق التي كانت اساس ازدهاره وارتقائه. الانهيار الكامل يتمثل بارتفاع الاسعار، والتضخم يتسارع بشكل يؤكد ملامح الكارثة… انها الارقام وحدها التي تعكس الصورة المروعة لحالة الانهيار الكامل في العراق.
لكن لا القتل، لا البؤس، لا اليتم، لا الفقر، لا البطالة، لا الدمار، لا الترويع، لا احزان الاطفال والنساء… تحرك شعرة في اجفان الذين يملكون الميليشيات والجيوش، او الذين يتلاعبون بالاسعار ويتآمرون على عملة العراق وعلى رغيف اطفاله وعمل وانتاج ابنائه…
كان الصحابي المتزهد ابو ذر الغفاري، يعجب لامرئ لا يجد قوت عياله كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه. لكن ماذا يفعل الاب العراقي وهو يجد اطفاله وابناءه بلا قوت، بلا ملابس، بلا تعليم، بلا مأوى، بلا تدفئة، بلا عمل…
ماذا يفعل وهو لا يملك حتى حق الاحتجاج في هذه الغاية اللا انسانية التي تعج بالسلاح وبكل انواع الاستغلال والابتزاز والاحتكار….
قولوا يا اصحاب الفخامة والدولة والاسياد…
اجيبوا يا اصحاب الدكاكين والميليشيات والجيوش والعصابات…
اننا لا نملك سيوفاً نخرج بها على قوانينكم ودولتكم وسيوفكم.. لا نملك سوى ان نبيع اطفالنا… كما بعتم العراق.
[email protected]