23 نوفمبر، 2024 2:55 ص
Search
Close this search box.

حكاية مسجد (3) …جامع الوزير

حكاية مسجد (3) …جامع الوزير

شاءت الاقدار أن أصلي في هذا الجامع المبارك في كل العقود أو بالأحرى في كل الحروب، عقد “الحرب العراقية -الايرانية “المسماة بحرب الخليج الاولى 1980 / 1988..وعقد “حرب الخليج الثانية 1990/ 1991″التي اعقبها الحصار الغاشم الذي فرض على العراق بقرار من الأمم المتحدة بالرقم 661 ولم ينته سوى بـ” عقد حرب الخليج الثالثة 2003 “، ومن ثم الحرب الطائفية 2006 / 2008 يوم صار القتل الهمجي والعبثي والفوضوي والاجرامي على الهوية حيث قتل عشرات الالوف من الابرياء ظلما وعدوانا على الاسم ،على اللقب ،على المذهب ،على المنطقة ، على العشيرة وليس انتهاءا بعقد سقوط الموصل وبقية المحافظات الغربية حيث الدمار والنزوح والخراب والدماء ، وليس انتهاءا بعقد وباء كورونا ” كوفيد – 19 “ولعل آخر يوم صليت في هذا الجامع المبارك كان قبل ايام وتحديدا بالتزامن مع الاعلان عن تخفيض قيمة الدينار العراقي امام عدوه اللدود -الدولار-الاميركي !
وللامانة لم المس وطيلة هذه العقود -الحربية والدموية – تغييرا في هذا الجامع العريق الذي بني في العهد العثماني بأموال تجار كانوا قد فقدوا بضائعهم – قيل غرقا في النهر..وقيل نهبا على يد قطاع الطرق – فنذروا اذا ما اعيدت اليهم بضائعهم بعضها او جلها ان يبنوا بثمنها بعد بيعها جامعا على ارض كانت في الاصل مدرسة عباسية تسمى بالمدرسة النتشية، وعهدت بالاموال الى الوزير حسن باشا بن محمد باشا الطويل ، فسمي الجامع بإسمه بناء على ذلك ” جامع الوزير”وقد اعيد بناؤه واعماره مرات ومرات ،الا انه وطيلة العقود الماضية لم يطور ولم يحدث ولم يعمر وظل على حاله تقريبا بإستثناء النزر اليسيرمن الاصلاحات والترميمات ، فمازال الجامع هو هو ببابه الحديدية الخارجية الثانية خضراء اللون المطلة على جسر الشهداء “كان اسم الجسر وقت بنائه عام 1939 جسر المأمون ، ومن ثم ما لبث ان تغيراسمه الى جسر الشهداء بعد ثورة 14 تموز / 1958 وذلك تخليدا لذكرى من سقطوا فوق الجسر برصاص الشرطة خلال الاحتجاجات على معاهدة بورتسموث مع بريطانيا في العهد الملكي “،ومازالت باب الجامع الخشبية القديمة الثانية الداخلية نفسها تطل على سوق السراجين التراثي-اجمل سوق في بغداد ومن اعرقها يعود الى فترة حكم الخليفة العباسي أبو جعفر المستنصر بالله وكان السوق متخصصا آنذاك بصناعة سروج الخيل وملحقاتها فسمي بهذا الاسم نسبة لها، اما اليوم فهو متخصص بالنقش والخط العربي بأجمل الخطوط على الجلود ويكاد يتفرد بالصناعات الجلدية اليدوية التراثية الاصلية على اختلاف انواعها !
لم يتغير شيء قط …السدرة الكبيرة المنحنية تجاه القبلة وكانها تصلي داخل المسجد عينها ، المصلى الصيفي الكبير ذاته لم يتغير ، المصلى والحرم الداخلي لم يتغير ..المنارة وهي عبارة عن تحفة معمارية مزدانة بالاية الكريمة ” انا فتحنا لك فتحا مبينا ” نفسها ،القبة الاروع عينها …المرافق الصحية واماكن الوضوء ما زالت على حالها البائس جدا جدا جدا وبحاجة الى اعادة صيانة شاملة واعمار كامل ..والتي وكلما ابصرتها حدثت نفسي قائلا : ” فلوس الوقف وووووين ياخلق الله ..؟” .
كنا نصلي في هذا الجامع الرائع خلف شيخ كبير في السن لا اذكر اسمه لنعبر بعدها جسر الشهداء من جهة ساحة الرصافي ونقف عند منتصفه تماما حيث طيور النورس الجميلة المهاجرة تكاد تصطدم برأسك لقربها منك وهي تحلق بكثافة حول المكان وجل المارة يطعمونها حتى الفوها والفتهم لكثرة ما القي لها من طعام ومازال حتى كتابة السطور من اعلى الجسر وبعضها يتلقف ما يرمى اليه قبل وصوله الى نهر دجلة فيما الباقي يتناولونه هناك تحت الجسر …من هنا بإمكانك أن ترى ساعة القشلة التراثية وتبصر بغداد الجميلة ومعالمها الرائعة وبقية جسورها عن يمين وشمال …كانت اجمل الصلوات يوم ان تصلي المغرب في جامع الوزير ومن ثم تثني بصلاة العشاء في جامع العاقولية على بعد 500 متر عنه تقريبا ..او ان تصلي المغرب في جامع الاصفية المقابل له تماما -وكان يضم المدرسة الاصفية العريقة -وعلى بعد امتار قليلة منه ومن ثم تصلي العشاء في الوزير ..حيث الاذان العراقي الجميل ، التلاوة العراقية الساحرة ، اصوات التسابيح والتكبيرات والحمد والتهليل والتمجيد ” ، من تلكم المآذن الشامخة كنت تسمع صوت المرحبين بقدوم شهر رمضان في كل عام حين تصدح حناجرهم على الطريقة البغدادية المتوارثة “مرحبا ياشهر رمضان مرحبا ..مرحبا يا شهرالصيام مرحبا ” ومن ثم وقبل ايام من انتهاء الشهر الفضيل في العشر الاواخر من رمضان تصدح اصواتهم الشجية بحزن مودعة “الوداع يا شهر رمضان.. الوداع “، رائحة المكان هنا عطرة ، كيف لا وقد كان البناء البغدادي وكما حدثني بذلك احد المؤرخين والباحثين العراقيين المخضرمين ” يسمي الله مع كل طابوقة يضعها في مكانها” ..هنا ليس بوسعك الا ان تمتع”ناظريك بومضات وقبسات وبريق من التأريخ المجيد كله ..كيف لا وانا اتحدث عن بقعة كانت محط اعجاب وانظار العالم كله في يوم ما ” يا ترامب ابو كذلة ، ياماكرون زوج العجوز الشمطاء ، ياانجيلا ميركل القلقة ، يا بوريس جونسون اللي زيان مثل الاوادم ما يعرف يزين …ياحثالات الغرب ، يانفايات الشرق ؟!” انا اتحدث عن بغداد الرقي والحضارة ..هنا تحديدا كان المجد التليد حاضرا بكل ما تعني الكلمة من معنى ..فعلى يسار الجامع تقع المدرسة المستنصرية العريقة وكانت تضم في عصرها الذهبي مكتبة هائلة تحتضن 450 الف كتاب ومصنف ومؤلف ومجلد ومخطوط ، وفيها درس وتخرج اكابر علماء الامة في مختلف العلوم العقلية والنقلية ومن بينها المذاهب الاربعة الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي فضلا عن الفلسفة والرياضيات والصيدلة والطب، ومن مختلف الجنسيات ولأربعة قرون متتالية حتى عدت المدرسة المستنصرية اول جامعة في العالم ، وكانت تضم ” الساعة العجيبة ” التي اذهلت المؤرخين والمستشرقين قبل غيرهم ….هذه المدرسة المستنصرية تقع الى جوار- قصر الخلافة العباسي -والذي يقع بدوره الى جوار المدرسة النظامية وما ادراك ما المدرسة النظامية -اندثرت واندرست ولم يبق لها اثر- اسسها نظام الملك لتدريس المذهب الشافعي واصوله وبنى لها أسواقا وخصص لها ضياعا وحمامات ودكاكين لتكون وقفًا عليها” وين راحت هذه الاوقاف والى اين ذهبت عائداتها ؟ عند جهينة الخبر اليقين ! ، في هذه المدرسة العريقة درس ودرسَّ كل من الامام الغزالي ، ابن عساكر ، العز بن عبد السلام ،امام الحرمين الجويني ،الامام ابن الجوزي وغيرهم الكثير ..كانت تضم مكتبة تحتضن 10 الاف مجلد في مختلف العلوم …!
حرجت من جامع الوزير بعد ان صليت الظهر -بالكمامة – من باب السراجين ، مرورا بسوق السراي وصولا الى مبنى القشلة التراثي ، فجامع السراي “بناه الخليفة أحمد الناصر لدين الله ” فجامع السليمانية الاثري وكان اسمه جامع النعمانية بنته السيدة فاطمة خانم بنت بكتاش بن السيد ولي سنة 1771م، وأوقفت عليه أوقافاً كثيرة في بغداد ومندلي والخالص لخدمة الجامع والمتولين فيهِ (ترى الى اين ذهبت هذه الاوقاف كلها مع عائداتها ..قطعا عند احميدة ام اللبن الخبر اليقين ) ، سمي بالسليمانية لأن والي بغداد سليمان باشا الكبير اعاد اعماره في عهد الدولة العثمانية وبني الى جواره مدرسة،درس فيها لاحقا كل من العلامتين محمد فيضي الزهاوي ،وامجد الزهاوي ” ، فالاعدادية المركزية وهي اقدم ثانوية للبنين في العراق ، فبيت الحكمة ” اسس في عهد هارون الرشيد وكان سببا مباشرا بما ضمه من كنوز علمية ومعرفية في ازدهار الحضارة الاسلامية في كل بقاع الارض وفي شتى العلوم بما فيها الطب والهندسة والآداب وعلوم الفلك والترجمة والجغرافية …!
الى هنا انتهت الرحلة الشائقة الماتعة لأستفيق من ألق التأريخ المجيد كله وانا اسير على قدمي وحيدا على صوت -ابو الكوستر -وهو يصبح بأعلى صوته “علاوي،علاوي …ها يابه ترووووح للعلاوي ؟ يله ثلاث نفرات و نحرك ، فصعد 10 انفار ولم يتحرك -تماما كما العراق الحالي الذي يراوح مكانه فلا هو عاد الى مجده ليكون رقما صعبا بين الارقام ،ولا هو تقدم الى الامام مثل بقية دول العالم – قيد انملة !” .
يقولون انت مأخوذ بالتأريخ ..والحقيقة انا مأخوذ بعز وافر ، بألق حاضر ، بمجد تليد كان يحسدنا عليه الحساد غابر ، ابى الحاقدون الا محوه ودرسه عن سبق اصرار وترصد تارة بالخفاء ومن خلف ساتر، وتارة جهارا نهارا ، عيانا بيانا وبشكل خبيث وسافر ..ولكن هيهات ! اودعناكم اغاتي

أحدث المقالات

أحدث المقالات