19 ديسمبر، 2024 12:19 ص

البعد العضوي ودلالاته الحسية .. في رواية (مواسم الثلج والنار)

البعد العضوي ودلالاته الحسية .. في رواية (مواسم الثلج والنار)

سارد داخلي يروي مجموعة من الحكايات المترابطة، ربما يكون المتن الرئيسي لها مجتزئ من سيرة ذاتية، وتجارب مر بها الروائي في مرحلة استثنائية بكل تفاصيلها الاجتماعية والسياسية. في رواية (مواسم الثلج والنار) للروائي كاظم الشويلي والصادرة عن دار الورشة الثقافية، نجد ادب الحرب حاضرا بقوة متخذا عدة اوجه، هي تمثلات الصراع السياسي والاثني الذي شهده العراق في الاربع عقود الماضية على المستويين الخارجي والداخلي، فبينما يعيش البطل مخاوف وارهاصات الحرب الطائفية الداخلية، التي حدثت بعد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 نراه في نفس الوقت يسترجع ذكرياته المؤلمة عن الحرب العراقية الايرانية التي حدثت مطلع ثمانينات القرن الماضي، وقصة وقوعه في الاسر وتداعيات هذا الحدث عليه، مما يجعل منه الحدث المحوري للرواية، وهذا واضح من خلال العنوان الذي يعده النقاد متناً موازياً للمتن الرئيسي من حيث التأثير والدلالة (مواسم الثلج والنار)، فالمواسم كانت تمثل ايام الحرب التي خاضها في شمال العراق على سفوح الجبال، وسط الثلوج ونيران الحرب، وهو شاب يافع لم يتجاوز عمره التاسعة عشر، هذا الحدث المهم الذي عاشه الروائي في فترة حرجة من حياته اراد له منصة سردية كي يطل بها على الجمهور، فأتخذ رحلة بطله اليومية مع المهندسة وداد من ساحة عدن في بغداد الى موقع العمل، مسرحا ومتنفساً للإفصاح عن هذه الجزئية من حياته الماضية، التي كانت اكثر جزئيات النص صدقا وتفاعلا وواقعية، لذا يمكن ادراج هذه النص ضمن مايطلق عليه ب(أدب الحرب) الذي شغل مساحة واسعة في الادب العالمي شعرا وسردا، لما يمثله من عملية جلد للذات تمارسها الشعوب منذ الازل اتجاه ماضيها، للاستفادة من الدروس القاسية التي تخلفها الحروب، حتى عد بعض علماء الأنثروبولوجيا بأن الرسوم الموجودة على جدران الكهوف للإنسان البدائي كانت بواكير هذا الادب المهم، ووفق هذه الرؤية التوصيفية، فأن ادب الحرب مهمته، يسلط الضوء على حقب تاريخية عاشتها الشعوب في ظل ظروف استثنائية وعصيبة ولدت أنماط حياتية مغايرة للمألوف، وفرضت على الإنسان واقع لا مناص من مواجهته والتأقلم معه سلبا أو إيجابا، وأصبح فيما بعد جزءا مهما من تاريخ الإنسانية.. لذا فأن الخوض فيه، هو الخوض في الماضي، الذي عبر عنه جورج اوريل بقوله ( من يتكلم في الماضي يمسك المستقبل).
يبدئ النص بقصة يرويها السارد الضمني البطل (كاظم الشويلي) الذي عرف نفسه، بأنه موظف بسيط في احدى دوائر الدولة العراقية، يمتلك اسرة صغيرة تمثل كل وجوده وركيزة لديمومة عطائه، وفي موازاة ذلك، فهو كاتب مقال وقاص وروائي وناقد، يقع هذا الانسان العراقي المثقف في مفارقة اجتماعية حملت حساً كوميدياً، حين طلب منه رئيس العمل، التكفل بمهمة نقل المهندسة (وداد) من ساحة عدن في بغداد الى موقع العمل والعكس، في خضم الحرب الطائفية التي شهدها العراق، ومحاذيرها الامنية وتأثيراتها النفسية السلبية، ومن خلال هذه الرحلة اليومية يتعرض البطل الى مجموعة من المواقف، غلب عليها طابع الصدمة والدهشة والكوميديا السوداء، والمفارقات الحياتية، بعد ان يقع في حب وداد دون الافصاح لها عن ذلك، وصموده امام اغراءاتها، بسبب حبه لزوجته واسرته، مستغلا وجودها معه ليقص عليها حكاياته التي ارتبطت بالحرب والأسر وزمن لم تعشه، سوى بمخيلة الطفولة وذكريات بعيدة مشوشة.. ليقرر بعدها التهرب منها، وانهاء علاقته بها، وتسخير معظم وقته لأسرته وللقراءة وكتابة النصوص الادبية، الا ان الروائي قد جعل خاتمة الرواية مفتوحة عائمة، حين استبدل البطل علاقته الواقعية مع وداد، بعلاقة افتراضية عبر الفيس بوك مع فتاة من جنسية عربية.
اهم مرتكزات النص:
اولاً- البعد العضوية : تعد مواسم الثلج والنار من الروايات (العضوية)، لأننا نلمس حضور الكاتب فيها بكيان شخصيته ودلالاتها الحسية، وهذا بدا واضحا من خلال استخدام اسمه الصريح (كاظم الشويلي) وكنية زوجته ( ام علي)، وذكر جزء مهم من تفاصيل حياته الخاصة وميوله الادبية، مما اعطاها بعداً واقعياً انطباعياً، اضافة الى احتوائها على عدة تفاصيل دقيقة بالرغم من محدوديتها، مثل (اسماء اشخاص، اسماء اماكن، تواريخ ) اضافة الى وجود تشظي مقنن، مثل ذكر تفاصيل عابرة غير مؤثرة.. لكن النص بمجمله حمل خصوصية في سياق بنيته الثقافية والاجتماعية والتاريخية المهمة التي كتب فيها، وتميز بهرمية حكائية تقليدية متزنة.
ثانياً- اللغة: استخدم كاظم الشويلي لغة سهلة مرنة خالية من المفردات المقعرة والتراكيب اللفظية المعقدة، مع قدرة عالية على السرد والاسترسال في تصوير الاحداث وروايتها دون وجود توقفات زمنية الا ماندر، مع استخدام بعض الانزياحات مثل (الآيات القرآنية، والقصائد المغناة). حيث تكرر تلاوة واستحضار الآيات القرآنية بصورة ملفته في النص، في الحوارات والمنلوجات الداخلية، كدلالة على الاجواء الايمانية التي تأطر حياة البطل وهو يعيش في كنف اسرته، واشارة متوارية لحسه الديني، الذي كان حاضرا في مفاصل مهمة من النص، وكذلك استخدام القصائد المغناة من خلال مذياع سيارته، وترديده لهذه الاغنيات بصورة متكررة مع وداد، والتي عكست التركيبة النفسية والمزاج العام للبطلين اثناء رحلتهما اليومية الى العمل.
ثالثاً – التضمين: احتوت (مواسم الثلج والنار ) على عدة قصص وحكايات ضمنية كان الهدف منها تعضيد قصدية النص، والافصاح عن الوجه الاَخر للحرب وماَسيها، مثل قصص ( الرفيق الحزبي مقصود وادي، جارتهم سعدية اليتيمة، صديق البطل في الحرب ياسر) تشعبت هذه القصص، ارتبط بعضها بصورة مباشرة بالحدث الرئيسي للنص (وقوع البطل في الأسر)، مثل قصة الرفيق مقصود وادي، واخرى انفصلت عن هذا الحدث المحوري، لكنها بقيت مرتبطة بأجواء الحرب، مثل قصة (ياسر) الذي دخل الى حقل الغام املاً منه ان يعاق ويعفى من الخدمة العسكرية، فأنتهى به المطاف مقتولا مقطعاً الى اشلاء، وقصص اخرى ابتعدت عن اجواء الحرب لكنها ارتبطت حسياً معها من حيث واقعها الاليم ونهاياتها المأساوية كقصة ( سعدية) الطفلة التي تعيش تحت وطأة زوجة الاب وظلمها لها ولأخيها الصغير.. لقد وفق كاظم الشويلي بالتقاط مثل هكذا صور اجتماعية حياتية، وتضمينها داخل نصه، لزيادة التأثير الحسي لدى المتلقي، وجعله اكثر تعاطيا وتفاعلا مع النص.
رابعاً – السرد الممسرح الظاهري: هيمنت تقنية (السرد الممسرح الظاهري) على اجواء النص، حيث اتخذ الروائي من علاقة بطله بالمهندسة وداد منصة سردية للإفصاح عن ما يود قوله، مستخدما تقنيات سردية موزاية مثل (الارتداد والاستذكار والاسترجاع، المنلوجات الداخلية، القفز). سارد ضمني يحكي لنا جزء من يومياته، ثم ينتقل ليخاطبنا بصورة مباشرة في مقاربة مع مسرح (برشت) ازالة الحاجز الرابع الذي يفصل الابطال عن الجمهور (لن تصدقوني اذا حكيت ماذا جرى في ذلك الصباح، حدث امر غريب …. صدقوني لم ولن اضحك على الذقون، سوف ابوح بكل اسراري…. سوف اعود الى الوراء قليلا، اسمحوا لي، اقصد قبل ان تصعد المهندسة وداود سيارتي هذا الصباح).. لكن المتن الرئيسي للرواية يتم من خلال سرد ممسرح ظاهري، حين يقص البطل كاظم على وداد، حادثة وقوعه في الأسر، حكاية (مواسم الثلج والنار).. لذا كان زمن الرواية (زمن متعدد الابعاد) فهناك زمن (الخطاب) وهو خطي اَني ، يمثل الحاضر الفعلي، زمن سرد الاحداث ووقوعها اللحظي في النص.. وهناك زمن اَخر فرض نفسه على النص هو ( زمن القصة) قصة وقوعه في الأسر، التي مثلت الركيزة التي تعكز عليها النص.