من المؤكد ان حاجة الانسان للتعامل مع محيطه وما يؤثر فيه كان امرا حيويا منذ وجود البشرية. فنزعة البقاء حرَّكت البشر بما لديها من امكانات وطاقات وسخرتها لبقائه.ولم يتوقف الامر عند ذلك بل سعت المجتمعات لتطوير نزعاتها هذه باتجاه البقاء والرفاهية، ومن هنا كانت الحاجة الى التفكير بوضع اسس لتنظيم احتياجاتها وسبل تأمينها.
ومع تعقّد ظروف الحياة البشرية بما تداخلت فيها من تشابك المصالح بين المجتمعات والدول ومن ثم تضارب هذه المصالح، بات لزاما على اليشر ان يعدّوا التصورات ويضعوا الخطط والبرامج لمواجهة ما يمكن ان يواجهوا من مصاعب.ولا شك ان هذا التطور نشأ قبل نشوء الدول القومية ولو بأشكال مختلفة ومتواضعة؛الا ان نشوء الدول القومية أعطى لموضوع السياسات العامة بُعدا إضافيا، تجلّى بحيوية وأهمية هذا الجانب باعتباره هدفا لحماية مصالح المجتمع والأفراد الذين أنابوا الدولة في تأمينها والسهر على استمرارها.
ومن هنا كانت السياسات العامة في الدول تمثل احدى مظاهر نجاح الدولة او فشلها في تأمين مبررات وجودها بحسب المفاهيم التي ارتكزت عليها الكثير من الافكار والمعتقدات والتي أسسّت لسياسة الدولة الرعائية ، الدولة الأم في احتضان مواطنيها وتأمين المسائل الحيوية لبقائهم وكذلك وسائل رفاههم ايضا.
لقد أُعطيت الدولة دوراً رئيساً في رسم وتنفيذ السياسات العامة ذلك وفقا للمفاهيم التي سادت في خلال القرنين السابقين، وتراوحت شدة إعطاء الدولة الهامش الواسع بين نظام سياسي وآخر، وحتى بين نظام دستوري وآخر، وتجلّى الاختلاف في مستوى تدخل الدولة وفقاً لطبيعة النظام السياسي والقيم التي يتبناها.
ففي الدول الاشتراكية السابقة على سبيل المثال، كانت السياسات العامة للدولة مركزية الى حد كبير ، فالحزب الحاكم هو الذي يخطط للبرامج، والدولة هي التي تنفذ من خلال اجهزتها التنفيذية المختلفة.بينما في الانظمة الرأسمالية وان ظهرت الدولة كمخطط ومنفذ في عمليات رسم وتنفيذ السياسات العامة، إلا أن العديد من العوامل والقوى كانت تتداخل وتتشارك مع أجهزة الحكم في رسم الصورة النهائية للسياسات العامة.اي بمعنى آخر ترتبط السياسات العامة بشكل او بآخر في الايديولوجيا التي يتبناها النظام، وعادة ما تكون هذه السياسة انعكاسا وتطبيقا لها في مختلف المجالات.
الا ان متغيرات كثيرة قد طرأت في العقد الاخير من القرن العشرين،وقلبت مفاهيم كثيرة ، ومنها مفهوم السياسات العامة في الدول.فمع انهيار الكتلة الشرقية ومعتقداتها وأساليب عملها ، وتحت ضغط مفاهيم النظام الرأسمالي ومحاولة إرساء مفاهيم وقضايا العولمة بمختلف مظاهرها، اخذ مفهوم تدخل الدولة واحتكارها للسياسات العامة يتهاوى شيئا فشيئا، بحجة فشل الدولة في النجاح بإدارة الكثير من القطاعات الاقتصادية والتجارية وصولا الى قطاعات اجتماعية يعتبرها الكثيرون من مهام الدولة بصرف النظر عن فشلها او نجاحها.ومن هنا ظهرت مصطلحات جديدة تكاد تكون مرادفة لطبيعة ومهام السياسات العامة لاي نظام سياسي ومن هذه المصطلحات “ادارة شؤون الدولة والمجتمع”.وفي الواقع يعتبر هذا المصطلح انعكاسا للمتغيرات الحاصلة ونتيجة للعديد من الاسباب والاعتبارات كتدخل العديد من المؤثرات في رسم وتنفيذ السياسات العامة كجماعات الضغط والمنظمات الاهلية ، اضافة الى اسباب اخرى سنعالجها لاحقا كالمؤسسات المالية والتجارية الدولية.
وعلى الرغم من عدم حسم الجدل مبكرا عما اذا كان مصطلح ادارة الدولة والمجتمع المدني قادرٍ على اخذ مكان السياسات العامة بمفهومها التقليدي، فان جملة تساؤلات نطرحها ونلقي الضوء عليها لمعرفة اهداف وخلفيات هذا المصطلح الذي بدأ يأخذ حيزا في الكتابات المتعلقة بالسياسات العامة للدول.فمن اين اتى مصطلح ادارة الدولة والمجتمع المدني؟ وما هي اصوله؟ وما هو تعريفه ؟ وما هي الاشكالات التي يطرحها؟ا.
مفهوم “إدارة شئون الدولة والمجتمع
واجهت العلوم الاجتماعية بشكل عام العديد من المشكلات المنهجية؛ ومن ابرزها صعوبة وضع تعريف محدد للمفاهيم المستخدمة؛ فعادة ما يصعب تقديم تعريف شامل، جامع مانع يحيط بأبعاد أي ظاهرة اجتماعية. ويشكل مفهوم النظم الحديثة” الذي ظهر في نهاية الثمانينيات في العلوم السياسية والادارية مثالا حياً لهذه المشكلة المنهجية.
أولا- أسباب ظهور المفهوم وتطوره
شاع استخدام هذا المفهوم” أو “إدارة شئون الدولة والمجتمع” في أدبيات الإدارة العامة، والسياسات العامة، والحكومات المقارنة؛ فعلى سبيل المثال تبين من خلال حصر الأدبيات على شبكة الإنترنت أن عدد الرسائل العلمية في الولايات المتحدة التي تحتوي عناوينها على المفهوم وصل إلى 136 رسالة مع منتصف 2002، كما أن هناك على الأقل 326 كتابًا يتناول كل منها جانبا من جوانب المفهوم أو تطبيقًا عمليا له في بلد من البلاد حتى التاريخ المذكور.
وعلى الرغم من شيوع استخدام المفهوم فإنه ليس هناك إجماع على المعنى المقصود به ويمكن القول إن المفهوم يأخذ بعدين متوازيين؛ يعكس أولهما فكر البنك الدولي الذي يتبنى الجوانب الإدارية والاقتصادية للمفهوم. أما البعد الثاني فيؤكد على الجانب السياسي للمفهوم؛ حيث يشمل الى جانب الاهتمام بالإصلاح والكفاءة الإدارية التركيز على منظومة القيم الديمقراطية المعروفة في المجتمعات الغربية . ولقد ظهر المفهوم منذ عام 1989 في منشورات وتقارير البنك الدولي عن كيفية تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفساد في الدول الأفريقية جنوب الصحراء حيث تم الربط بين الكفاءة الإدارية الحكومية والنمو الاقتصادي؛ فوفقًا لهذه الأدبيات فان الأدوات الحكومية للسياسات الاقتصادية ليس من المفروض فقط أن تكون اقتصادية وفعالة ولكن أيضًا لا بد أن تكفل العدالة والمساواة، ولقد نما المفهوم بعد ذلك ليعكس قدرة الدولة على قيادة المجتمع في إطار سيادة القانون وفي بداية التسعينيات أصبح التركيز على الأبعاد الديمقراطية للمفهوم من حيث تدعيم المشاركة وتفعيل المجتمع المدني وكل ما يجعل من الدولة ممثلا شرعيا لمواطنيها؛ ففي اجتماع اللجنة الوزارية لمنظمة التنمية الاقتصادية OECO الذي عقد في باريس في آذار 1996 تم الربط بين جودة وفعالية وأسلوب إدارة شئون الدولة والمجتمع ودرجة رخاء المجتمع، والتأكيد على أن المفهوم يذهب إلى أبعد من الإدارة الحكومية؛ ليتضمن إشكاليات تطبيق الديمقراطية لمساعدة الدول في حل المشاكل التي تواجهها.
ومن هذا المنطلق تم تعريف مفهوم “إدارة شئون الدولة والمجتمع” على أنه يتعرض لما هو أبعد من الإدارة العامة والأدوات والعلاقات والأساليب المتعلقة بها ليشمل مجموعة العلاقات بين الحكومات والمواطنين؛ سواء كأفراد أو كأعضاء في مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية وركز على أن الحقل الدلالي للمفهوم لا ينصب فقط على فعالية المؤسسات المتعلقة بإدارة شئون الدولة والمجتمع، ولكن يركز أيضًا على القيم التي تحتويها تلك المؤسسات مثل المساءلة والرقابة والنزاهة.
ولقد تطور المفهوم؛ ليصبح مؤشرًا لحقل دراسي محدد يشمل كل الأنشطة المرتبطة بالحكم وعلاقة الحكومة بالقطاع الخاص وبالمجتمع المدني، وإن كان المفهوم في حد ذاته أشمل من مفهوم الحكم بالمعنى المؤسسي (البنائي/الوظيفي) المعروف، وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كان ظهور المفهوم حتمية فرضتها ظروف واقعية وعملية مثل تغير دور الدولة، وتنامي أثر السوق الرأسمالي في خريطة القوة في المجتمع والنخبة وأيضا إذا ما كان صعوده انعكاسا لتغيرات على المستوى النظري تمثل غلبة لمدرسة فكرية أو اقتراب معين؛ أي أن ظهور المفهوم ما هو إلا انعكاس للتغير الجاري في طبيعة ودور الحكومة، وأبرزها:
1 – . ظهور العديد من المتغيرات التي جعلت من النظرة التقليدية للدولة فاعلا رئيسيا في صنع السياسات العامة موضع مراجعة؛ فالمتتبع للاتجاهات الحديثة في صنع وتنفيذ السياسات العامة يلاحظ ازدياد أهمية البيئة الدولية أو العامل الخارجي في عملية صنع السياسات. فلقد أصبح للمؤسسات والمنظمات الدولية ومؤتمرات الأمم المتحدة دور كبير، ليس فقط في المبادرة بطرح قضايا السياسات العامة، ولكن أيضًا في وضعها على قائمة أولويات الحكومات. ولقد بدا واضحًا في ظل العولمة وثورة الاتصالات ضعف قدرة الدولة على مقاومة الضغوط الدولية، وانخفاض قدرتها على ممارسة وظائفها التقليدية على النحو المعروف دون أن تتأثر بالمؤثرات الخارجية.
2 – التغير الذي طرأ على دور الدولة؛ فقد تحولت من فاعل رئيسي ومركزي في تخطيط وصنع السياسات العامة، وممثل للمجتمع في تقرير هذه السياسات وتنفيذها، ووسيط بين الفئات والطبقات في حل المنازعات بل ومالكة للمشروعات ومسئولة عن حسن إدارتها، وعن إعادة توزيع الدخل وتقديم الخدمات وعدالة توزيعها مكانيا وبين الفئات الاجتماعية؛ لتصبح اليوم الشريك الأول ولكن بين شركاء عدة- في إدارة شئون الدولة والمجتمع، ولا شك أن هذا التحول قد بدا مع تنامي التضخم الاقتصادي الذي كان من أسبابه الرئيسة تنامي أعباء وتكلفة دولة الرفاه وعبئها على دافعي الضرائب من العاملين من أبناء الطبقة الوسطي والعاملة، بعد أن تغيرت طبيعة الهرم العمري للسكان، وزادت نسبة من يتقاضون معاشات، وانخفضت نسبة المشاركين في العمل كما برزت في نفس الوقت أزمة النموذج السوفيتي للدولة الاشتراكية، بما أدى إلى إعادة النظر في دور التخطيط المركزي كأداة للتعبئة والتخصيص، والاتجاه لتراجع الدولة عن أدوار الضمان الاجتماعي، وتسليمها للمجتمع المدني والأهلي، فضلا عن تعثر محاولات التنمية بالاعتماد على القطاع العام
3 – تنامي دور الشركات العالمية والشركات متعددة الجنسيات في التأثير على صنع السياسات العامة، والحاجة إلى إعادة النظر في علاقة الحكومات الوطنية بالقطاع الخاص ودور مؤسسات العمل المدني حيث أصبح للفاعلين المجتمعين (القطاع الخاص والمجتمع المدني) دور أكبر في التأثير على السياسات العامة والإدارة، وتطبيق السياسات على نحو لم يكن متصورًا من قبل؛ مما أثار الجدل بشأن حدود ومستويات الشراكة بين الحكومات والقطاع الخاص والقطاع الأهلي، وبروز مصطلح “إدارة شئون الدولة والمجتمع” ليحل محل مصطلح “الإدارة العامة” لوصف سبل وصيغ الإدارة السياسية والاقتصادية لتحقيق التنمية المستدامة.
4 – تحولات أسلوب الإدارة العامة التقليدي مثل احترام الأقدمية، والتدرج الوظيفي، وظهور مجموعة أخرى من القيم تحل محلها مثل التمكين والتركيز على النتائج، وإعطاء فرصة كبرى للمسئولية الفردية من خلال هيكل إداري متكامل، والاتجاه للتركيز على معيار الإنجاز والتعلم المستمر، وتطوير المهارات بشكل متنوع خاصة التقنية والالكترونية ولقد ساعد على هذا التحول انتشار المشكلات الاقتصادية والإسراف المالي الذي ساد تصرفات العديد من البيروقراطيات الرسمية والحكومات؛ الأمر الذي دفع العديد من الدارسين لمحاولة إيجاد حلول لهذه المشكلة
ثانيًا: إشكاليات المفهوم
على رغم من أن هذا المفهوم يعكس تحولات واقعية ونظرية، ويقدم حلولا لمشكلات على هذين المستويين فإنه أيضا له مشكلاته، ومنها:
1- -مشكلة الترجمة: فالعديد من المفاهيم قد لا يكون لها ترجمة حرفية باللغة العربية تعكس نفس المعنى أو الدلالات التي تعكسها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويعد مفهوم أسلوب إدارة شئون الدولة والمجتمع مثالا حيا على هذه المسألة. فالمفهوم باللغة الإنجليزية هو Governance الذي لوحظ عند ترجمته إلى اللغة العربية وجود أكثر من ترجمة لا تعكس بدقة دلالة المفهوم وخريطته والهدف المقصود منه؛ فعلى سبيل المثال هناك ثلاث ترجمات للمفهوم حتى الآن، وهي: الحكم أو أسلوب الحكم، والحاكمية، وإدارة شئون الدولة والمجتمع وبينما تبنت الأمم المتحدة مفهوم الحاكمية تعبيرا عن Governance فإنه يمكن القول: إن هذه الترجمة لا تتفق والمقصود بها في اللغة العربية حيث يعكس مصطلح الحاكمية الإطار المرجعي الكلي أو مصدر ومرجع المسلمات المعرفية والفلسفية لسياسة أو توجه ما، ومن ثم فإننا لا نتصور أن أي شخص عندما يذكر أمامه مصطلح “الحاكمية” سوف يتعرف على المعنى المراد في مصطلح الـ Governance باعتباره سيتحدث عن الدولة والمجتمع والفاعلين الأساسيين بالدلالة سالفة البيان، وبالإضافة إلى ذلك فإن مصطلح “الحاكمية” في حد ذاته يحمل صبغة دينية وتاريخية قد تجعل القارئ أو المستمع يتوقع الحديث عن التصور الإسلامي للحكم والدولة، أو نشأة وتفعيل المفهوم في فترة تاريخية معينة.
أما أنصار استخدام كلمة الحكم مثل باحثي مشروع مصر 2020 الذي ينفذه منتدى العالم الثالث؛ فعلى الرغم من إدراكهم أن مصطلح الحكم لا يعبر بطريقة جيدة عن المفهوم حيث تركز الترجمة على جانب الحكم والدولة وتغفل الجانب المجتمعي والبعد الاقتصادي فإنهم يرون أنه من الأفضل استخدام كلمة عربية واحدة تعبر عن المصطلح موضع البحث بدلا من استخدام عبارة كاملة للتعبير عنه وهناك محاولة تبناها أكثر من مركز بحثي، منها مركز دراسات واستشارات الإدارة العامة بجامعة القاهرة، من خلال ترجمة مصطلح Governance إلى مصطلح “إدارة شئون الدولة والمجتمع”، كما تتبناه هذه الدراسة؛ لأنه يعكس في محتواه المعنى الأساسي للكلمة التي تدل على العلاقة بين طرفي المعادلة، وهما الدولة من جانب، والمجتمع من جانب آخر
2- مشكلة التعريف: هناك أكثر من تعريف للمفهوم، ويثير تعدد هذه التعريفات الجدل حول طبيعة ومحتوى هذا المفهوم على النحو الذي دفع بعض الباحثين إلى القول بأن الحديث عن المفهوم هو مثل الحديث عن مفهوم الدين؛ حيث المعتقدات قوية للغاية، ولكن الأدلة والبراهين القابلة للقياس معقدة ومركبة، كما أن التعريف تقابله المشاكل التي تقابل التعريفات في العلوم الاجتماعية عامة التي تتمثل في تقديم تعريف بسيط وواضح وشامل لعناصر الظاهرة ويمكن تعميمه على كافة المجتمعات؛ حيث كثيرًا ما يضطر الباحث للتضحية بوضوح المعنى في التعريف رغبة في الشمول وإدراج كافة عناصر الظاهرة، أو أن يتم تبسيط التعريف بطريقة تخل بالمعنى وتعوق الباحث عن الرؤية المتعمقة للمفهوم، أو أن يعكس التعريف خصوصية مجتمعات بعينها بحيث تنتقي صفة العمومية والعالمية من التعريف؛ الأمر الذي يضعف من قوته كتعريف علمي، وسوف تتجسد هذه المشكلات عند تعرضنا للتعريفات المختلفة للمفهو فعلى سبيل المثال قدم البنك الدولي أول تعريف للمفهوم، حين تم تعريفه بأنه “أسلوب ممارسة القوة في إدارة الموارد الاقتصادية الاجتماعية للبلاد من أجل التنمية ونلاحظ أن التعريف ينظر إلى المفهوم على أنه أسلوب أو طريقة للممارسة القوة في إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية، وهو في هذه الجزئية يكاد يقترب من تعريف David Easton الشهير لعلم السياسة؛ باعتباره “التوزيع السلطوي للقيم”؛ حيث اشتمل كلا التعريفين على ممارسة السلطة أو القوة في توزيع القيم، وبينما استخدم إيستون “السلطة” في تعريفه حرص تعريف البنك الدولي على استخدام كلمة “القوة” التي تشمل السلطة والنفوذ معا وتعبر أيضًا عن الأساليب الرسمية وغير الرسمية في الإدارة والحكم، وبالتالي تسمح بوجود أدوار لفاعلين رسميين وغير رسميين، إلا أن التعريف لم يذكر بوضوح من هم الفاعلون المشاركون في ممارسة القوة لإدارة الموارد من أجل التنمية، وإن كانت كتابات البنك الدولي والأدبيات التي تتناول المفهوم تتحدث عن فاعلين محددين، هم: الحكومة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص وتؤكد أدبيات البنك الدولي على أن جودة أو نوعية إدارة الدولة والمجتمع محدد هام للتنمية الاقتصادية العادلة والقابلة للاستمرار، وهي أيضًا مكون رئيسي في أي سياسات اقتصادية ناجحة، إلا أن القارئ لهذه الأدبيات لا بد أن يتساءل عن كيفية قياس الأسلوب الجيد أو جودة نوعية إدارة شئون الدولة والمجتمع.
ونلاحظ هنا أنه عادة ما تشير الأدبيات إلى قائمة من المؤشرات، تشمل: الديمقراطية، والاستقرار، واحترام حقوق الإنسان، ووجود جهاز خدمة مدنية قوي وكفء، والشرعية، والتعددية المؤسسية والمشاركة، والشفافية ومكافحة الفساد والرقابة وسيادة القانون، وتؤخذ هذه المؤشرات كتعبير عن الأسلوب الجيد لإدارة الدولة والمجتمع
إلا أن هناك من يرى أن هذه المؤشرات واضحة من الناحية النظرية، ولكنها متداخلة من الناحية العلمية؛ فهناك أمثلة على حكومات فعالة ولكن غير ديمقراطية، أو ديمقراطية وفاسدة، أو ديمقراطية ولا تهتم بحقوق الإنسان الاهتمام الكافي. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن المفهوم يتناول بالشرح أنماطًا مثالية العناصر في إدارة الدولة والمجتمع، ولا يسمح بالتعريف على النماذج الواقعية التي هي مزيج من العناصر الجيدة والسيئة معًا.
أما البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP فيعرف المفهوم بأنه: ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شئون الدولة على كافة المستويات، من خلال آليات وعمليات ومؤسسات تتيح للأفراد والجماعات تحقيق مصالحها،ومن ثم فإن هذا المفهوم كما عرفه البرنامج يقوم على ثلاثة دعائم أساسية على النحو التالي:
– الدعامة الاقتصادية: وتتضمن عمليات صنع القرارات التي تؤثر على أنشطة الدولة الاقتصادية وعلاقاتها بالاقتصاديات الأخرى.
– الدعامة السياسية: وتتضمن عمليات صنع القرارات المتعلقة بصياغة وتكوين السياسات:
– الدعامة الإدارية: وتتضمن النظام الخاص بتنفيذ هذه السياسات.
ومنذ ظهور تعريف البنك الدولي لم تتوقف الأدبيات عن محاولة تحسين أو تجويد التعريف حتى يصبح أكثر شمولا وأكثر تحديدًا، ولابد من توفر العناصر التاليةلضمان النتئج الصحيحة:
– التنسيق بين التنظيمات الحكومية وتنظيمات قطاع الأعمال الخاص والعام والمنظمات غير الحكومية.
– عدم ثبات ووضوح الحدود بين أنشطة مختلفة التنظيمات.
– استناد قواعد التعامل بين مختلف التنظيمات إلى التفاوض.
– تمتع مختلف الأعضاء في هذه الشبكة بدرجة عالية من الاستقلال.
– قدرة الدولة على توجيه باقي أعضاء الشبكة بما لها من موارد.
إلا أن هناك من يرى أن مفهوم “إدارة شئون الدولة والمجتمع” ليس بالمفهوم الجديد، ولكنه اسم جديد لمفاهيم قديمة ظهرت من قبل؛ فهو بمثابة منتج قديم وضع في قالب جديد، لكن يمكننا القول بأن المفهوم يحتوي على عناصر التجديد التي ظهرت نتيجة لظهور متغيرات عديدة سواء عملية أو علمية، مثل الحاجة للأخذ بما يعرف بالمنهج المتكامل في الدراسات والبحوث حيث أصبحت الظواهر العلمية شديدة التداخل والتعقيد؛ الأمر الذي يستلزم الأخذ بالمنهج المتكامل، سواء المبني على تعدد الحقول العلمية أو تضافر اقترابات البحث المختلفة داخل الحقل الواحد
يثير الحديث عن المفهوم، وخاصة عند التعرض لأسلوب إدارة شئون الدولة والمجتمع الجيد وغير الجيد كثيرًا من الجدل؛ حيث تتبادر إلى الذهن فكرة النموذج في أدبيات التنمية في الستينيات وكما تعرضت نظريات التنمية للنقد من داخل الجماعة العلمية لتبني بعض هذه النظريات فكرة وجود نموذج سياسي مثالي غربي بالأساس لا بد من الأخذ به بواسطة الدول النامية؛ حتى تلحق بركب التقدم والتنمية.. فإن مفهوم إدارة شئون الدولة والمجتمع يتعرض لمثل هذه الانتقادات عند الحديث عن أسلوب الإدارة والحكم الجيد؛ حيث يتبادر إلى الأذهان منظومة من القيم تعكس خبرة تاريخية غربية، ويصبح الحديث عن تطبيق الأسلوب الجيد للإدارة والحكم كأنه دعوة للأخذ بالنموذج الغربي.
وحتى نخرج من هذا الجدل يمكن أن ننظر إلى مجموعة القيم التي يقدمها هذا المفهوم من رقابة وشفافية وعلانية، هل هذه القيم تنطبق على كل المجتمعات أم أنها قاصرة على مجتمعات بعينها؟ وهل هذه القيم قابلة للتحقيق أو محققة بالفعل في بعض المجتمعات حاليًا؟ وذلك فصلا بين مضمونه وصياغته الأولى على يد منظمات دولية تتعرض للنقد من دول العالم الثالث.
ولكن في الحقيقة ان المشكلة ليست القيم في حد ذاتها، ولكن المشكلة تكمن في آليات تطبيقها، وهنا يمكن المزج بين عمومية القيم وخصوصية آليات تطبيقها لتتلاءم مع ظروف وطبيعة كل مجتمع أو ربما العكس: خصوصية “تأويل” القيم وعمومية الآليات في رأي آخرين.
وتقدم الأدبيات المتعلقة بأسلوب الحكم والإدارة الجيد العديد من الأمثلة لممارسات محلية جيدة تتمثل فيما يعرف بـافضل الطرق والآليات المستخدمة فيها لمكافحة الفساد والحد من انتشاره كما تحتوي على أدلة أو إرشادات للمواطنين عن الخطوات التي يجب أن يتخذوها لدعم أجهزة الرقابة وأساليب الشفافية والعلانية والمشاركة الفعالة في إدارة شئون مجتمعهم عبر “الحضور” الدائم اليومي في متابعة السياسات والتعبير عن مصالحهم وفي النهاية يمكن القول: إن المفاهيم النظرية بمثابة العدسات التي تقوي النظر إذا لم تساعد الباحث على فهم الظاهرة بطريقة أوضح، والتعامل معها بكفاءة وفعالية؛ فحينئذ لا تكون نافعة، وهذا في التحليل الأخير معيار تقويمها.