ديفيد غريفيث.. طور صناعة السينما ووضع لها قواعد وتقنيات ملهمة

ديفيد غريفيث.. طور صناعة السينما ووضع لها قواعد وتقنيات ملهمة

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“ديفيد وارك غريفيث” مخرج سينمائي أمريكي، يعد من أبرز المخرجين في تاريخ السينما ورائد من رواد السينما الحديثة، ساهم في تطوير مجالات التصوير سينمائي والإخراج والمونتاج.

حياته..

ولد “دايفيد وارك غريفيث” في عام 1875، حارب أبوه من أجل الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية، وهو ابن أسرة فقيرة، عمل ساعيا وموظف خزينة ومشرفا على مسرح، ثم عضوا في فرقة في 1897، ثم ممثلا مسرحيا بالقطعة لمدة 10 سنوات حتى عام 1907 الذي كان شهد دخوله إلى عالم السينما ممثلا ، ثم قام بتأليف بعض السيناريوهات وبيعها ل شركة “بيوجراف” الأمريكية التي أعجبت بأعماله فقامت بإسناد مهمة الإخراج له في أول أفلامه “مغامرات دوللي” في عام 1908.

إذن فقد بدأ العمل في مجال السينما 1908، وقدم عدد كبير من الأفلام القصيرة، التي تتراوح مدتها من 15 إلى 18 دقيقة. وصل عدد الأفلام القصيرة التي قدمها حتى 1913 حوالي 450 فيلما قصيرا. وهو أول من استخدم أسلوب التقريب وأسلوب الاسترجاع الفني والتشويق وتحريك الكاميرا. كما كان صاحب فكرة اللقطات المتقاطعة أو المونتاج المتوازي. أسس في 1919 مع “شارلي شابلن” وآخرين أستوديو مجموعة الفنانون. وهو أحد مؤسسي أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة.

الأفلام القصيرة..

إخراجه لمئات الأفلام القصيرة ساهم في تطوير فهمه للسينما، كان الفيلم الواحد لا يتجاوز طوله عشر دقائق، وكان كثير من الأفلام  مجرد أعمال نمطية ومكررة، لكنها رغم ذلك كانت متفوقة على مستوى التقنية مقارنة بكل ما قدمته السينما الأمريكية من قبل تلك الأفلام. بدأ “غريفيث” يقدر الوسيلة الجديدة ،الفيلم السينمائي، ويعمل على تطوير أساليب صناعة السينما كما لم يسبق تطويرها من قبل، لا يعتبر “غريفيث” مخترع التكنيك الفيلمي الجديد بقدر ما يعد الرجل الذي طور الأساليب الفنية الجديدة وصقلها وعرضها بجمال وقوة.

لم يكن هناك مهنة اسمها المخرج قبل ظهور “غريفيث” في الواقع. لقد كان الذي يصنع الفيلم عادة هو المصور، وكان يصور كل شيء. وكان هو الذي يعطي التوجيهات،. في الحقيقة لم يكن المصور أكثر من رجل مرور، فقد كان يقف في مكان معين ثم يأمر الناس بعمل ما يطلبه منهم أو يأمرهم بالتوقف عن العمل والحركة، أو أن يمشوا إلى اليمين أو يتجهوا إلى اليسار وكان يصور كل شيء. كانت هذه العملية عملية ميكانيكية مجردة من أي فكرة أو فن سينمائي.

المونتاج..

كان التطور الذي أحدثه “غريفيث” هو تحرير اللقطات وترتيبها أو ما يعرف بالمونتاج، فقد أدخل “غريفيث” المونتاج لأول مرة في فيلم “بعد عدة سنوات” الذي أخرجه عام 1908، وقال عنه “سيرجي ايزنشتاين” أحد أعظم المخرجين والنقاد الذين مروا على السينما: “إن المونتاج سيظل ظهوره إلى الأبد مرتبطا باسم غريفيث”، وفي مذكراتها قالت زوجة “غريفيث”عن فيلم “بعد عدة سنوات”: “كان أول فيلم بلا مطاردة، وكان ذلك حدثاً، ففي تلك الأيام فيلم بلا مطاردة لم يكن فيلماً. كيف يمكن عمل فيلم ليس به مطاردة ؟! كيف سيأتي التشويق أو توجد الحركة؟ هذا الفيلم كان أول فيلم بلقطات درامية قريبة، أول فيلم به قطع استرجاعي Flashback. عندما اقترح غريفيث مشهد “أني لي” وهي تنتظر عودة زوجها يعقبه مشهد “اينوك” وهو ملقى بجزيرة مهجورة، شعر الجميع بالتشتت، كيف ستحكي القصة بهذه القفزات؟ الجمهور لن يعرف ما الموضوع! رد عليهم غريفيث: “حسناً، ألا يكتب ديكنز بهذه الطريقة؟؟”، قالوا “بلى، ولكن هذه رواية مكتوبة الأمر يختلف”، فقال غريفيث “ليس مختلفاً كثيراً، فهذه هي الأخرى قصص ولكن مصورة والأمر لا يختلف كثيراً”.

في 1909 استخدم “غريفيث” أسلوب “النجدة في آخر لحظة” والذي أصبح فيما بعد أسلوبا مشهوراً، مثال عليه، إذا كانت هناك قنبلة تنفجر بمؤقت بعد 10 دقائق، يأتي البطل ويبطل مفعول القنبلة في آخر ثانية تماماً. أو مثلاً: البطلة مربوطة على سكة الحديد والقطار قادم نحوها في سرعة، يأتي البطل وينقذ البطلة في آخر لحظة. هذا هو ما يعرف بأسلوب “غريفيث” في الإنقاذ. وقد ظهر هذا الأسلوب ولأول مرة في فيلم “غريفيث” الصامت القصير The Lonedale Operator عام 1911، حيث وظف القطع المتداخل (المونتاج المتوازي) بين حدثين متوازيين (أي أنهما يحدثان بنفس الوقت) بغرض التشويق والتأثير الدرامي.

في أفلام لاحقة طور هذا الأسلوب بزيادة التشويق والإثارة، عن طريق الإيقاع المتسارع للتقطيع من لقطة إلى أخرى، مثلا: البطلة محاصرة بالنيران في أحد المباني والبطل قادم لمساعدتها، لقطة للبطلة ثم لقطة للبطل ثم يرجع للبطلة ثم للبطل وهكذا في تسارع وتشويق يحبس الأنفاس.

حركة الكاميرا..

بالنسبة للكاميرا وحركتها، كان “غريفيث” أول من حرك الكاميرا من مكانها، فقد كانت الكاميرا قبل “غريفيث” ثابتة لا تتحرك، وكان الممثلون يأتون أمام الكاميرا ليمثلوا أمامها ثم يبتعدون إذا انتهت أدوارهم وهكذا، وكان أفضل ما توصل إليه المخرجون قبل “غريفيث” في أمر حركة الكاميرا أن توضع الكاميرا على ظهر حصان مثلا لتصور فارسا على حصانه أمامها، أو أن توضع في سيارة متحركة، أي أن الكاميرا لم تكن تتحرك فعلياً.

وبالنسبة للإضاءة، استخدم “غريفيث” أساليب مختلفة فيها، فكان مثلاً يسلط الكاميرا مباشرة على الشمس للحصول على لقطة لمشهد رومانسي آخذ في التلاشي تدريجياً، وقد يعمد إلى جمع العشاق حول موقد للنار حتى تنعكس ومضات رومانتيكية منها على وجوههم. كانت هذه الأساليب كلها نوعا من الإضاءة التي لم تكن شائعة في ذلك الحين.

شرح الأفلام..

لم يكن “غريفيث” يستعمل الكتابة الجانبية أو المواد العارضة لوصف أحداث الفيلم، حيث كانت هذه الطريقة شائعة أيام السينما الصامتة، حيث تظهر لوحة مكتوب عليها ما لا يستطيع المخرج قوله بصريا، لكن “غريفيث” لم يستخدم تلك الطريقة، ولم يحتاجها وهو ملم بما يعرف بـ “لغة الفيلم”، الذي كان هو مخترعها الأول في الأساس.

كما لم تكن الأفلام قبل “غريفيث” تقوم بتعريف الشخصيات قبل أحداث الفيلم الرئيسي، لم يكن المشاهد يعرف شيئاً عن شخصيات الفيلم الذي يشاهده، لكن “غريفيث” كانت لديه وسيلة لتصويرالشخصيات بطريقة تجعل المشاهد يعرف على الفور ما نوع هؤلاء الناس؟ وبأي شيء يشعرون؟ وما إذا كانوا طيبين أم أشرار. مثلاً كان كل ممثل من كبار الممثلين في فيلم “مولد أمة” يظهر في الفيلم مع حيوان، وكان البطل الجنتلمان يظهر في الفيلم وهو يداعب كلبا أو قطة تعبيرا عن لطفه، وكان الممثل الشرير يصور وهو يضرب كلبا لتأكيد شراسته. قد لا يكون هذا المشهد مناسبا اليوم في السينما ولكنه كان أسلوباً يعرف المشاهدين على الفور بأنواع الناس الذين يشاهدونهم. وأصبحوا يهتمون لأمرهم ولما يحدث لهم.

كان “غريفيث” أول من اهتم بالمضمون، وحاول أن يطور منه في الأفلام القصيرة التي أخرجها، ومنها موضوعات اجتماعية ينتقد فيها الظلم في السياسة أو في المحاكم، كما اقتبس بعض أعمال ديكنز وتولستوي وتشارلز كنسجلي. وكان يقول دائماً “فيلم بدون رسالة، هو مضيعة للوقت فقط” .

في 1915 قام “غريفيث” بتوظيف جميع ما يملك من مهارات لإخراج فيلم “مولد أمة” الذي وصف بأنه أول فيلم درامي أمريكي طويل، كان فيلما ضخما بمقاييس العقد الثاني من القرن العشرين، فقد كلف 110 ألف دولار واستخدم “غريفيث” آلاف الكومبارس حتى أنه اضطر أن يصور هذه الجموع بكاميرا مثبتة على منطاد طائر، أخذ الفيلم عن رواية حول الحرب الأهلية الأمريكية اسمها “ابن العشيرة” للقس “توماس ديكسون”، هذا الفيلم نجح نجاحا فنيا وتجاريا كبيرين وظل يعرض لمدة 5 أشهر. قبله لم يعترف أحدا بفضل “غريفيث” على صناعة السينما، كما أنه لم يحدث أن اكتسب نجم من النجوم أو ممثل من شهرة أو اعترف أحد بفضله، لكن بعد هذا الفيلم أصبح “غريفيث” سيد المهنة بلا منازع.

الفيلم الصامت “مولد أمة” هو أشهر أفلامه 1915. حيث استخدم تقنيات متقدمة وأسلوبا روائيا جديدا في تصوير الفيلم. وقد ساهم نجاح الفيلم في سيطرة الأفلام الطويلة في أمريكا. قدم فيلمه المعروف الملحمي “تعصب” في1916  وكان ذو إنتاج الضخم، واعتبر من أهم الأفلام السينمائية عموما.

فيلمه “زهور مكسورة” 1919 . فيلم درامي مقتبس عن قصة قصيرة إنجليزية، يحكي قصة فتاة يعتدي عليها والدها المقامر السكير ويحكي قصة حبها مع رجل صيني لطيف. وفيلمه “أقصى الشرق” 1920، فيلم رومانسي مقتبس عن مسرحية فرنسية بنفس الاسم من القرن التاسع عشر.

وفيلم “أيتام العاصفة”1921. فيلم درامي تجري أحداثه في القرن الثامن عشر أيام الثورة الفرنسية. وكان آخر أفلام “غريفيث” الناجحة تجاريا.ثم فيلم “أمريكا” 1924وهو فيلم رومانسي تجري أحداثه أثناء حرب الاستقلال الأمريكية.

النهاية..

مع ثورة الصوت والفيلم الناطق في عام 1927 وبحث هوليوود عن الجديد، كان مستقبل “غريفيث” يتداعى بالتدريج، وزاد من ذلك المتاعب التي سببها إدمانه للكحول في تلك الفترة، وبالرغم من ذلك فقد أخرج عدة أفلام أثبتت أنه مايزال في مستواه المعهود. ثم تقاعد “غريفيث” بعد عام 1931 حتى مات عام 1948 في لوس أنجلس. في 1935 أعطي “ديفيد وارك غريفيث” الذي وصف بأنه “أبو السينما الأمريكية” و”شكسبير الشاشة” و”مخترع هوليوود” جائزة تشريفية خاصة من الأكاديمية الأمريكية للفنون (الأوسكار). وفي 1975 أصدرت خدمة البريد الأمريكيّة طابع بريدي يحمل صورة “غريفيث”.

قيل عنه..

قال عنه “ألفريد هيتشكوك”: “إنك كلما تشاهد فيلماً اليوم، لا بد أن تجد فيه شيئا يبدأ بغريفيث”.

وقال “ويليم ايفرسون”: “إنه مثل الإنجيل، أعني أنه إنجيل صناعة الأفلام. إن كل مخرج عظيم حتى حوالي عام 1925 إما عمل مع غريفيث أو تعلم منه الكثير. فبدونه ما كان يمكن أن نشاهد الأفلام التي نعرفها اليوم، أو أن نضجها كان يمكن أن يتأخر سنين طويلة. لو لم يكن غريفيث قد دخل حقل صناعة السينما، لكان يمكن أن يصبح الفيلم نوعاً بديلاً للمسرح، مع أنواع مختلفة من المسارح وتابلوهات طويلة”.

وقال “سيرجي ايزنشتاين”: “إني أود أن أستحضر ما قدمه لنا ديفيد وارك غريفيث، نحن مخرجي الأفلام السوفييت الشباب في العشرينات. إني أقول ببساطة وبدون لف أو دوران إن ما قدمه غريفيث لنا كان إلهاماً”.

وقال “ايريك فون سترويهام”: “لقد وضع غريفيث الجمال والشعر في وسيلة تسلية مبهرة في متناول الجميع”.

وقال “ديفيد روبنسون”: “إن إنجازه يصعب أن يوجد له مثيل في تاريخ الفن، فقد استطاع أن يجعل من وسيلة تسلية شعبية ميكانيكية فناً قائماً بذاته، وضع له أشكاله وقوانينه التي ستبقى في مجملها قائمة بدون حاجة لتعديل أو تبديل لخمسين عاما تالية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة