18 ديسمبر، 2024 10:50 م

وقفة في كتاب عمرو موسى

وقفة في كتاب عمرو موسى

صدر لأمين العام للجامعة العربية السابق عمرو موسى كتابه ” سنوات الجامعة العربية ”الصادر عن دار الشروق بالقاهرة وحرره الصحفي خالد أبو بكر . ما يهمني في تلك المذكرات ورغبة تسليط الضوء عليها هو الملف العراقي أبان أحتلاله ٢٠٠٩ ، وعندما كان عمرو موسى أميناً عاماً للجامعة العربية من ٢٠٠١ حتى ٢٠١١ ، وقد تضمن الكتاب في طبعته الثانية ٦٣ صفحة حول الوضع في العراق ومعركة الهوية العربية كما يصفها ، والذي يذكر فيها جسامة الخوض لمعركة الدفاع عن عروبة العراق والهوية العربية للعراق في سن الدستور العراقي الجديد من قبل هيئة مشكلة من مجلس الحكم الأنتقالي بعد إحتلال العراق والتداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب .

يستذكر عمرو موسى في كتابه ” جاءت ليلة ١٩/٢٠ أذار ٢٠٠٣ ، حيث تجرعت شخصياً نفس تلك المرارة التي تجرعتها بعد هزيمة سنة ١٩٦٧ ، إذ بدأ غزو العراق لكن ماذا عساي أن أفعل أكثر مما فعلت لوقف تلك الحرب الجهنمية التي تدخل بلداً عربياً رئيسياً الى المجهول ، في ظل تشرذم عربي ، يكبح أي قدرة على الفعل ؟.

العراق يعد من مؤسسي الجامعة العربية وعضو فعال ومهم بها وبقراراتها المصيرية ذات الشأن العربي ، وأن طمس الهوية العربية للعراق على ضوء مسودة الدستور الجديد للعراق أعتبرها عمرو موسى سابقة خطيرة بأتجاه مسح هوية العراق العربية وتداعياتها على مستقبله ومستقبل جيرانه .

ولقد ذكر في كتابه ” حدث في صباح 29 آب 2005 أنني كنت أستمع لإذاعة BBC في طريقي من بيتي إلى مقر الأمانة العامة للجامعة العربية. وإذ بتقرير يتناول المساجلات الدائرة بشأن الدستور العراقي. وركز التقرير على مادة مرتبطة بهوية العراق جاء نصها كالتالي: “الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية”، بحجة أن الشعب الكردي هو جزء من الأمة الكردية المقسمة في الشرق الأوسط، فإذا قلنا إن كل الشعب العراقي هو جزء من الأمة العربية، فنلغي بذلك وجود الشعب الكردي، كما كان يردد الرئيس العراقي جلال طالباني في تلك الأثناء.

هنا يبرز عمرو موسى الدور الكردي في التأكيد على مضامين الهوية العربية في صيغة الدستور الجديد والذي يعتبرها معركة تخوضها الجامعة العربية بشخصة من أجل عروبة العراق ، يبذل تحركاً نشيطاً على كافة المستويات أعلامياً وأتصالات عبر عدة قنوات ما أجل تضمين الدستور العراقي الجديد في التأكيد على الأنتماء العربي لهوية العراق .

ويقول في معرض حديثه في كتابه ” على الفور طلبت إذاعة BBC تليفونياً. قلت للمسؤولين فيها: إن لدي تعقيباً على موضوع الدستور العراقي. فأدخلوني على الهواء مباشرة. صرحت بأن موضوع طمس الهوية العربية للعراق مسألة لا يمكن قبولها، وأن الجامعة العربية سوف تظل على اتصالاتها مع المسؤولين العراقيين لتعديل ذلك النص المعيب الذي لا يجعل العراق بكامله دولة عربية وجزء من العالم العربي.

في ذات اليوم اتصل بي هوشيار زيباري، وزير خارجية العراق وصديقي العزيز. سألني بنبرة هادئة: إيه اللي مزعلك يا سيادة الأمين العام في موضوع الدستور؟

قلت: اسمع يا هوشيار.. النص الخاص بهوية العراق في مشروع الدستور “موش مريحني” لا يمكن أن يمر بهذه الصيغة. أنتم تقولون الشعب العربي فقط في العراق جزء من الأمة العربية. وأنا هنا أسألك: هل أنت مندوب العراق في الجامعة العربية أم مندوب الشعب العربي في العراق وأنت كردي؟

قال: مندوب العراق كله.

قلت إذن لابد من تعديل هذه المادة.

قال الرجل وهو ما يزال يحتفظ بهدوئه ورغبته في التوصل لصيغة مرضية للجامعة العربية: طيب شوف يا سيادة الأمين العام الصياغة التي تراها مناسبة ونتناقش فيها مع بقية الأطراف في العراق.

قلت له: سأكتب نصاً وأتصل بك في وقت لاحق من اليوم.

بعد أن أنهيت اتصالي بهوشيار بوقت قصير اتصل بي برهم صالح (الرئيس برهم صالح رئيس الجمهورية العراقية حالياً)، وكان وقتها نائباً لرئيس الوزراء، وهو شخصية رصينة وصديق عزيز، وهو أيضا كردي من حزب جلال طلباني (الاتحاد الوطني الكردستاني)- أما زيباري فمن حزب مسعود برزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني)- قال لي سمعنا أنك غاضب من مشروع الدستور العراقي، ونحن حريصون على إرضائك وإرضاء الجامعة العربية.

قلت: شوف يا برهم.. لا يمكن قبول الصيغة التي تتحدث عن أن الشعب العربي في العراق هو فقط الذي يشكل جزءاً من الأمة العربية. هذا معناه قطع الصلة بين العراق باعتباره دولة عربية مهمة منذ إنشائه وبين عالمه العربي، ومعناه أيضا تقسيم العراق.. ودعني أسألك: أليس هوشيار زيباري هو وزير خارجية العراق ومندوبه في الجامعة العربية؟ بصرف النظر عن هويته الكردية؟

قال: لا توجد له صفة أخرى.. هو ممثل الدولة العراقية.

قلت: إذن يجب إعادة النظر فى تلك الصيغة السيئة.

قال برهم: وما هي الصيغة التي تقترحها؟ .

ولم يتوانى موسى في الوقت من أجل إيجاد صيغة تليق بموقع العراق العربي ودوره المميز . وكما ورد في هذا النص ….

كنت بالفعل قد جهزت صياغة حرصت على أن تضمن بشكل قاطع التأكيد على الهوية العربية للعراق بكامله، وفي نفس الوقت لا تغضب بقية القوميات غير العربية؛ فاقترحت النص التالي: “العراق عضوٌ مؤسسٌ في جامعة الدول العربية وملتزمٌ بميثاقها وتنفيذ قرارتها”، ومن وجهة نظري معنى أن ينص الدستور على أن العراق عضواً مؤسساً في الجامعة العربية وملتزم بميثاقها وقراراتها أنه بلد عربي.

في تمام الرابعة من عصر ذات اليوم تلقيت اتصالاً هاتفياً من زلماي خليل زاد السفير الأميركي في العراق، وهو صديق من أيام عملي مندوباً دائماً لمصر في الأمم المتحدة (1990- 1991)، كان قد تم تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في حزيران 2005 وهو مسلم سني من أصل أفغاني. قبل أن يتحدث قلت له: هل أنتم (الأميركان) من يقف وراء محاولة تغيير الهوية العربية للعراق في الدستور؟

قال: على الإطلاق.. لسنا طرفاً في هذا الأمر حتى ولو بالإيحاء من أطراف أخرى.

قلت: لقد دار بيني وبين هوشيار زيباري وبرهم صالح حديث طويل في هذا الأمر، واقترحت صيغة أتمسك بها بصفتي أميناً عاماً للجامعة العربية.

قال: أنا على علم بما دار بينكم، والصيغة التي اقترحتها أمامي. كل ما أطلبه منك هو أن تمنحنا فرصة لإنجاز الأمر دون تصعيد إعلامي، والأمور ستمضي إلى ما تريد.

قلت له: ماذا تقصد بالفرصة؟

قال: ساعتين أو ثلاث على الأكثر.

عدت إلى منزلي بعد الظهر، رحت أجوب في حديقة المنزل ذهاباً وإياباً عشرات المرّات في انتظار ما ستؤول إليه نتائج هذا اليوم العصيب الذي تتعرض فيه هوية بلد عربي مؤسس للجامعة العربية للذوبان. أكاد أجن كلما تصورت أن الدستور العراقي يمكن أن يصدر بصيغة تجعله بلداً غير عربي أو ناقص العروبة.

ثم دق التلفون بعد صلاة العصر. كان برهم صالح هو المتصل. قال لي: أولا أهنئك يا سيادة الأمين العام. لقد وافقنا على النص الذي اقترحته، وثانياً أرجو أن تتذكر أن الذي قام بجهد كبير لتمرير هذه الصيغة العربية وأبلغك بقرار تمريرها مسؤول كردي هو أنا.

وبعد خوض تلك المعركة والسجالات اليومية والنتائج التي توخت عن تلك الجهود ، قدم عمرو موسى شكره المتناهي الى القادة الكرد لدورهم في تغير بنود الدستور الجديد حول هوية العراق العربية .

 

وأود أن أسجل فى كتابي هذا شكري وتقديري العميقين للرئيس برهم صالح والوزير هوشيار زبيارى وطبعاً للرئيس طالباني (رحمه الله) والرئيس مسعود برزاني الذين لم يكونا بعيدين عن هذه الملحمة الدبلوماسية، وعن تسهيل التفاهم بشأن الصياغة الدستورية المتعلقة بهوية العراق، وكذلك للسفير زلماي خليل زادة لدوره في هذه المسألة .

التداعيات الخطيرة التي أفرزتها الحرب .

 

قالت كوندريزا رايس أبان غزو العراق :” لم نذهب الى العراق لننشر الديمقراطية ولم يدخل روزفلت الحرب ضد هتلر لتحويل ألمانيا الى بلد ديمقراطي .

الغزو الأمريكي للعراق وإحتلاله لقد جرى تعيين الجنرال الأمريكي “جي غارنر” بمثابة الحاكم العسكري لبلاد الرافدين، تحت مسمى إدارة “مكتب إعادة إعمار العراق” الذي تشكل قبل الغزو بثلاثة أسابيع واتخذ من الكويت مقراً له، بهدف إدارة العراق بعد الحرب. شغل غارنر منصبه اعتبارا من 9 نيسان إلى 12 أيار 2003، وكان مجهوده الرئيسي ينصب على استعادة عمل مرافق الدولة العراقية، التي تعرضت للسلب والنهب منذ دخول الأميركان، وقد فشل غارنر فشلاً ذريعاً وأعيد الى بلده .

بعد غارنر وفي اليوم التالي لعزله ، خلفه الدبلوماسي الأمريكي ، بول بريمر تحت مسمى “الحاكم المدني للعراق” الذي كان فشله أفدح ، لجهله المطبق بأوضاع العراق السياسية والعشائرية والأثنية. كان رجلاً جاهلاً، اعتمد على مستشارين من طائفة معينة ، وهذه الطائفة رغم أنها طائفة عربية محترمة، لكن كان ينتسب إليها بعض الرافضين للعروبة، ولديهم فهم طائفي ضيق للغاية، ومن هناء جاء قرار بريمر في 23 أيار 2003 – أي بعد تعيينه بأقل من أسبوعين – بحل القوات المسلحة العراقية، وكذلك الأجهزة الأمنية، ما جعل العراق بعد ذلك مفتوحاً على مصراعيه للتدخلات الخارجية، خصوصاً الإيرانية.

الحقيقة أن الغزو الأميركي للعراق أفرز تداعيات خطيرة لا تزال تتفاعل، وخلَّف وضعاً جديداً تطلَّب المتابعة المستمرة لتطوراته ومضاعفاته، وتحركاً متواصلاً من جانب الجامعة العربية في المجالات كافة، للمساعدة على تجاوز الأزمة التي خلفتها من مختلف جوانبها الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتعجيل باستعادة العراق لسيادته الوطنية والعمل على إنهاء الاحتلال الأجنبي، والأهم هو الحفاظ على الهوية العربية للعراق.

 

 

وفي 13 تموز 2003 تم الإعلان عن تشكيل “مجلس الحكم الانتقالي” في العراق تألَّف من 25 عضواً. وفى هذا الإطار أكد العديد من الدول العربية على أهمية أن يكون “مجلس الحكم الانتقالي” في العراق خطوة نحو استعادة السيادة العراقية وانتهاء الاحتلال، وبداية تحرك نحو تشكيل حكومة عراقية وطنية تُمثل مختلف أطياف المجتمع العراقي وتكون قادرة على تحقيق تطلعات الشعب العراقي، وأنها تُتابع عن كَثَب نشاطات وتطورات عمل المجلس والصلاحيات التي سيتمتع بها. ومرت سنين طويلة على تلك الاحداث ، والعراق يزداد الآمر به سوءاً وتعقيداً على كافة المستويات ، ولم تلوح للمتابع بارقة أمل ولو بعيدة عما ستؤول له الامور وكل التطورات تقودك الى نتيجة واحدة بإتجاه نفق مجهول .