من الثابت والمتَّبع والطبيعي في أية دولة من دول العالم التي تستحق أن توصف بأنها دولة، حتى تلك المحكومة بعساكر الجيوش، أو برجال الدين أو رؤساء القبائل، أن دساتيرها وقوانينها تحكم بالسجن أو بالإعدام على من يرتكب إحدى الجرائم المخلة بالشرف، وهي السرقة العادية، والتزوير، واختلاس أموال الدولة، والقتل العمد، والخيانة العظمى بالتخابر والتجسس لصالح دولةٍ أجنبية بدون إذن قانوني مشروع من حكومة الدولة.
إلا في دولة العراق الديمقراطي الجديد. فكل شيء مشروع ومباح. فلو دققنا في سجل أي واحد من أصحاب السلطة والثروة والسلاح، سواءٌ المشتركون، بالمحاصصة، في الحكومة والبرلمان، أو المتنفذون المستهزئون بالحكومة والبرلمان من قادة الأحزاب والتيارات والفصائل المسلحة، شيعةً وسنة، عرباً وكردا، ومعهم من يلفُّ لفَّهم من المقاولين والسماسرة المرتزقين من وجودهم، لوجدنا أن كلَّ واحد منهم، بصورة أو بأخرى، مرتكبٌ واحدة من الجرائم التي يعاقب عليها القانون. بل إن بعضهم ثابتٌ عليه ارتكابُه أكثرَ من جريمة أو خيانة عظمى، ومنها القتل الجماعي على الهوية والاختطاف والتعذيب والاعتقال دون تهمة، واختلاس أموال الدولة، أو اغتصاب أملاكها، أو إهدار الملايين والمليارات من دولاراتها على مشاريع وهمية، إضافةً إلى الولاء الكلي المُعلن وغير المستور لدولة أو لأكثر من دولة أجنبية معادية لوطنه وأهله، ثم بقيَ حراً مطلق السراح يُفرش لفخامته أو دولته أو معاليه السجادُ الأحمر، وتُعزف الموسيقى، وتُكبّر له الجماهير التي تحب خنّاقَها.
وحين يكون هؤلاء هم الحكومةَ والبرلمانَ والقضاء والجيش والشرطة والمالية والبنك المركزي فلن يكون غريبا ولا عجيبا أن يخرجوا بسيوفهم وخناجرهم وهراواتهم وكواتمهم ورصاصهم الحي لمعاقبة المتظاهر الجائع الذي يفقد صبره على جوعه وجوع صغاره، فيخرج هاتفا: أريد حقي.
والأكثر حزنا وعجباً وغرابة أنهم يستخدمون قوات الحكومة والشرطة والجيش التي يُنفق عليه المواطن نفسُه، وليس غيرُه، من رزقه ورزق عياله، لقتل أبنائه المتظاهرين، واغتيالهم، أو اختطافهم، لمنعهم من المطالبة بحقوقهم دون إذن منهم وترخيص.
وأمامكم ما يفعله الحكام بالمتظاهرين في المستعمرة الإيرانية، السليمانية، والمستعمرة التركية، أربيل.
لقد ظلوا سبع عشرة سنة يبيعون مواطنهم الطيب الصبور أحلاماً قومية براقة خادعة، ويوهمونه بأن شقاءَه وجوعه وبطالته من صنع حلفائهم الغدارين المتسلطين في بغداد. أما هم، وأما أولادهم وأبناء أعمامهم وأخوالهم الذين يسرقون وينهبون ويقتلون ويختطفون، وحدهم علنا ولا يخافون ولا يستحون، فبراء ولا دخل لهم فيها بشيء.
فمنذ عشرات السنين وهم يقتلون جنود بلادهم وضباطها، لحساب دول خارجية معادية لدولتهم، ويحرقون مؤسساتها، وينهبون خيراتها، ويُهربون مصانعها وجسورها وأموالها وأسرارها إلى دول الجوار، بحجة النضال من أجل التحرر من عبودية عرب العراق، ولاستعادة كرامة المواطن وأمنه وسيادة وطنه واستقلال قراره. حتى جاءت الأيام الحازمة فتأكد هذا المواطن، أخيرا، من أنه كان مستغفَلا ومخدوعا، ومن أن حكامه لم يكونوا قوميين مخلصين، بل كانوا تجار شعارات يستخدمون همومه وعقائده وأمانيه للحصول على المناصب والمكاسب والرواتب التي لا يمكن نوالُها في دولة واحدة قوية وعادلة تحاسب الانتهازي على انتهازيته، والغادر على غدره، والعميل على عمالته، أيا كان.
في العام 1991 أجرى تلفزيون دولة الكويت، بعد تحريرها، حوارا مع جلال الطالباني، في أعقاب انتفاضة آذار الشهيرة، وبعد أن فرضت الولايات المتحدة الأمريكية خطوطها الحمر لحماية شعب كردستان العراق من قوات صدام حسين، فسأله المذيع، لماذا لا تعلنون قيام الدولة الكردية الآن ما دامت الظروف مواتية.؟
فأجاب ضاحكا، “بمجرد أن ترفع حكومة بغداد يدها عن الاقليم فإن شعبنا الكردي سيثور علينا ويحرق مقرات أحزابنا”. ثم أضاف ” الدولة تحتاج إلى مقومات وأموال، ونحن لا نملك شيئا. نحن نضغط على حكومة المركز من أجل الحصول على أقصى ما نستطيع من امتيازات، وإذا ما توقفت المساعدات عن الإقليم سيعود المواطن الكردي الى الشورجة والباب الشرقي”.
وهذا ما حصل. فحين اُفرغت خزينة الحكومة في بغداد أفلست خزينة الإقليم.
والمهم هنا أن مُلّاك العمارات الشاهقة في أربيل والسليمانية ودبي ولبنان وبريطانيا وأمريكا، وأصحاب والمصارف المتخمة بالأموال المسروقة من النفط والمنافذ الحدودية وحصة الإقليم من ميزانية الدولة الاتحادية لم يتغيروا، فهم يواصلون خداعهم، ويحاولون إقناع المواطن الغاضب في السليمانية وفي غيرها بأن أصل مشاكله كلها هو امتناع حكومة بغداد عن دفع رواتب الموظفين في الإقليم.