1 نوفمبر، 2024 7:43 ص
Search
Close this search box.

الميتودولوجيا الماركسية وثقافة البراكسيس

الميتودولوجيا الماركسية وثقافة البراكسيس

غالبا”ما اقترن الفكر الماركسي بالطابع الإجرائي / العملي في مجمل القضايا التي اهتم بها والمسائل التي تصدى لها . ولعل ما كتبه (ماركس) في الموضوعة السابعة عن (فيورباخ) ما يؤكد هذا المنحى ويؤيد ذلك المسلك ، معتبرا”(( إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقية واقعية ليست مطلقا”قضية نظرية ، إنما هي قضية عملية ؛ ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة ، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا . والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة ))(1) . ولهذا فقد امتاز هذا الفكر بخاصية ميتودولوجية قوامها ؛ التحليل التاريخي الملموس لكل العلاقات والمعطيات (= البنى التحتية) ، والنقد الابستمولوجي المعقلن لكل النظريات والفكريات (= البنى الفوقية) . بمعنى إن كل ظاهرة اجتماعية وكل واقعة تاريخية وكل فاعلية إنسانية لابد – لكي يؤتي الاستقصاء عن طبيعتها أكله – أن يستدل على أصولها البنيوية (عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية) وخلفيات رمزية (عوامل ثقافية ونفسية وقيمية) . بحيث تأتي الاستنتاجات المصاغة عنها مقاربة – ولا نقول مطابقة – للواقع الذي تنبثق منه وتشتبك معه وترتد عليه وتؤثر فيه . ولذلك لم يقتصر نشاطه فقط – كما قد يتوهم البعض من أتباعه أو يشاع بغير وجه حق بين نقاده – على أطروحات (الديالكتيك) المتضمنة في وحدة وتناقض الأضداد(2) ، المستلهمة من معمار الفلسفة الهيجيلة في طورها العقلاني – عندما أقامه على رجليه بعد أن كان واقفا”على رأسه – فحسب ، وإنما طفق يجوب كل ما يرتبط بالإنسان من تطلعات ، والمجتمع من علاقات ، والفكر من خلفيات ، والتاريخ من سياقات ، والعالم من خيارات ، والوجود من تصورات . كاشفا”- على نحو واضح وصريح – تيارات القوى العميقة التي تمور في كينونة تلك الظواهر من جهة ، ومستخلصا”- بصورة واقعية وموضوعية – النوابض الخفية التي تتحكم في ماهية تلك الوقائع من جهة أخرى . ولعل هذا الانهمام المتعلق بمتابعة انعكاس الفكر على أرض الواقع بكل تمظهراته وبالعكس ، وذلك الانهماك المرتبط بتقصي أصداء النظرية في رحاب الممارسة بكل تجلياتها وبالعكس ، نابع من رهانه المطلق على تأصيل و تفعيل مفهوم (البراكسيس)(3) بكل أبعاده السوسيولوجية ومستوياته الابستمولوجية وتقاطعاته الميتودولوجية . وعلى الرغم من التأكيد المستمر والإلحاح المتكرر من لدن الغالبية العظمى من الفلاسفة والمفكرين الماركسيين على حقيقية ؛ إن الفكر الماركسي مبني على وحدة العلاقة العضوية بين النظرية والممارسة ، ومقدود من سبيكة الترابط الجدلي بين الفكر والواقع ، إلاّ انه نادرا”ما تم إظهار – وهو ما يشكل مأخذا”معرفيا”وتفريطا”بنيويا”بحق الفكر الماركسي – حرص والتزام مؤسسا الماركسية (ماركس وانجلس) ، على إعطاء الأولوية للواقع على الفكر ، ومنح الأسبقية للممارسة على النظرية ، في حال اقتضت الضرورة واستوجب الخيار . ولهذا يكتب ماركس في مخطوطات 1844 ما نصه (( لم يعد المطلوب قياس الواقع على الفكرة ، بل تفسير الفكرة على الواقع ))(4) . ويضيف شذرة أخرى في المكان ذاته فيقول (( إن نقد الواقع هو ما يجب أن يمارس في المقام الأول ، وفي الواقع نفسه يكمن منبع الحركة الثورية التي يجب على العالم أن يعيها ))(5) . 
مفهوم البراكسيس : بين الأصالة والعطالة
بحسب الخاصية النوعية للمنهجية الماركسية ؛ ليست هناك ظاهرة في الطبيعة أو واقعة في الاجتماع أو خاطرة في الفكر ، مستثناة من الخضوع لأواليات التغير في البنى وديناميات التطور في الماهيات . وإنما لابد أن تكون مشروطة بانفتاح آفاقها لاستقبال كل ما من شأنه إضفاء الجدة والحداثة على وظائفها ، مثلما لامناص من أن تكون ملزمة بتوسيع تخومها لاستدماج كل ما من شأنه إرساء القدرة والفاعلية على أدوارها . ولما كانت اللسانيات / اللغات هي أشبه ما تكون بالكائن الحيّ ، الذي يستمد مقومات صيرورته من معطيات محيطه الايكولوجي والسوسيولوجي ، فإنها والحالة هذه تعد من أكثر التمظهرات الاجتماعية استجابة لعوامل التغير وأشدها تأثرا”بمقومات التطور ، للحدّ الذي إن كل ما يمكن أن يطرأ على أنماط النشاط الاجتماعي من تبدل والممارسة الإنسانية من تحول ، لابد – إن عاجلا”أو آجلا”- أن ينداح صداه داخل أروقة تلك اللغة ؛ إما لجهة اغناء مضامينها الإيحائية واكتناز مدلولاتها الخطابية ، أو لجهة امحاء مفرداتها التعبيرية وإفناء أروماتها المعجمية . حتى إن فيلسوفا”فرنسيا”معاصرا”(إميل بنيفينست) اعتبر ((إن اللغة هي التي تكوّن النظام الاجتماعي (أو تشكله) لا العكس))(6) . وعلى هذا الأساس فانه كلما كانت المفاهيم والمصطلحات والمقولات الخاصة في مجال معين من مجالات التفاعل الاجتماعي والتواصل الإنساني ؛ شغالة في بنية الوعي ونمط المعرفة ونسق الثقافة ، كلما كانت مترعة بالمعاني ومفعمة بالدلالات ، ومن ثم قابلة لاستيعاب وتمثل ما قد يستجد في حقل الأول من تصورات ، وميدان الثانية من نظريات ، ومضمار الثالثة من تيارات . هذا في حين تنقلب الآية ويحصل العكس عندما تستبعد تلك المفاهيم من حقل التداول المعرفي ، ويستغنى عن تلك المصطلحات في سياق التثاقف الحضاري ، إذ انه سرعان ما يغشاها الضعف ويعتريها الضمور ويطالها الاندثار . ولهذا فان فيلسوف الجينولوجيا الفرنسي (ميشيل فوكو) على كامل الحق حين يجزم بأن (( ليس للغة أبدا”أي مكان سوى التطور ، ولا قيمة أخرى إلاّ فيه ))(7) . ولعل مفهوم (البراكسيس) لا يشذ عن هذه القاعدة ولا يخرج عن إطار هذا التحليل ، لاسيما وان ستار الإهمال قد أسدل عليه منذ أن رحل الفيلسوف الايطالي (غرامشي) ، الذي استعاد منطوقه واستخلص معناه واستلهم دلالته من ترسانة المعجم الماركسي باكرا”، ليس فقط من باب التورية على من تآمر عليه من جواسيس عقيدته وحراس سجنه – كما حاول أحد الماركسيين اليوغسلاف تسويق هذه الفكرة ، من خلال الإشارة إلى (( إن إطلاقه على الماركسية اسم فلسفة البراكسيس ، ليس سوى تسمية ظرفية أملتها الظروف الخارجية والطارئة ، لا تسمية تدل على الخصائص العميقة لفكر ماركس ))(8) فحسب ، وإنما من منطلق كونه عنصر أصيل لا دخيل – وهو الأهم من وجهة نظرنا المتواضعة – في بنية الفكر الماركسي . وذلك على الرغم من الإحجام الغريب عن طرحه في الخطابات أو الإعراض عن تبنيه في الطروحات ، خلافا”للعديد من المفاهيم الاقتصادية والمصطلحات الاجتماعية والمقولات الفلسفية المتداولة ، سواء في إطار الحجاج الفلسفي أو في مضمار الاحتجاج السياسي ، بحيث أمسى بالتقادم غريب عن أصوله الميتودولوجية وطارئ على بيئته الابستمولوجية . لاسيما وان فترة استحداث مفهومه وصك ملفوظه تمتد إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ، حين كان محط تحليل وتأويل العديد من الفلاسفة الألمان المتأثرين بحلقة اليسار الهيجلي ، (فون سيسكوفسكي ، موزيس هيّس ، أرنولد روغه )(9) . وبصرف النظر عن جدية ادعاء (كارل كوزيك) الذي زعم من خلاله إن مفهوم (البراكسيس) ، الذي شاع في كتابات (غرامشي) ، لاسيما خلال مرحلة ما يعرف بدفاتر السجن ، (( يفتقر إلى التوضيح ، لأننا لا نعرف بالضبط ما هو المقصود بفلسفة البراكسيس هذه ))(10) ، إلاّ إن ذلك لا يحول دون إزجائنا الثناء على سلامة فهمه واستقامة إدراكه ، للماهية الفلسفية التي أسبغها على مفهوم البراكسيس ، حين كتب يقول (( إن فلسفة البراكسيس تتجاوز مثنوية الفكر الديكارتي لأنها تتصور الوجود على انه صيرورة ، أي تحقيق لوحدة الإنسان والعالم ، ولأنها تجعل الذات المفكرة والمادة أو الامتداد تجريدين لهذا الواقع الأصلي . إن فلسفة البراكسيس تتخطى نواقص الفكر القديم ، وتسبغ على الإبداع الإنساني طابعا”أصيلا”. وينشأ عن هذا أن حضور الإنسان للعالم ليس مقصورا”على توضيح ما هو موجود من قبل ولا على فهمه ، وإنما هو مشتمل أيضا”على  إبداع الجديد : فان الجديد من حيث الكيف لا يظهر إلاّ بفضل الإنسان . إن فلسفة البراكسيس تتخطى التشويه الجانبي للفكر النازع إلى العلمية والتقنية ، لأنها تتفهم العمل أو وحدة الإنسان والعالم ، من جهة ما هي حقيقة خاضعة للصيرورة ))(11) . وإذا كنا قد تواضعنا على اعتبار إن الفيلسوف (غرامشي) هو الأب الروحي لمفهوم البراكسيس ، بدلا”من نسبته إلى إسهامات تلك السلسلة الطويلة من الفلاسفة ، الذين تطرقوا إليه واشتغلوا عليه بهذا القدر أو ذاك من قبل ، فلأن صاحب (دفاتر السجن) نحى بالمفهوم منحى سوسيولوجي وابستمولوجي ، بعدما كان يحتل واجهة التفكير الفلسفي والتظير الإيديولوجي . ولهذا نجده يؤكد على إن فلسفة الممارسة (( تحررت (أو تحاول التحرر) من أية عناصر إيديولوجية متعصبة ، أو أحادية النظرة . أنها وعي مفعم بالتناقضات يمكن الفيلسوف ذاته كفرد وكجماعة اجتماعية بأكملها من فهم هذه التناقضات ، بل واعتبار نفسه أحد عواملها ، والارتفاع بهذا الوعي إلى مستوى المبدأ ، مبدأ للمعرفة ومن ثم للفعل . وهي ترفض مفهوم الإنسان بعامة ، أيا”كانت الصورة التي يقدم بها نفسه ، وتلفظ أية مفاهيم (واحدية) دوجماتية وتنقضها باعتبارها تعبيرا”عن مفهوم (الإنسانية بعامة) أو (الطبيعة البشرية) المتجسدة في كل إنسان ))(12) . ولأن الكتابات التقليدية اللاحقة عن الماركسية – اللينينية ، أبقت المفهوم ضمن إطار المحايثة لصيغة الارتباط بين الفكر والواقع ، أو أوحت باندغامه بين ثنايا التصور الرامي إلى توحيد النظرية بالممارسة ، فقد كان من الأسهل – لأغراض تنظيمية وإيديولوجية – على الأحزاب الشيوعية بخاصة والحركات اليسارية بعامة ، الاعتماد على خاصية (الحس المشترك) التي يمتاز بها الجمهور المستهدف ، لتعبئته وتثقيفه حول البرامج الحزبية والأهداف السياسية ، بدلا”عن مخاطبة وعيه بالمفاهيم المجردة والمصطلحات المعقدة ، التي لم يكن قد امتلك ناصيتها وتمرس عليها ضمن خطابه الثقافي . وهكذا فقد هجر واستبعد – منذ وقت مبكر – مفهوم البراكسيس عن غالبية النصوص الماركسية (لغموضه) وصعوبة استيعابه ، لصالح صيغة الترابط بين الفكر والواقع أو وحدة النظرية والممارسة (لوضحها) وسهولة تقبلها ، طالما إن معناهما في المصادر واحد وأن مدلولهما في المراجع مشترك . وعلى هذا الأساس نجد إن احد الماركسيين العرب يكتب موضحا”ومقدما”للمفهوم قائلا”(( لعل أعظم خطأ يتعرض له الذين يأخذون بالماركسية هو الفصل بين الفكر والعمل أو بالأحرى الفصل بين النظرية والتطبيق (…) واقتران الفكر بالفعل أو ارتباط النظرية بالتطبيق أطلق عليه في لغة الفلسفة كلمة البراكسية ))(13) . وبعد أن يبحث في أصل الكلمة والمراحل التي قطعتها والمجالات التي تناولتها والصياغات التي اعترتها ، يستأنف حديثه عن المفهوم ليضيف (( ويقصد بالبراكسية في الفلسفة الحديثة ، الفعل من أجل التغيير ؛ ولها في الماركسية مفهوم ديالكتي يقصد به النشاط الفكري المقرون بالنشاط الفعلي الذي لا يراد به نفعا”ذاتيا”وإنما يراد به التغيير الاجتماعي ذا المردود ))(14) . وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مسألة النسبية التاريخية / المعرفية والتعددية الحضارية / الثقافية ، ليس فقط بين الشعوب المتنوعة والمجتمعات المتباينة فحسب ، بل وحتى داخل الشعب الواحد لجهة انقسامه إلى الطبقات ، والمجتمع الواحد لجهة انشطاره إلى مكونات . فان الميتودولوجية الماركسية تستلزم – كضرورة معرفية – مراعاة الاختلافات النوعية للإشكاليات المترتبة على مقاربة مفهوم البراكسيس لبنى تلك الشعوب والمجتمعات ، ناهيك عن أنماط وعيها الجمعي وأنساق ثقافاتها الفرعية وتواضعات أعرافها القيمية . مسترشدين بمضمون رسالة انجلس إلى صديقه كونراد شميدت ، التي قال فيها (( ينبغي لنا أن ندرس التاريخ كله من جديد ، ينبغي لنا أن نبحث بالتفصيل ظروف وجود التشكيلات الاجتماعية المختلفة ، قبل أن نحاول أن نستخلص منها مفاهيم سياسية وحقوقية وجمالية وفلسفية ودينية وما إلى ذلك ، مناسبة لها ))(15) . وهنا تواجهنا معضلة استنباط الكيفيات التي من خلالها تفعّل ثقافة البراكسيس داخل المجتمعات التي لا زالت تعيش أجواء الذهنيات ما قبل العلمنة ، مثلما لا تبرح تتعطى علاقات ما قبل الحداثة . الأمر الذي يتطلب إجراء مقارنة أولية بين سياق اشتغال (فلسفة) البراكسيس في بلدان العالم المتقدم من جهة ، وتوظيف (ثقافة) البراكسيس في بلدان العالم الثالث من جهة أخرى . ففي الوقت الذي حاول بعض فلاسفة الغرب الماركسيين الولوج إلى رحاب فلسفة البراكسيس عبر مفهوم (التجاوز) ، باعتبار إن أسس الفكر الماركسي تبلورت في أتون صراع فلسفي ومنهجي ضار ومكشوف ، مع مجمل الأنظمة الفكرية والتيارات الفلسفية التي كانت فاعلة وناشطة في تلك الفترة . مما أتاح لها (=الماركسية) استخلاص وتمثل زبدة ما أنتجه الوعي الإنساني ؛ من فكريات فلسفية معقلنة ، ونظريات علمية متطورة ، ومنهجيات نقدية متقدمة . بحيث بات من شبه المستحيل على مبدعا الميتودولوجية الماركسية ، الاحتكام فقط إلى ما تبشر به الطروحات الفكرية مهما كانت ناضجة ، أو الركون فحسب إلى ما تدعو إليه الصياغات النظرية مهما كانت محكمة ، بل لا بد من اللجوء إلى الواقع الموضوعي لاختبار سلامتها ، والانتحاء صوب الوقائع الاجتماعية لامتحان جدواها . معتبرين إن معيار صحة الأولى ومعقولية الثانية ، إنما هو النشاط الاجتماعي المقرون بالممارسة والفاعلية الإنسانية الممهورة بالتطبيق . ولهذا ((فليس ينبغي للنظرية الجدلية التي تعنى بالواقع والحقيقة ، أن تنفصل عن الممارسة العملية . وتقوم النظرية والممارسة على مفهوم أساسي هو مفهوم (التجاوز) الذي يوحد بينهما ، بوصفه نظريا”وعمليا”بآن واحد ، واقعيا”وفكريا”، محددا”في التاريخ وفي نطاق الفاعلية الإنسانية ))(16) . هذا في حين لم يبرح مفكري بلدان العالم الثالث من الماركسيين ، يتجاهلون – بل قل يجهلون – أهمية أن تعرض المفاهيم والمصطلحات والمقولات التي تحمل مضامين فلسفية وابستمولوجية وسوسيولوجية صيغت لزمان ومكان مختلفين ،على محك التجربة الواقعية ومخاضات الواقع المعيش للمجتمعات المحلية ، فضلا”عن التعامل مع تلك المنتجات المفاهيمية من منطلق كونها استجابة لاحتياجات تلك التجربة وليس العكس ، ومن منظور كونها تعبير تجريدي لإرهاصات ذلك الواقع وليس العكس . بيد إن تشخيصنا لهذه السلبيات وتأشيرنا لتلك المآخذ ، لا يعني إننا نهمل تداعيات الظروف الموضوعية التي أسهمت بحدوث مثل تلك السلبيات والمآخذ ، وبالتالي تحميل وزرها وإلصاق مثالبها بأولئك الذين انتدبتهم المرحلة التاريخية والأوضاع الاجتماعية والشروط الثقافية ، ليكونوا نواة وعيها الذاتي ومجسات استشعارها المعرفي . إذ إن أنماط الوعي وأنساق الثقافة وأنظمة الرموز لن تتخلص بسهولة – رغم خطورة دورها وجسامة وظيفتها – من تأثيرات البيئة الاجتماعية التي نشأة فيها ، وإفرازات القيم الأخلاقية التي تغذت منها ، وخلفيات الذاكرة التاريخية التي تربت عليها .
ثقافة البراكسيس : الضرورة التاريخية والاضطرار السياسي
لاريب في إن الفلسفة الماركسية عانت – كنظرية وكممارسة – كما لم تعاني أية فلسفة أخرى نازعتها في الطموح ونافستها في التطلع ، وذلك يحكم كونها رؤية تعبّر عن النضوج الفكري في مضمار الوعي ، والنقد السياسي في ميدان الاجتماع ، والتطلع الإنساني في حقل التاريخ ، والنزوع العقلاني في إطار المعرفة . وهو الأمر الذي وضعها على مفترق جملة من المفارقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية ، لاسيما في المجتمعات التي لم تتخطى بعد طور الهامشية الحضارية ، ولم تتجاوز بعد مرحلة الطفولة العلمية . فبحكم كون الماركسية منهج نقدي مؤنسن ؛ يشيع التفاؤلية في التقدم الاجتماعي ، ويقرّ النسبية في التطور التاريخي ، ويتبنى الدينامية في التلاقح الثقافي . فقد استطاعت هذه النظرية أن تستحوذ – بزمن قياسي – على اهتمام غالبية النخب الوطنية في المجتمعات النامية ، ليس فقط من باب كونها النظرية الأشد ضراوة في مناهضة التشكيلة الرأسمالية ، والأصلب عودا”في مقارعة تداعياتها الاستعمارية فحسب ،  وإنما من منطلق كونها السبيل الأنجع في انتشال شعوب تلك البلدان من حضيض التخلف الذي ترسف في أغلاله ، والطريق الأنسب في حملها على اكتشاف تاريخها المنسي ، واستعادة هويتها المهدورة ، واسترجاع كينونتها الإنسانية الموءودة . ناهيك بالطبع عن نظرتها العلمية إلى ظواهر الوجود ، وطريقتها الواقعية في تعاطيها مع مظاهر الحياة ، وموقفها الجدلي في تصديها لمشاكل المجتمع . ومن جملة تلك المفارقات إن مؤسسا الماركسية لم يضعا في جدول أعمالهما السياسية والفكرية تلك المجتمعات الموصوفة (ما قبل صناعية) ، وبالتالي لم يعولا عليها بخصوص نشر أفكارهما الاشتراكية وتعزيز توجهاتهما الثورية . وهو الأمر الذي منح (لينين) أفضلية ملحوظة على سائر القادة الماركسيين المعاصرين له – بمن فيهم (غرامشي) الذي غيبه الموت باكرا”كما أسلفنا – حيال تعاطيهم مع مكونات الفلسفة الماركسية ، والذي استطاع إن يستخلص جوهر ميتودولوجيتها ، من خلال تحويل تعاليم (البراكسيس) الماركسي من تفلسف نظري مجرد إلى تثقيف عملي ملموس ، بحيث طور موقف الماركسية الكلاسيكية بصدد ملائمتها وصلاحية تطبيقها حتى في المجتمعات (الزراعية) وشبه الإقطاعية ، مستلهما”ومستوحيا”ما ورد على لسان (انجلس) من تلميحات وتوضيحات وطروحات فيقول ((كان انجلس يقول في معرض حديثه عن نفسه وعن صديقه الشهير ؛ إن مذهبهما ليس بمذهب جامد ، إنما هو مرشد للعمل . إن هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخاذة ، هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان . وإذ يغيب هذا المظهر عن بالنا ، نجعل من الماركسية شيئا”وحيد الطرف ،عديم الشكل ، شيئا”جامدا”لا حياة فيه ، ونفرغ الماركسية من روحها الحيّة ، وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك ، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات – ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية والدقيقة ، التي من شأنها أن تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ ))(17) ، وهو الأمر الذي يفسّر لنا صعوبة إن لم يكن تعذر استيعاب كنه الماركسية دون ارتباطها بصيغتها المطورة (اللينينية) كما بات معروفا”. ولكن بالمقابل وبسبب كل تلك المزايا والمناقب التي تميزت بها ، فقد نالت الماركسية – مثلما نال أنصارها ومريديها ومعتنقيها – من لدن الأنظمة السياسية (الوطنية) التي أبصرت النور في المجتمعات التي تحررت لتوها من الاستعمار ، شتى ضروب القمع السياسي ومختلف صنوف الردع الفكري ، وكل أنواع التشنيع الإيديولوجي ، للحدّ الذي جرى تكفير الأحزاب الشيوعية بموجب فتاوى دينية ، وتخوين الشخصيات الماركسية بموجب أوامر تعسفية . ولعل هذه الإشكاليات كانت في مقدمة العوامل التي أسبغت على الفكر الماركسي في المجتمعات المتخلفة ، ليس فقط طابع السرية في التداول والتقية في التواصل فحسب ، وإنما – وهنا يتركز محور موضوعنا – خصوصية الإفراط في التنظيرات الفكرية والتفريط في الممارسات العملية ، حتى أمست العناصر الشيوعية خاصة والماركسية عامة ، مضرب للأمثال بخصوص باعها الطويل في الجدال الفكري والسجال الإيديولوجي من جهة ، واتهامها ، من جهة أخرى ، بافتقارها إلى رصيد واقعي / إجرائي يثبت قدرتها الذاتية ، على تطوير النظريات وتثوير المنهجيات وتنوير العقليات . فعلى قدر توفرهم (= الشيوعيين والماركسيين) على إمكانية أن يبزّوا خصومهم ومناوئيهم في شتى المجالات المعرفية والثقافية من جهة . إلا انه ، من جهة أخرى ، ليس بمقدورهم إثبات صحة آرائهم ومنطقية توقعاتهم على صعيد الواقع ، أو ترجمة مواقفهم وتجسيد أفكارهم على مستوى الممارسة . أي بمعنى أنهم وان كانوا يبدون ضليعين في  تدبيج الخطابات ونسج الطوباويات وعرض السرديات ، إلاّ أنهم بالمقابل أثبتوا عجزهم  في تحرير الذهنيات من أوهامها الأصولية ، وتطهير السياسات من أصنامها الإيديولوجية . ولعمري إن تشخيص هذه الظاهرة داخل أوساط الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية ، متأتي من حالة (الاضطرار السياسي) التي أجبروا على التعيش ضمن أجوائها الموبؤة ؛ بالمطاردات البوليسية والمداهمات الأمنية والتنكيلات العنفية . ولأنها لبثت تعمل تحت ظل أحكام قوانين الطوارئ ، حيث الظروف شاذة والأوضاع استثنائية ، فضلا”عن كونها محاطة بإجراءات صارمة من التكتم والسرية . فقد تعذر – إن لم نقل استحال – وضعها المفاهيم النظرية والطروحات التجريدية موضع التطبيق العملي الممارسة الواقعية ، بحيث يجري اختبار صحة التحليلات السوسيولوجية للمجتمع ، وسلامة التأويلات الابستمولوجية للوعي ، وملائمة المقاربات المنهجية للواقع . ليس بناء على أحكام مسبقة وتصورات مفترضة وتعليلات مفبركة ، وإنما من منطلق ممارسات واقعية وتطبيقات عملية ومحاكمات عقلانية . ولهذا يؤكد الفيلسوف الماركسي (جورج لوكاش) بثاقب بصيرة فيقول (( إن هدفنا بالأحرى محدد بمعتقد مفاده إن مذهب ومنهج ماركس يحملان بالنهاية المنهجية الصحيحة لمعرفة المجتمع والتاريخ . إن هذه المنهجية في جوهرها الأكثر التصاقا”، هي تاريخية . وبديهي بالنتيجة انه يجب دائما”تطبيقها  على ذاتها ، وتلكم هي أحدى النقاط الأساسية لهذه المحاولات . على إن هذا يقتضب بذات الحين أخذ موقف فعلي يهدف إلى محتوى المشاكل المعاصرة ، لأنه ، وبناء على مفهوم المنهجية الماركسية هذا ، فان هدفنا الأسمى إنما هو معرفة الحاضر ))(81) . ومن منطلق هذه الحقائق التاريخية وتلك الوقائع الفكرية ، فانه لم يعد أمام من يدعي انتسابه للفكر الماركسي في صيغته الأكثر نقدية ، وتمثله للمنهجية الجدلية في تمظهرها الأكثر دينامية ، أية أعذار أو تبريرات يحاول التعكز عليها واللجوء إليها ، لتسويغ حالات الانعزال الفكري والتقوقع الإيديولوجي والتخندق الفلسفي . التي قد يعتقد واهما”أنها الضمانة الوحيدة والفعالة ، للحفاظ على نقاء الفكر الذي يؤمن به من شوائب النظريات الحداثية وما بعد الحداثية ، والحرص على بقاء التصور الذي يحمله عن الفلسفة التي يعتنقها مبرئ من انحراف المنهجيات العابرة والمابينية . ولعل من المناسب أن أنهي هذا الموضوع بجملة تكاد تلخص ما نرمي إليه  قالها الفيلسوف الماركسي (هنري لوفيفر) ، في معرض تأكيده على أهمية ما تعنيه فلسفة البراكسيس بالنسبة للميتودولوجيا الماركسية على النحو التالي (( عند ماركس ، يتحرر الناس من الضياع من خلال منازعات واقعية عملية ، فلا يكون التفكير النظري سوى وسيلة ( أو عنصر أو مرحلة أو واسطة ) لازمة وغير كافية في هذه المنازعات العديدة ،  ذات الأشكال المتنوعة . بل لا يعرّف الضياع تعريفا”واضحا”إلاّ إذا قيس بوسيلة التحرر منه ، تلك الوسيلة العملية الفعالة . وشرّ ضياع هو التوقف الذي يمنع النمو ))(19) .   
المصادر والهوامش
(1) كارل ماركس وفردريك انجلس ؛ مختارات في أربعة أجزاء ، الجزء الأول ، ( موسكو ، دار التقدم ، د . ت ) ، ص37 وص38 .
(2) كتب لينين لتأكيد هذه الموضوعة يقول (( شطر الواحد إلى اثنين ومعرفة أجزائه المتناقضة … ذلك هو أساس الديالكتيك )) . للمزيد راجع كتابه المهم ؛ دفاتر عن الديالكتيك ، ترجمه وقدم له الياس مرقص ، ( بيروت ، دار الحقيقة ، 1971) ، ص263 .
(3) لسنا مخولين لا أكاديميا”ولا معرفيا”للبت في الأبعاد الفلسفية والمضامين المعرفية لمفهوم (البراكسيس) ، الذي نعتقد إن الفيلسوف الماركسي الايطالي (انطونيو غرامشي) هو أول من أدخله إلى حقل التداول السوسيولوجي والثقافي ، ليضاف إلى معجم المفاهيم والمصطلحات الأساسية للماركسية النقدية . وذلك في محاولة منه للتورية على طريقته في عرض ومناقشة النظرية الماركسية ، حين كان يمكث في زنزانة من أرادوا لعقله أن يتوقف عن التفكير لمدة (عشرين سنة) من جهة ، وفي سعيه ، من جهة أخرى ، لإماطة اللثام عن كنه المنهجية الماركسية في شطرها السوسيولوجي (= المادية التاريخية) ، بعد أن غلب عليها الطابع الفلسفي / النظري على حساب نزوعها الواقعي / الإجرائي ، بسب طبيعة الصراع الإيديولوجي الذي كان محتدما”خلال تلك الفترة . بيد أن ذلك لا يمنع من استشفاف المعاني الاجتماعية واستحضار الدلالات الإنسانية ، التي أريد لذلك المفهوم أن يكون مدخلا”إليها وتعبيرا”عنها . باعتبار إن (( الإنسان (فردا”كان أم جماعة) – كما جادل الفيلسوف الماركسي الفرنسي (هنري لوفيفر) – كائنا”تاريخيا”، إن (ماهيته) هي كلية تاريخية تولد وتنمو في التاريخ ، وهو يتكون ويبدع ذاته وينتجها في البراكسيس ، فما فيه من شي إلاّ وهو عمل ناجم عن تفاعل الأفراد والجماعات والطبقات والمجتمعات )) . راجع كتابه القيم ؛ ماركس وعلم الاجتماع ، ترجمة بدر الدين قاسم الرفاعي ، سلسلة أصول الفكر الاشتراكي (11) ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ، 1971) ، ص19 . 
(4) كارل ماركس ؛ مخطوطات 1844 ، ترجمة الدكتور الياس مرقص ، سلسلة أصول الفكر الاشتراكي (7) ، (دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ، 1970) ، ص33 .
(5) المصدر ذاته ، ص36 . وفي السياق ذاته كتب (هنري لوفيفر) يقول (( لا يتأتى الطابع الخاص للماركسية ولا سمتها الثورية (أي سمتها الطبقية) من موقف مادي ، بل من خاصتها العملية التي تتجاوز التأمل النظري أو الفلسفة )) . راجع كتابه ؛ ماركس وعلم الاجتماع ، مصدر سابق ، ص33 .
(6) جون ليشته ، خمسون مفكرا”أساسيا”معاصرا”: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة ، ترجمة الدكتورة فاتن البستاني ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2008) ، ص 99 .
(7) ميشيل فوكو ، الكلمات والأشياء ، ترجمة فريق من الباحثين ، ( بيروت مركز الإنماء القومي ، 1990) ، ص86 .
(8) كارل كوزيك ( غرامشي وفلسفة البراكسيس ) ، بحث منشور ضمن كتاب (جاك تكسيه) ؛ غرامشي .. دراسات ومختارات ؛ ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول ، سلسلة أصول الفكر الاشتراكي (21) ، ( دمشق ، منشورات وزارة الثقافة ، 1972) ، ص243 . هذا في حين يعتقد (هنري لوفيفر) –  وهو محق في ذلك – إن فكرة البراكسيس (( تحتل المكان الأول في نصوص ماركس المسماة بالنصوص الفلسفية ، ويعرف هذا المفهوم ،كما أسلفنا ، بتعارضه مع الفلسفة والموقف النظري للفيلسوف )) . راجع كتابه ؛ ماركس وعلم الاجتماع ، مصدر سابق ، ص35 .
(9) للمزيد حول بواكير مفهوم البراكسيس من الناحيتين التاريخية والفلسفية ، ننصح بالرجوع إلى جيرار بن ساسون – جورج لابيكا ؛ معجم الماركسية النقدي ، ترجمة جماعية ، ( بيروت ، دار الفارابي ، دار محمد علي ، 2003) ، ص249 وما بعدها .
(10) كارل كوزيك ( غرامشي وفلسفة البراكسيس ) ، مصدر سابق ، ص243 . الجدير بالملاحظة هنا إن طابع الغموض والإبهام الذي يحيط بمفهوم البراكسيس ، أشير إليه ضمن مصادر أخرى معاصرة . راجع مثلا”معجم الماركسية النقدي ، مصدر سابق ص249، حيث ورد فيه (( لقد قيل الكثير عن الإبهام اللفظي الذي يبدو وكأنه ماثل في صميم جوهره ، والذي يعزز الغموض النظري  الذي كان يحمله أحيانا”)) . 
(11) المصدر نفسه ، ص249 .
(12) أنطونيو غرامشي ؛ كراسات السجن ، ترجمة عادل غنيم ، ( القاهرة ، دار المستقبل العربي ، 1994) ، ص421 .
(13) عبد الفتاح إبراهيم ؛ الاجتماع والماركسية ، سلسلة السياسة والمجتمع ، ( بيروت ، دار الطليعة ، 1980) ، ص27 .
(14) المصدر ذاته ، ص28 .
(15) كارل ماركس وفردريك انجلس ؛ المختارات ، ج4 ، مصدر سابق ، ص167 . وفي ذات التوجّه كتب (انجلس) في مكان آخر ما يقول (( إن الفكر النظري في كل حقبة من الزمان ، بالطبع في حقبتنا نحن أيضا”، نتاج تاريخي ، يتخذ مضامين مختلفة جدا”، وعلى ذلك فعلم الفكر ، ككل علم آخر ، علم تاريخي ، علم التطور التاريخي للفكر البشري )) . للمزيد راجع كتابه الفذ ؛ جدليات الطبيعة ، ترجمة محمد أسامة القوتلي ، ( دمشق ، منشورات دار الفن الحديث العالمي ، 1970) ، ص61 .
(16) هنري لوفيفر ؛ ماركس وعلم الاجتماع ، مصدر سابق ، ص7 .
(17) لينين ؛ ماركس – انجلس – الماركسية ، ترجمة الياس شاهين ، ( موسكو ، دار التقدم ، د . ت ) ، ص336 .
(18) جورج لوكاش ، التاريخ والوعي الطبقي ، ترجمة الدكتور حنّا الشاعر ، ( بيروت ، دار الأندلس ، 1979) ، ص9.
(19) هنري لوفيفر ؛ ماركس وعلم الاجتماع ، مصدر سابق ، ص11 .

أحدث المقالات