غاب عن أذهان المقاطعين للإنتخابات النيابية السابقة انه ربما يكون رأيهم “صوابا يحتمل الخطأ والرأي الآخر خطأ يحتمل الصواب”
ربما كان إنحدار الوضع العام نحو الأسوأ مانعا لإنصاتهم لدعوات المشاركة الواسعة، وقد يرى أغلبهم أنه على صواب في إختيار المقاطعة، لما عانوه من إهمال وتردي شمل مختلف القطاعات، ذات التماس المباشر في حياة المواطن وتعثر الحكومات السابقة، في خطواتها نحو توفير سبل العيش الكريم للمواطن.
فاتهم أنهم ومن خلال مقاطعتهم تلك أنهم قد هيئوا الفرصة، لحيتان الفساد ليتربعوا على صدارة المشهد اعتمادا على إمتدادهم الجماهيري تارة، وبشاعة الاستغلال للمال العام أخرى.. وبذلك اصبح الطريق سالكا أمام اغلب المسميات التي تحوم حولها الشبهات للوصول الى مصدر القرار والتحكم بمقدرات الشعب.
الإنتخابات البرلمانية المقبلة تمثل استحقاقا مهما وتحد صعب للاطراف السياسية والإجتماعية في البلد، كون الجميع يدرك حجم التحديات التي تواجه العراق سواء كانت داخلية وأهمها ما يتعلق بإعادة ثقة المواطن بالعملية السياسية، بالشكل الذي يدفعه للمشاركة الواسعة في الانتخابات، وضرورة إعتماد الإختيار الواعي المبني على قراءة المشاريع المطروحة بدقة، ومن ثم المفاضلة بينها وصولا للإختيار الصحيح..
ناهيك عن ضرورة استحداث طرق ملائمة للتعامل مع وباء كورونا، وتوفير فرص العمل التي كانت احد اهم الأسباب التي دفعت الشباب، للنزول للشارع وإحداث هزة عنيفة ألقت بظلالها، على مجمل الحياة العامة لابناء الشعب، إضافة لمعالجة الاشكالية في تعامل الإقليم مع المركز وتمدد قوى اللادولة واستفحال خطرها، بالشكل الذي أثر سلبا على علاقة المكونات فيما بينها.
هناك ايضا تحديات خارجية تتمثل بموقف العراق وعلاقته بمحيطه الخارجي، الذي يتطلب طرق تعامل جديدة، بعد وصول الديمقراطيين الى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، وصعوبة التكهن بكيفية تعامل الإدارة الجديدة مع واقع الشرق الأوسط الجديد، والذي يمثل العراق محورا مهما من محاور الصراع الدولي خصوصا بين طهران وواشنطن.
العراقيون امام مفصل تاريخي مهم لإنتشال بلدهم مما يمر به من أزمات، والحفاظ على أهم المنجزات التي صنعها ابناءه، وآخرها تحقيق النصر العسكري على عصابات داعش الإرهابية، ولا يكون ذلك حقيقة على ارض الواقع من خلال الأمنيات، مالم يرافقه عزيمة وإصرار على التغيير بعد ان ذاق ابناء الشعب مرارة التجارب الفاشلة على مدى السنوات الماضية.
لقد كان بإمكان ابناء الشعب المساهمة في إنقاذ بلدهم،وابعاده عن حافة الهاوية، لكن دعوات المقاطعة للانتخابات السابقة كانت اهم العوامل التي أوصلت البلد لما هو عليه الآن، اذ إعتمد المقاطعون لغة التشكيك وإتهام الجميع بالتقصير وعدم أهليتهم لقيادة البلد، في حين أن نظام الحكم في العراق يعتمد على السلوك الديموقراطي، وتحديد الرئاسات مناط بمخرجات الصوت الإنتخابي.
طريقة تعامل المقاطعين تلك ونظرتهم للواقع هي نفسها التي تم تبنيها من قبل متظاهري تشرين، الذين وعلى ما يبدو فشلوا في تبنيهم لمشروع سياسي واضح المعالم ومحدد الرموز وأدوات التنفيذ، وهو امر طبيعي في ظل الانقسام والصراعات في داخل الساحات خصوصا بعد دخول جهات سياسية نافذة على خط الاحتجاجات وتبنيها لخطاب ( المعارض الحاكم).
بناء على ذلك هنالك ثمة تساؤلات تطرح بين الحين والآخر على مسامع المقاطعين، واحيانا يباشر المقاطع لسؤال نفسه معاتبا اياها عن التقصير الذي كان عليه، بفعل مقاطعته تلك والتي كانت مقدمة لإسالة دماء اخوتهم من المتظاهرين.. فهل تمكنت المقاطعة ودعاتها من مواجهة تغول الحكومة على المواطن البسيط؟
وهل ساهمت المقاطعة في دفع الحكومة لمتابعة رؤوس الفساد، بغض النظر عن موقعهم الرسمي وثقلهم السياسي وتأثيرهم الاجتماعي؟ وهل ساهمت المقاطعة في حل ازمة تأخير الرواتب، واطلاق الاستحقاقات التي بذمة الحكومة للعاملين شركات وافراد وفلاحين؟
أم هل ساهمت المقاطعة ومن خلال تأثيرها الإعلامي، في إسناد الدولة لمواجهة الخطر الخارجي وتشخيص الممارسات الخاطئة في الداخل؟ أم هل ساهمت المقاطعة في إضعاف مؤسسات العمل السياسي والسيطرة على منابع التمويل، بغية افراغها من مضمونها العبثي ودعم سلطة القانون في القضاء عليها؟
ربما يكون الطابع العاطفي سمة ملازمة لمن يريد الاجابة عن تلك التساؤلات، لكن الحقيقة تشير الى ان العمل السياسي يدار من قبل قوى سياسية يحكمها العقل لا العاطفة عند إتخاذ القرار، بعيدا عن لحظة الانفعال والعجلة في ردود الأفعال، فالمسألة ليس أوهام أو تكهنات ورغبات لا تصمد أمام الواقع الذي ينظر اليه، كقرار سياسي يهدف الى درء المخاطر وتحقيق المصلحة العامة للبلد، شريطة أن يكون ذلك من خلال أصوات الناخبين التي تحددها صناديق الاقتراع.