22 نوفمبر، 2024 12:37 م
Search
Close this search box.

زمن … فاخر

يومياً أعلل نفسي اقول لها ستأتي …إنتظر ..

وسيأتي معها الفرح …
أعنف روحي اقول لها ويحكِ…أستكيني.. ألم تتعبي من السير في جادة الانتظار …فيأتيني هاتف الروح …
إصبر …إصبر …أنتظرني غداً…
هذه الكلمات كانت جزءاً من الاوراق التي وجدتها في (دوسيه) أحد مباحث الفصل الاول لطالب الماجستير ، وسألته عنها أنكر وقال: أستاذ… ربما هي للمترجم الذي ترجمت عنده بعض النصوص…قلت ماأسمه …قال:(فاخر).
وحين سألت وتحريت عن فاخر عرفتُ أنه رجل خمسيني من بغداد كان في تسعينيات القرن الماضي مُدرساً مساعداً للغة الانگليزية في احد كلياتها …نعم خمسيني …
( فاخر )كان قادماً من ميسان ليبحث عن تعيين فأخذه القدر ليلتقي ب(زمن) الطالبة في اكاديمية الفنون الجميلة القادمة من سامراء لتدرس التصميم …الأن عرفتُ سر هذا الخمسيني الذي يقف وخلفه المقبرة الملكية مطلاً بوجهه جيئة وذهاباً على بناية اكاديمية الفنون الجميلة ، جاعلاً مركز قطر الدائرة التي يتحرك فيها المقبرة (واقصد مقبرة الانگليز )، وهو يردد منشداً :
يامن يرى مافي الضمير ويسمع …
أنت المُعدُ كل مايتوقع …
يامن يرجى للشدائد كُلها ….
يامن إليه المشتكى والمفزع …
مالي سوى فُقري إليك وسيلة …
فبالافتقار إليك نضري أرفع ….

نعم (فاخر ) ذو الملابس البسيطة اراه يومياً متأبطاً محفظتهُ السوداء القديمة ، قابضاً في اليمين على قلبه الجاف ، واليسرى مغازلاً سگارته والتي لا يتركها حتى تتقطع انفاسها …
هو اختار (باب المعظم ) كي يعيش على ما يؤجر عليه مهنته الترجمة التي ادمن عليها والتي تعينه على متطلبات الحياةبعد ان ترك عمله في الجامعة بسبب مرضه ، ولم تعنه سنوات خدمته للتقاعد…
ولقد أختار هذا المكان ايضاً لانه قريب من مسقط (حبه) …اكاديمية الفنون إذ أن مساحة لقاءهم البريء يبدأ من باب المعظم وينتهي عند (مطعم اللحم بالعجين في الاعظمية) …
كان (فاخر) هو الذي عرف نفسهُ(لزمن) من مدينة تدعى (الكحلاء) وهي قرية مطلة على شعث الهور وتسرح شعر زرعها (بنهر الكحلاء) احد فروع دجلة…
أهله هم احفاد (أدد/ آلهة الريح السومرية) ، وأمه فرع من نسل (أينانا/ آلهة الخصب)… وأخوته الطالعون بمباركة آلهة الشمس يعتاشون على ماتمنحه لهم (شلب/ رز الكحلاء) وماتفيض به انهارها من اسماك …وان اسراره واخوته ..تحفظ عن ظهر قلب طيورها (الخضيري،ام سكة ، النوارس)…
حين يُسهب (فاخر) ويقدم سيرة اجداده بفخر ، تنفعل زمن تقول : كافي بسس …حين تغيب كيف اصل إليك ؟ هل أوشوش في أذن النوارس ام أضع رسائلي في عنق طائرتكم الخضيري …يأاخي كافي احلام …ودندنت بصوتها الدافىء بخجل ..
(ياروحي جذاب الهوى …مو ذولة الاحباب
يمكن تراوالج حبيب …الروح بالباب ….)
واجابها (فاخر)وهو الذي يحفظ الجميل من الشعر …(زمن) حين تتأخري في السؤال عني …
يامهج أللمي وحلو التثني…
وجميلٌ جمالهُ قد فتنني…
أي ذنب قد بَدرَ مني …
أدلالاً هجرتني ام صدوداً …أم تجني

حين ينتهي من قراءة قصيدته تشاهد(زمن) عرق جبهة فاخر قد وازى دمعته…
وتنزل الدمعة من عين (فاخر ) ويأخذ نفساً عميقاً وهو يرقب المارة …جالساً على احد الكراسي في واحدً من مقاهي باب المعظم الضاجة بأصوات الناس وهو يتذكر أيامه الجميلة مع (زمن)في الكاظمية والاعظمية وباب المعظم …
وانا أراقب (فاخر ) منذ سنتين ، كثيراً ما أجده في صباحات بغداد التشرينية الباردة كعادته يقف امام اكاديمية الفنون الجميلة مرتيداً قمصلته القديمة بشعره الكثيف ملتحفا بجزته…يومأ بيديه مره محياً واخرى مودعاً …قاطع الطريق عشرات المرات …وكثيراً ما أجد بعض اصحاب السيارات الخصوصي وحتى التكسي يظنون انه احد متسولي بغداد المَهرة الذين يتوزعون على تقاطعات الطريق … معجبون بهدوئه طالبين مساعدته …وحين يهم احداً بأعطاءه المساعده…يأخذ المبلغ ويقبله ويقول لصاحبه شكراً …ادعولي (بالخير والحب)لانني اعيش بلا حب …ثم يرجع الى الخلف بفعل حسرته قابضا ً طرف دمعته …
لقد عَرف تدريسيوا وموظفوا وسواق تلك المنطقة (فاخر)كلهم …لم يعرفوا قصته فكان لزاماً عليهم ان يحبوا حزن وكبرياء ونبل هذا الفقير المثقف الباشط …فما كان منهم حين يمرون إلا ان يسلموا عليه عن طريق اصوات مزامير سياراتهم (هورناتهم) او رفع ايديهم …او إسماعه عن طريق مكبرات مسجلات سياراتهم اغنيته المفضلة اغنية (حسين نعمه) ياروحي جذاب الهوى ….
في واحد من الايام قررت ان أكسر عزلة هذا الجنوبي الغريب …واعانني على ذلك احد الاصدقاء …وحين اقتربنا من مكان وقوفه في اخر المقبرة الملكية …تحت زجاج السيارة وسلمت عليه ، فردالسلام بتودد…واخرجت مبلغ (١٠,٠٠٠) دينار فرفض وقال :شكراً غيري يستحقها …فقلت : انا اعرف انك مترجم …والايام هذه هناك عزوف عن الترجمة (بسبب كورونا) فقال بأدب جنوبي …أستاذ ربك مايخلي حمل مطروح مثل مايقول المطرب عبد فلك …الله موجود أستاذ…
وراح يقرأ :-

عجبتُ لكلي كيف يحملهُ بعضي…
ومن ثقل بعضي ليسَّ تحملني أرضي …
لئن كان بسط من الارض مضجعُ….
فبعضي على بسط من الارض في قبَضي…

فما كان من صديقي إلا أن يفتح (باكيت السكائر) ليدخن سكارته …وبطريقة غريبة قدم له العلبة كهديه لكن(فاخر ) رفض قائلاً : واحدة قد تداوي اللحظة …وقد توصلنا الى جادة الصبر …
شكرناه …وطلبت منه مكاناً التقيه لأترجم بعض النصوص …وهي حجة لي …لا أعرف …ربما بفضول الانسانِ او لمعرفة مايخفيه هذا الرجل الجنوبي الغض ، واتفقنا على يوم الجمعة القادم في المتنبي …
على الموعد وجدت (فاخر ) يجلس القرفصاء وهو يقلب أحد الكتب باللغة الانكليزية …وفاجأته …ها فاخر تبحث عن سفينة هذا الكتاب ( كان يتحدث عن الطوفان ) …واجابني بثقة: كلٌ منا يبحث عن (فلكه) اي سفينته ، فأجدادنا منذ خمسة الآف عام في سفينة (نوح ) باحثين عن (الحب الذي يساوي العدل او هو وجهه الاخر) وكذلك بحثوا عنه الفراعنة القدماء و الذين أسموا آله العدل والحب( ماعت) والأخر قال في الايمان والملاحدة ، أن النجاة في (العلم)…وأردف سريعاً ان الحياة هي صراع (العدل،الظلم،الشر،الحب)
حينها قلت :(فاخر)…من هو صاحب الفُلك ،أجاب انه نوح العراقي … (اتونابشتم)..او هو (زيو سدرا)…
أستاذ …زيو سدرا …محب للخير محب للحياة واسمه في السومرية (الخالد)…
قلت :فاخر …وهل انت تقتفي أثر جدك نوح ؟ لماذا لم تركب سفينه الحياة الى الان…الحب ، الزواج ، الابناء ، الاستقرار …..
اطرق فاخر وقال : انتظرها
فقلت له … بعد خمسة وعشرين سنة … والى متى …
ياسيدي (فاخر) الانتظار في بعض الاحيان يشبه البكاء المر ..
حينها قال: اكثر بكاء الدنيا تبذله على نفسها ، هكذا تقول الاسطورة السومرية …
فتح (فاخر)اساريره وقال : أستاذ لن اتعبك
انا منذور لزمن …
وأنا معقود قلبي …بها
لقد كانت امي التي أحب وصديقتي التي اشكو إليها …وحبيبتي التي أحن إليها …أنا محظوظ بلوعتها او قل مستوحشٌ بها…ولا أعرف السبب لقد جربت كل المستحبات والممنوعات …كي اغادر خاطرها لكني فشلت … أنها عوذتي وانا طريدها …
لقد ادمنت الوحشة …انا هي وهي انا …فوجدته كالصوفي يترنم ويقول:-

اذا بلغ الصب من الفتى …
وهل من وصل الحبيب من السّكر
فيشهد صدقاً حيث اشهدهُ الهوى
بأن صلاة العاشقين من الكفر …

أستمر فاخر يبوح لنصفه …
وانتقل بمحض ارادته بقلب اوجاعه المفرهدة …
يعيش على قارعة الطريق …
احب فاخر (زمن) وحينها اندهش نطقت اسمها قلت (زمن) …نعم زمن …راحت …هي الان ماضي والماضي الميت لايعود …فاخر عيش حياتك …ثم علاّ صوته كأنه امرأة ثكلى باسطاً رجلي ورجليه مخاطباً دجلة ….
اختلط عنده البوح والتجلي بالنحيب الذي يشبه ثغيب امهاتنا في الجنوب وصدح يقول : فقير انة…نعم …فقير انة … ليس للأكل لكن للحب فقير انة…
انت الموله لي لا الذكر ولنهَّي…
حاشا لقلبي ان يعلق به ذكري …
الذكر واسطة تخفيك عن نظَري …
اذا توشحة عن خاطري فكري …
حملت في القلب مالايحمل البدن…
والقلب يحملُ مالايحمل البُدنُ…

وان لسان حال (فاخر) يقول :-
ليس الحب مجرد عاطفة فحسب…
بل هي شعورك بالمسؤولية عن روح اخرى …تسكن روحك…
ربما (زمن )هجرته او هاجرته او تركته لسبب لانعرفه ، لكن اللطف الذي يعيشه(فاخر)او الولهُ…الذي اعشوشب في مخيلته واستمال الى واحة سكينته…جعله ينكر انه حاضر و(زمن) هي الغائبة وما اكثر الذين يعيشون زمن يشبهُ زمن (فاخر) ….
وعلى مهلٍ ينشدُ (فاخر) بحسرة …

خلها روحي تنوح ليش تلومها…
خلها تصرخ …خل تشگ هدومها…
خلها روحي معلعلة…وتصرخ تنوح…
گامت إدلال الصبر تگلب تفوح….
وگام دهري يذر ملح فوگ الجروح…
همومها گليلة وتچملها بعد؟ …..
هذا حظي نايم …ماشبع نوم وگعد…

(هلي يامن ضيعوني)….

أحدث المقالات