خاص : كتب – محمد البسفي :
3 – في تمهيد المسرح لـ”القادم” !
اقتصاد الحرب .. طريق إجباري
وبين رغبة الكارتيلات الاحتكارية وأباطرة الشركات متعددة الجنسيات، التي تتحكم وتشرف على عملية اختيار القادم إلى “البيت الأبيض”، وذلك الصراع – المستعر تحت الجمر الأميركي – بين نمطي الإنتاج المعولم بصيغته النيوليبرالية من ناحية أو العودة إلى نمط التصنيع القومي ما قبل العولمي من ناحية أخرى، والذي حسم – مؤقتًا – لصالح النمط الأول بفوز “جو بايدن”.. يظهر المشهد الدولي المترقب لسيد “المكتب البيضاوي” ببعض التفصيلات المنطلقة من أرضية عالمية محترقة بـ”معضلاتها” الاقتصادية الخانقة لنظامها الرأسمالي الحالي الذي أجهزت عليه حظوظه العاثرة – منذ عقود – كان آخرها أزمة جائحة (كوفيد-19) التي وضعته أمام مرآة تأزمه القاسية بفعل “الصدمة”.. فمهما لجأ النظام النيوليبرالي العالمي إلى استدعاء بعضًا من سمات “كينزية” لمعالجة تفاقم الرعاية الاجتماعية – أو ما يسميه الاقتصاديون بالأجر الاجتماعي – برعاية جزء من البطالة المتفاقمة – بسرعة وشراسة – أو دعم جزء من نظم رعاية صحية؛ أو بإغداق بعض مِنحه وأبويته على النقابات؛ أو حتى إدعائه بتطهر “رقابي” من دنس “الفساد” الذي يمثل في الحقيقة جذر رئيس لأصل شجرة النيوليبرالية المتشعبة تُحصنه بقوانينها وتحميه بتشريعاتها، تظل تلك الحلول – الجزئية – “هجينة” النظام الكينزي المفلس منذ عقود كما أنها ستعاني “اليُتم” بعد ترقيعها لنظام “الرأسمالية المتوحشة”. تبقى سلسلة جبال المعوقات أمامه عسيرة على قدراته بعد فقد حلول الموارد الطبيعية سحرها الناجع – النفط مثالاً – واشتعال الحرب التجارية بأساليب وآليات مبتكرة – الصين نموذجًا -، وقبل كل ذلك وأهمه تنامي الرفض الشعبي وتصاعد الانتفاض الجماهيري وانتشاره حتى وصل إلى ربوع واشنطن وباريس وغيرهما من دول مركز الثقل الدولي؛ تجهر بصراخها الموجع من نظام رأسمالي بصيغته النيوليبرالية التي أحتضرت وقضي أمرها ولا يبقى إلا قبر جسدها المتعفن والبحث عن صيغ جديدة؛ على ما يبدو ستظل ولادتها في تعثر دائم لسنوات قادمة نتيجة إصرار النظام الرأسمالي على بث روائح جثمان النيوليبرالية النفاذة…
وكما تُصر النيوليبرالية في إصدار روائح جسدها المحتضر، على المستوى الفكري/الثقافي/الاجتماعي، ببث أفكار ما بعد الحداثة وصراع الحضارات والأديان وما أنتجته من تناحرات وحروب دينية وطائفية وجهوية ومذهبية أججت من السُعار والهوس الديني، المُطعم بشيفونية قومية انفصالية تتعالى بعنصرية طبقية اجتماعية.. لا ترى الرأسمالية المتوحشة كمبعث لروحها إلا الحل الرأسمالي التقليدي القديم؛ وهو “الحرب” لإعادة تقسيم الغنائم والحظوظ والنفوذ، تكون على أرضية ما تنفثه من أفكار دينية/قومية/فوضوية؛ وهذا ما تعكف عليه منذ عقود بنشر “حروب الوكالة” وتنميط الجماعات الدينية المسلحة.
وهنا.. يأتي “جو بايدن” على أرضية ممهدة – منذ سنوات – تم تسخينها بما يكفي لمقدمه وبما يستحق الدخول في جولات جديدة.
وكما يرى “العفيف الأخضر”؛ أن اقتصاد الحرب يمثل جرحًا للاقتصاد الدولي كله في حقيقة الأزمة الدائمة والحرب الإمبريالية الدائمة وتعبئة الاقتصاد القومي في استعداداتها، لكن اقتصاد الحرب ضروري للاقتصاد المعاصر بقدر ما هو مُضر به، ضروري له: لأنه يُشكل منذ أزمة 1929 متنفسًا اصطناعيًا لأزمة فائض الإنتاج الدائمة: إنتاج الدبابات التي تخزن ليأكلها الصدأ وترمى إلى الخردة بعد أن يتجاوزها تقدم التكنولوجيا العسكرية، وإما أن تُستخدم لتدمير القوى المنتجة المادية والبشرية.. بدلاً من إنتاج الجرارات مثلاً التي لا تجد سوقًا موسرة. ومُضر به: لأنه المسؤول الأول عن عجز الميزانيات الدولية وبالتالي عن أزمة المديونية والتضخم وباختصار عن انحطاط القوى المنتجة. (1)
ويروج خبراء التضليل الإيديولوجي في أوروبا وروسيا نفسها أسطورة إنتهاء التنافس الحربي واقتصاد الحرب ومعهما التكتلات العسكرية التي ستتحول، بقدرة قادر، إلى تكتلات اقتصادية سلمية تخوض منافسة اقتصادية، علمية تكنولوجية وثقافية.. متناسين أن اقتصاد الحرب هو حبل الوريد في الاقتصاد المعاصر الذي لا غنى له عن الأسواق الاصطناعية.. وللعصر الذي أصبحت فيه جميع الدول إمبريالية تتوسل الحرب لتأمين حصتها من السوق التي يعاد اقتسامها دوريًا بالحرب. هذه هي الحقيقة التي يتحاشى الاقتصاديون الرسميون كشفها. لأنه من الجنون الاعتراف بأنه بدون إهدار ثلثي الموارد الطبيعية والبشرية يختنق الاقتصاد الدولي وتموت الرأسمالية بالسكتة القلبية. (2)
بعد إنهيار الكتلة الشرقية وإنهيار المبرر الرسمي لعسكرة الاقتصاد الأميركي كتبت (وول ستريت جورنال): “برهن التاريخ على أن الاقتصاد ينزع إلى التقدم مدة أطول في زمن الحرب لا في زمن السلم: فخلال الـ 135 سنة الأخيرة رصد المؤرخون الاقتصاديون ثلاثين فترة توسع اقتصادي دون حساب الفترة الراهنة. منها 25 فترة حدثت من زمن السلم لم تدم في المتوسط إلا 27 شهرًا. في حين أن الخمس التي جاءت في زمن الحرب تواصلت في المتوسط لمدة 64 شهرًا. أطول فترة نماء اقتصادي عرفتها الولايات المتحدة (106 شهور بين 1961 – 1969) كانت خلال حرب فيتنام، الفترة الثانية من فترات الإزدهار في الاقتصاد الأميركي حدثت هي الأخرى في زمن حرب توسع دام ثمانين شهرًا أثناء الحرب العالمية الثانية.
“إردوغان” .. جوكر الجولات القادمة
تحت جنح الأزمة الاقتصادية التي تخنق بلاده وبحجتها؛ يصول الرئيس التركي، “رجب طيب إردوغان”، ويجول بمنطقة الشرق الأوسط وبدول محيطه الجغرافي مُصرًا على فرض هيمنة سافرة وتدخلاته الفجة في شؤون كثير من الدول، دون أن يعترضه “إجراء” أممي فعال يحد من ممارساته من وزن تلك الإجراءات التي تعرضت لأنظمة عربية وإفريقية وأميركية جنوبية تقدمية كثيرة وصلت لحد الإصدامات العسكرية والاحتلال المباشر، مما يؤشر على مدى أهمية الممارسات الإردوغانية واحتياجية المشهد العالمي لها.. فمن سوريا إلى ليبيا لقبرص والعراق وصولاً إلى أرمينيا وفرنسا؛ ينشط “إردوغان” في حماس نموذجي في ضرب هدفين رئيسيين: أولهما؛ فرض النفوذ االسياسي الخادم لهيمنته الاقتصادية على موارد ومقدرات البلدان الواقعة في محطيه الحدودي بل والعابرة لموقعه الجغرافي سواء في أوروبا أو إفريقيا أو آسيا. والثاني هو نشر وفرض فكره الديني التوسعي بالقوة، بزعم قدرته على إعادة حلم “الخلافة العثمانية” الغابر على منطقة تعاني غياب المشاريع الإيديولوجية – غير الدينية/القومية -، تحت قيادته كونه زعيمًا لحزب ذا مرجعية إخوانية؛ وبالتالي أصبح “إردوغان” نموذج مثالي جذاب لـ”تسخين” المسرح الدولي بكل ما يلزم من محفزات دينية وطائفية وعرقية ونحوها، جاذبية حسدته عليها “العربية السعودية” التي تفوق عليها في أداء نفس الدور خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي؛ لذا كان له قصب السبق في مارثون النفوذ بينهما.
ونظرًا لخبرة تركيا وسابق عملها، بمشاركة السعودية وإشراف أميركي وأوروبي، داخل أذربيجان، “المسلمة”، والغنية بالنفط والغاز، ودعمها في مواجهة أرمينيا، “المسيحية”، (التي دعمتها إيران وروسيا) – لكن روسيا كانت تبيع السلاح للدّولَتَيْن – في حربهما عام 1992؛ ضمن فوران الصراعات الحدودية التي استعرت إبان تفكك الاتحاد السوفياتي، لذا ظهر “إردوغان” وبقوة في مشهد الحرب “الأذربيجانية-الأرمينية” التي عادت للاشتعال في منتصف تموز/يوليو 2020.
وتحتل أذربيجان موقعًا استراتيجيًا في آسيا الوُسطى، فهي تطل على بحر قزوين، ولها حُدُود مع أرمينيا وتركيا وإيران وجورجيا، وروسيا، وهي دولة منتجة ومُصدّرة للنفط والغاز، ويُقدّر احتياطيها بحوالي سبعة مليارات برميل، كما هي منتجة للغاز، وبها ثروات معدنية أخرى كالذهب والفضة والنحاس والحديد، والكوبالت والتيتانيوم… وتُصَدِّرُ نحو أوروبا، حوالي خمسين مليون طن من النفط الخام سنويًا، والذي يصِلُ، (منذ سنة 2006)، العاصمة “باكو” بميناء “جيهان” في تركيا، مرورًا بجورجيا، بالإضافة إلى خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي من حقل “شاه دنيز”، (الذي يُنتج حوالي 300 مليار متر مكعب سنويًا)، ويصل إلى تركيا، ثم أوروبا…
وتُجدر الإشارة هنا إلى انتشار الفساد في جهاز الدّولة لأذربيجان، ولكن نادرًا ما تنشر المنظمات التي تُكْثِرُ الحديث عن “الشفافية” تقارير عن أذربيجان، (الواقعة على حدود إيران)، ومن هذه التقارير النادرة، أخبار نشرتها “منظمة العفو الدّولية”، ضمن تقريرها السنوي 2017 – 2018، عن انتشار الفساد على نطاق واسع، وعن تكثيف حملات القمع وعن غياب حرية التعبير عن الرأي، واعتقال الصحافيين وحجب وسائل الإعلام “المُستقلة”، أو “المُعارضة” للنظام. أما سبب نَدْرَة مثل هذه التقارير فهو العلاقات المتطورة مع الإمبريالية الأميركية، ومع الكيان الصهيوني. (3)
سبق وجَمع الرئيس التركي، “تورغوت أوزال”، في تشرين أول/أكتوبر 1991، زعماء الجمهوريات السوفياتية السابقة، التي تسكنها أغلبية “تركية الأصل”، (الأتراك ليسوا شعبًا من “الشرق الأوسط”، وإنما من وَسَط آسيا، أتَوا إلى المنطقة بسبب الكوارث والمجاعات، بداية من القرن الثاني عشر)، في عاصمة تركيا، تحت شعار “أمة تركية واحدة من البحر الإدرياتيكي إلى سد الصين المنيع”، ومن بين هذه الجمهوريات “أذربيجان”، التي أنشأت بها الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني قواعد عسكرية، في وقت مُبكّر من استقلالها، وتُخطط أذربيجان، تحت إشراف الإمبريالية الأميركية لمنافسة مشاريع روسيا لبناء خطوط تَصِل حقول الغاز الروسية بأوروبا.
فقد بذلت تركيا، منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي؛ جهودًا كبيرة لتدعيم حضورها في منطقة “البحر الأسود” و”القوقاز”، وتدعم تركيا، “أذربيجان”، عسكريًا، ويُشرف الضّباط الأتراك على تدريب جيش أذربيجان؛ الذي يشتري الطائرات الآلية من مصانع صهْر الرئيس، “رجب طيب إردوغان”، وشاركت في تموز/يوليو 2020، في مناورات عسكرية مع جُيُوش أميركا وجورجيا ورومانيا وبلغاريا، في “البحر الأسود”، بالإضافة إلى العلاقات العسكرية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، ما زاد من الخلافات مع روسيا، (المُنحازة إلى أرمينيا)، التي اعتبرت هذه المناورات استفزازًا لها.
في عام 2016؛ أصدر رئيس أذربيجان، “إلهام عَلْيِيف”، قرارًا رئاسيًا يفرض حصول جميع الوافدين إلى أذربيجان على تأشيرة دخول، باستثناء حاملي الجواز الصهيوني والتّركي، وفي ذلك إشارة إلى عمق العلاقات مع هاتَيْن الدّولتَيْن، لذا فقد حاول “الطاهر المعز”؛ الوقوف على خلفيات هذا القرار، وعلى العلاقات المتينة بين أطراف هذا الثُّلاثِي.
التقتْ مصالح تركيا والكيان الصهيوني، في “أذربَيْجان”، التي طورت علاقاتها مع الكيان الصهيوني أيضًا، (إلى جانب تركيا والولايات المتحدة)، وشملت المجالات الإقتصادية والعسكرية والإستخباراتية، وتضم أذربيجان قاعدة عسكرية صهيونية، وشكلت موطيء قدم للصهاينة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ثم توسّع النفوذ الصّهيوني، على خُطَى النّفُوذ الأميركي، إلى جورجيا وأوكرانيا، وروسيا أيضًا، حيث يستعمر فلسطين نحو مليون مُسْتَوْطن، جاؤوا من روسيا ومن أوكرانيا، خلال فترة إنهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع مستوى العيش في روسيا، ويكتسب موقع أذربيجان أهمية خاصة، بسبب مجاوَرتها لإيران، حيث يوجد حوالي 25 مليون مواطن إيراني، من أصل أذَرِي، كما توجد أقلية هامة من الأرمن الذين لجأ أجدادهم إلى إيران، هَرَبًا من المجازر، وعمليات الإبادة التّركية.. يستورد الكيان الصهيوني حوالي 70% من النفط الذي يحتاجه من أذربيجان، أو ما يعادل 40% من صادرات أذربيجان النفطية، وتُشارك شركة النفط الحكومية الأذرية، “سوكار”، في التنقيب على النفط المَسْرُوق من سواحل فلسطين المحتلة، فيما توطّدت العلاقات الاقتصادية، في مجالات الفلاحة والتكنولوجيا والأسلحة، واشترت أذربيجان، سنة 2016، أسلحة صهيونية بقيمة لا تقل عن 1.6 مليار دولارًا، تضمّنت أنظمة دفاع جَوِّي وصواريخ، وبلغت قيمة المبادلات التجارية، بينهما 4.5 مليارات دولارًا، سنة 2017، قبل أن ترتفع، منذ سنة 2018، لتصل إلى حوالي 5.7 مليار دولارًا، وتُعَدّ أذربيجان أحد أكبر أسواق السلاح الصهيوني، واشترت من دولة الاحتلال الصهيوني أنظمة رادار، (أميركية في الأصل، وقع تطويرها)، وطائرات آلية وغيرها، كما تُعَدُّ أذربيجان قاعدة صهيونية وأميركية متقدّمة للتجسس على إيران، وذكرت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية، (نيسان/أبريل 2012)، توقعات باستخدام الكيان الصهيوني القواعد الجوية لأذربيجان، لشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، واستهداف العلماء الإيرانيين، كما أشارت وسائل إعلام صهيونية، في نيسان/أبريل 2018، إلى توقيع أذربيجان اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، من ضمنها السماح للطائرات العسكرية الصهيونية بالإقلاع من القواعد العسكرية في أذربيجان، واحتمال استخدامها لشن عدوان على إيران، حليفة أرمينيا، ومن حين لآخر تقصف طائرات آلية صهيونية، (منذ سنة 2016)، مواقع للجيش الأرمني في إقليم “ناغورنو كارباخ”. (4)
وما هي إلا أيام قليلة تمر على انتصار “إردوغان” في معركة “ناغورنو كارباخ” بحسم الصراع لصالح أذربيجان، حتى نشطت أصابعه في منطقة أخرى من أوروبا.. كانت هذه المرة في قلب “باريس” ذاتها، التي اشتعلت مع بداية خريف 2020؛ بأزمة الرسوم المسيئة لرسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي وقع خلالها الرئيس الفرنسي، “إيمانويل ماكرون”، أسيرًا لحظه السيء بين شقي رحى اليمين المسيحي الفرنسي المتطرف، المتمتع بقوة داخلية راسخة شعبيًا جعلت من زعيمته، “مارين لوبان”، منافسة شرسة وغريمة سياسية يخشاها ماكرون، وبين اليمين الإسلامي (التركي-الإخواني)، ما وضع ماكرون في ركن ضيق جعله يتصرف بشكل أهوج في إدارته للأزمة؛ نظرًا لعدم قوته السياسية وإفتقاره لأي مشروع “فكري/سياسي” قوي بديل يمكنه الخروج من مأزقه، اللهم إلا الرطانة بالمقولات الليبرالية وحرية التعبير وهي ما تم اصطياده منها؛ لكونها إشكاليات فلسفية مطاطية حمالة أوجه يتم توظيفها سياسيًا لصالح إيديولوجيات راسخة الوضوح.
أما “إردوغان” فقد أحسن كعادته استغلال فرصتها، سواء لترك بصماته السياسية أو لحلب ظروفها لآخر قطرة تغذية لمصالحه، فقاد حملة الدعاية النفسية التي نفذتها عناصر “جماعة الإخوان المسلمين” ضد فرنسا وكانت من أبرزها وأهمها حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية التي أرادها “إردوغان” لكي تلغي – أو على الأقل تُفقد فاعلية – الحملة المشابهة ضد المنتجات التركية التي كانت قد أطلقتها “العربية السعودية”، متزعمة المحور الخليجي المصري، قبل أيام من أزمة الرسوم المسيئة !
عدم الخروج عن النص
وكما للممثل المسرحي ضوء أحمر يُضاء تحذيرًا في وجهه إن خرج عن النص المُصاغ له، كان للرئيس التركي الطموح بعضًا من فرك الأذن تحذيرًا من مغبة شططه داخل عاصمة النور الأوروبية.. ففي بداية شهر تشرين ثان/نوفمبر 2020، أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية حظر جمعية “الذئاب الرمادية” على أراضيها، وهي حركة تركية قومية متطرفة تأسست، نهاية الستينيات من القرن الماضي، جامعة شبابًا يؤمنون بنظرية “تفوق العرق التركي”، ويطمحون إلى توحيد المنتمين إلى القومية التركية حول العالم في بلد واحد، وأصبحت الجناح العسكري المسلح لـ”حزب الحركة القومية” التركي المتطرف.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، قررت حكومة مقاطعة “النمسا العليا” شمالي النمسا، وقف جميع أشكال التمويل الحكومي لـ”جماعة الإخوان المسلمين” وغيرها من تنظيمات الإسلام السياسي، وتشكيل لجنة خبراء لرصد تحركاتها وهياكلها. وقال حاكم مقاطعة “النمسا العليا”، “توماس ستيلزر”: “على الرغم من جهودنا لإدماج الأشخاص من ذوي الخلفية المهاجرة في المجتمع، تلعب الجمعيات والمنظمات الإسلامية المتطرفة مثل الإخوان وغيرها، دورًا سلبيًا لإعاقة الإندماج”.
وبرغم ما كانت تشكله النمسا كـ”حاضنة” مهمة لتنظيم “الإخوان المسلمين” في أوروبا، لا سيما وأن النمسا تعترف بالإسلام ديانة رسمية، وقانونها القضائي يسمح بالشراكات المتعددة بين الدولة والمجتمعات الدينية. وقد اتخذ “الإخوان” من النمسا مقرًا للممارسة نشاطهم بشكل مريح، ودون أيّ ملاحقات حقيقية، لذا استطاعوا تنفيذ نشاطات تجارية وخيرية علنية، وأخرى سرّية، بدعم من قيادة الجماعة في المنطقة العربية.
ولكن هذا لم يمنع أن تهتز عاصمتها، “فيينا”، بحوادث قتل وإرهاب على الهوية الدينية، في تشرين ثان/نوفمبر 2020، مما دفع “كارل نيهامير”، وزير داخلية النمسا، للإعلان عن مصادرة أكثر من 20 مليون يورو، (23.6 مليون دولار)، من أموال “جماعة الإخوان” ومعظمها أصول والباقي أموال سائلة، مشيرًا إلى أن التحقيقات أثبتت أن هذه الأموال تستخدم في “تمويل الإرهاب”. وقال وزير داخلية النمسا، حسبما نقل عنه موقع (كورير)، إن: “أكثر من 20 مليون يورو من الأصول؛ تمت مصادرتها وتجميدها في المداهمات التي تم شنها على مقرات لجماعة الإخوان المسلمين”، مضيفًا أن: “الأموال كانت تستخدم في تمويل الإرهاب”.
بل وذهب مجلس الوزراء النمساوي برئاسة المستشار، “سيباستيان كورتس”، إلى أبعد من تلك الإجراءات الأمنية ضد “جماعة الإخوان المسلمين”، وشرع في إستحداث جريمة جنائية تحت مسمى “الإسلام السياسي”، وقال “كورتس”: “سنستحدث جريمة جنائية تسمى الإسلام السياسي؛ حتى نتمكن من اتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين ليسوا إرهابيين، لكنهم يخلقون أرضية خصبة لهم”. (5)
وإن كان الغرب الأوروبي لم يتحرك ضد الشطط الإردوغاني الراتع بالمنطقة منذ سنوات؛ إلا حينما وصلت ألسنة لهيبه إلى عواصم مدنه المتشدقة بالقشور الديمقراطية، إلا وكان الموقف الأميركي من السياسات التركية الإردوغانية أكثر وضوحًا وتصويبًا إلى ما يُهم دائمًا الإدارات الأميركية من الحفاظ على مصالحها الخاصة جدًا.. فقد أوضح “مايك بومبيو”، وزير الخارجية الأميركي، لصحيفة (لو فيغارو) الفرنسية اليومية: “نتفق أنا والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على أن تصرفات تركيا في الآونة الأخيرة عدوانية للغاية”، مشيرًا إلى دعم تركيا، لـ”أذربيجان”، في صراع “ناغورنو قرة باغ” مع أرمينيا، وكذلك التحركات العسكرية في ليبيا والبحر المتوسط. وأضاف أنه: “يجب على أوروبا والولايات المتحدة العمل سويًا لإقناع إردوغان بأن مثل هذه التصرفات ليست في مصلحة شعبه”. وتابع قائلاً إن زيادة استخدام القدرة العسكرية التركية مبعث قلق.
ويتضح أكثر موطن القلق الأميركي من جنوح السلوك الإدروغاني مؤخرًا؛ حينما يتداول نواب “مجلس الشيوخ” الأميركي حول قانون ميزانية الدفاع لعام 2021، المعروف باسم “قانون ترخيص الدفاع الوطني”، بعد ما أضاف أعضاء المجلس فقرة تدعو الرئيس الأميركي، “دونالد ترامب”، إلى فرض عقوبات على تركيا في غضون 30 يومًا. وتشير الفقرة المذكورة إلى أن شراء تركيا منظومة صواريخ الدفاع الجوي، (إس-400) الروسية، يُشكل “مخالفة جسيمة” لقانون “مواجهة خصوم أميركا بالعقوبات”، الصادر عام 2017، والذي يقتضي معاقبة أي دولة تعقد صفقة أسلحة كبيرة مع روسيا.
ويدعو مشروع قانون ميزانية الدفاع الجديدة إلى فرض 5 عقوبات أو أكثر على تركيا بموجب قانون “مواجهة خصوم أميركا بالعقوبات”. وينُص مشروع “قانون ترخيص الدفاع” الجديد على أن العقوبات الواجب فرضها على تركيا لا يجب أن تُرفع إلا في حالة إعلانها التوقف عن تشغيل منظومة صواريخ (إس-400) الروسية.
وكالعادة تنطلق الآراء والتحليلات – التي لا ترى أبعد من موضع قدمها – مؤكدة على استمرار الموقف الأميركي المُستاء من السياسات التركية؛ بل وتحوله إلى توتر ملحوظ بعد وصول إدارة الرئيس المنتخب، “جو بايدن” إلى البيت الأبيض.. مثلما ترى، “هدى رزق”، في تحليلها لانتكاسة العلاقات “الأميركية-التركية”؛ بأن تركيا تختلف عما كانت عليه من قبل، والتي كانت تلتزم بما تريده الولايات المتحدة والغرب، وبعد فشل مشروع الولايات المتحدة بتسليم الإسلاميين للسلطة في مصر، حاول “إردوغان” أن يكمل هذا المشروع، على أمل أن يُعيد سيطرة تركيا على العالم العربي بواسطة الإسلام السياسي، ومن هنا بدأ فقدان الثقة بين “تركيا إردوغان” والغرب. وتستدرك قائلة: “لذلك ترى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية؛ أن لدى إردوغان مشروعه الخاص، ويقول أن تركيا دولة إقليمية قوية لديها استقلالها ولديها الحق بأن يكون لديها مشروعها الخاص، وتدخلها الأخير بيّن أن إردوغان يتدخل في أي منطقة صراع في المنطقة، بحجة المصالح الاقتصادية أو القومية أو غيرها”.
وترى “رزق” أن: “إردوغان الآن يحاول اللجوء لروسيا والتحالف معها، ويقول بأن هناك خطوط جديدة في منطقة شرق المتوسط ومنطقة القوقاز، ويحاول الاستعانة بروسيا في المسألة الليبية وأذربيجان، لكن السؤال هل روسيا مستعدة لمساندة إردغان ؟”، وتجييب: “روسيا لا تثق فعليًا بإردوغان، وكما قال لافروف ليس هناك تحالف استراتيجية مع تركيا، بل هناك تحالفات حسب المنطقة، وأعتقد أن روسيا ستكون أقوى في تحالفها مع إردوغان، وهي تعي أن بايدن والديمقراطيين يقفون ضدها كما يقفون ضد إردوغان، لكن الغرب يحتاج إلى تركيا”.
وبرغم تلك الرؤى وأشباهها من التحليلات المستدعية للشفقة والضحك؛ والتي يُصّدرها خبراء ومحللون يدعون الاستراتيجية، مُصّرين بها على تضليل الرأي العام وقصر نظره على مساحة ضيقة مما يظهر من جبل الثلج فوق سطح مياه تغلي بمصالح وأطماع وتقاسمات تصل لحد صفقات الموت.. فتُصر تلك الرؤى القاصرة على إغفال الدور الحيوي والاستراتيجي الحقيقي الذي تلعبه تركيا، بقيادتها محور “تركي-قطري”، في المنطقة من تأجيج النزعات الدينية والقبلية والقومية والجهوية، سواء بشن الحروب النفسية “الفكرية/الإعلامية” أو عبر التدخل المباشر ميدانيًا في حروب وكالة ميليشياوية تسلمت بعضًا من مهام تنظيم (داعش)، الذي يعتمد حاليًا الضربات الخاطفة المتتالية في استراتيجيته الواسعة لحرب العصابات، بواسطة شبكة معقدة ومتداخلة من كارتيلات شركات السلاح الكبرى ومجموعات من شركات بيع المهام الأمنية متعددة الجنسيات التي – رغم ندرة المعلومات الموثقة عنها لطبيعتها الأمنية شديدة الحساسية؛ إلا ما يتساقط من معلومات نذيرة ببعض التقارير المسربة كافي للعلم بطبيعة الصورة – يتشارك فيها ضلعي مثلث الحروب الدينية، “إيران” و”الكيان الصهيوني”.
…………………………………………………
- العفيف الأخضر – “إنهيار رأسمالية الدولة الستالينية الأسباب والنتائج” – سلسلة (قضايا فكرية – الماركسية.. البيريسترويكا.. ومستقبل الاشتراكية) – (تشرين ثان) نوفمبر 1990.
- المرجع السابق.
- الطاهر المعز – “في كواليس الحرب بين أذربيجان وأرمينيا: بعض الخَلْفِيّات” – موقع (كنعان) – 19 تموز/يوليو 2020.
- الرجع السابق.
- نشوى الحفني – (يقظة متأخرة.. أوروبا تنتفض ضد “الإسلام السياسي” والنمسا تبدأ إجتثاث تنظيم “الإخوان المسلمين” !) – موقع (كتابات) – 16 تشرين ثان/نوفمبر 2020.