خاص : ترجمة – د. محمد بناية :
انطلقت مساعي الحكومة السعودية الجادة للتقارب مع العراق، بعد استضافة “الرياض”، بتاريخ 14 تشرين أول/أكتوبر 2020م، اجتماعات اللجنة الثنائية المشتركة مع العراق، لمناقشة استثمارات “السعودية” في “بغداد”، حيث يبلغ حجم هذه الاستثمارات 2.9 مليار دولار في مختلف المجالات، بالإضافة إلى حديث، “خالد بتال النجم”، وزير التخطيط العراقي، عن 6 آلاف مشروع مقترح للاستثمار، بقيمة 100 مليار دولار.
لكن الحديث عن خطوات “الرياض” العملية الرامية إلى التقارب مع “العراق”؛ وتعظيم الوجود السعودي في هذا البلد، بدأ في تشرين ثان/نوفمبر الماضي، بعد تقارير إعلامية عراقية عن احتمالات تخصيص ملايين الكيلومترات من صحارى “الأنبار، والنجف، والمثنى، والبصرة”، للمملكة العربية السعودية، بغرض الاستثمار. بحسب وكالة أنباء (إيرنا) الرسمية.
وفود وزارية وجهود حثيثة..
في أعقاب ذلك، أوفدت “السعودية” وفد رفيع المستوى من وزراء الأمن والاقتصاد والخدمات إلى “بغداد”؛ بغرض البحث في سُبل تطوير العلاقات الثنائية.
وهذه الزيارة الوزارية؛ وغيرها من اللقاءات على مدى أيام، إنما يعكس عزم “الرياض” الجاد على توطيد وجودها بالساحة العراقية، وتعميق علاقاتها مع الدول العربية، لاسيما بعد صعود، “مصطفى الكاظمي”، إلى منصب رئيس الوزراء في العراق.
وفي هذا الصدد، أجرى ولى العهد السعودي، “محمد بن سلمان”، اتصالاً هاتفيًا مع رئيس الوزراء العراقي؛ دعا خلاله إلى تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في القطاعات المختلفة، وعقب ذلك توجه وفد عسكري عراقي رفيع المستوى إلى “الرياض”.
وانتهت مفاوضات “الرياض” مع “بغداد” بفتح معبر (عرعر) الحدودي، وتدشين مشروع الطريق الرابط بين “النجف” والحدود السعودية، وكذلك الحديث عن افتتاح معبر آخر على حدود محافظة “المثنى” مع “السعودية”.
ومع استمرار الاتصالات، زار وفد وزاري سعودي آخر “بغداد”، الإثنين الماضي، والتقى رؤساء السلطات الثلاث، ووقعوا اتفاقيات استثمار جديدة، وعبر الطرف السعودي عن استعداده تعزيز العلاقات مع “بغداد” والتأكيد على افتتاح مبنى تجاري سعودي في العاصمة العراقية.
كيف تحول العدو إلى صديق ؟
لكن القرار السعودي، بشأن الوجود في “العراق” بهذه السرعة؛ أثار تعجب الأوساط السياسية والأمنية والاقتصادية والدينية العراقية.
فلقد أثار هذا التحول المفاجيء في الموقف السعودي تجاه العراق، ومحاولة تقنين الوجود السعودي بالعراق، في قالب العلاقات التجارية والاستثمارية، بالنسبة لهم الكثير من الأسئلة، ويتساءلون: كيف يتحول عدو العراق، منذ العام 2003م، إلى صديق بين عشية وضحاها، ويتطلع إلى تعزيز العلاقات مع العراقيين وقد كان سببًا رئيسًا في إيذاءهم على مدى السنوات الماضية ؟.
ومع انتشار أخبار احتمالات استثمار السعودية في جنوب العراق، طغت الاحتجاجات والانتقادات على المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والديني العراقي، وبدأ الحديث عن سوء تعامل السعودية مسبقًا مع العراق، وكيف أن هذا الوجود يمثل تهديدًا للأمن القومي العراقي.
ولم تهدأ “السعودية”، بعد الإطاحة بنظام “صدام حسين”، وتشكيل دولة ديمقراطية جديدة في “العراق” وتخلص الشعب من وطأة الحكم الاستبدادي والديكتاتوري البعثي وصعود الأغلبية الشعبية للسلطة، ورفضت “الرياض”، حتى كانون أول/ديسمبر 2015م، افتتاح سفارتها في “بغداد”، وقد حاول السفير السعودي، “ثامر السبهان”، التدخل بشكل كبير في الشأن العراقي الداخلي، وبلغ الأمر مرحلة مطالبة “العراق” رسميًا، بتاريخ 25 آب/أغسطس 2016م، تغيير “السبهان”، بسبب تصريحاته الطائفية وانتهاك الأعراف الدبلوماسية.
ولم يكن استمرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع العراق، بعد “صدام”، والتدخل السياسي في الشأن الداخلي العراقي، وحتى افتتاح السفارة السعودية، بعد 12 عامًا من الإطاحة بالنظام البعثي، التوجه السعودي العام تجاه النظام العراقي الجديد فقط، وإنما لم يتورعوا عن قتل العراقيين طول هذه السنوات عبر التنظيمات الإرهابية، ولم يتركوهم ينعمون بالهدوء بعد سنوات من الألم تحت سلطة “صدام”؛ وفتحوا عليهم عهود من القتل والتشريد، لاسيما في ظل الاحتلال الأميركي وتنظيم (داعش)، المدعوم عربيًا وغربيًا.
ويعتقد بعض خبراء الأمن العراقي، ارتكاب ما لا يقل عن 15 ألف إرهابي سعودي لكل أنواع الجرائم الإرهابية في العراق، وقد قام أكثر من 5 آلاف منهم بتفجير أنفسهم في عمليات انتحارية بالعراق.
ومازال الشعب العراقي يذكر جيدًا هذه السنوات السوداء من التعامل السعودي مع دولتهم، ولم تتقدم “الرياض” باعتذار عن إيفاد آلاف الإرهابيين إلى العراق أو على الأقل تغاضت عن نزوحهم على العراق.
وهذه السوابق السعودية السيئة؛ إنما تبعث على تخوف المسؤولين في “بغداد” حيال مستقبل الوجود السعودي في بلادهم، وأن ينظروا بعين الريبة لطبيعة العلاقات بين البلدين مستقبلًا، خوفًا من أن يؤدي وجود السعودية بـ”العراق” إلى مرحلة جديدة من الاضطرابات على غرار الأسلوب القديم، إذ من المحتمل أن تسيء السعودية استغلال حاجة العراق للاستثمارات والتطوير في ظل الأوضاع الاقتصادية المأزومة، باعتبارها نقطة ضعف للضغط على النظام السياسي العراقي في مصادرة القرار العراقي المستقل وتحويل العراق إلى ساحة للمنافسات الإقليمية.