بعد الدعوة الرسمية التي كان رئيس جمهورية العراق برهم صالح، قد وجهها الى قداسة البابا فرنسيس في حزيران (يونيو) 2019 لزيارة العراق، اعلنت الفاتيكان يوم الأثنين 7 كانون الأول (ديسمبر) 2020، ان البابا سيقوم بزيارة الى العراق من 5- 8 آذار (مارس) 2021، ويزور خلالها العاصمة بغداد وسهل أور ومدينة أربيل والموصل وقرقوش في سهل نينوى.
وتحظى زيارة البابا، وهي الأولى من نوعها في تاريخ العراق، بإهمية كبيرة وتلقى اهتماماً متزايداً، خاصة انها تشمل مدينة آور التاريخية في جنوب البلاد، حيث ولد النبي ابراهيم، وتعتبر مهداً للديانة الإبراهيمية ومكاناً مقدساً للديانات الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.
وتظل الآمال معقودة على ان تسهم زيارة البابا في تقوية النسيج الاجتماعي العراقي، وان تفتح آفاقاً جديدة في تعزيز مبدأ التعايش المشترك والتسامح ونبذ الخلافات والصراعات والنزاعات وتحقيق الوحدة الوطنية، ورفض التمييز على أساس عرقي أو ديني أو طائفي أو فكري أو سياسي، بما يفسح المجال لمشاركة أوسع للمسيحيين في العملية السياسية ومؤسسات الدولة.
وان تكون الزيارة، بادرة خير تبعث الأمل في نفوس المسيحيين للتشبث بأرض آبائهم وأجدادهم. إذ أن الحفاظ على النسيج الاجتماعي واعتماد مبدأ المواطنة كأساس لتحديد الحقوق والواجبات، ومد جسور التفاهم والتقارب وتعزيز الأخاء بين أتباع الديانات والمذاهب في العراق، مهمة حتمية لإرساء مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
ان المعطيات التاريخية تشير الى أن العراق كان، منذ الآف السنين، يتشكل من دويلات المدن التي أقامت فيها عشائر وقبائل ذات إثنيات وديانات ومذاهب متعددة. وعلى رغم أن كل جماعة اثنية كانت تتميز بخصائصها الدينية والثقافية والحضارية، بيد أنها، بفعل التعايش والتلاقح الحضاري المتبادل، اشتركت مع بعضها في العديد من السمات والتقاليد والعادات، وعاشت في منطقة إقليمية واحدة هي ميسوبوتاميا (وادي الرافدين) أو العراق الحالي. حينها، ازدهرت مدارس المسيحيين، وكان لهم فلاسفة وعلماء ومؤرخين وفلكيين ومترجمين، لعبوا دوراً بارزاً في إثراء الثقافة والعلوم.
بيد ان السياسات الخاطئة التي انتهجتها الأنظمة التي تعاقبت على حكم العراق، منذ قيام الدولة الحديثة، أضعفت فرص معالجة حقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب بطرق إنسانية وعادلة وعلى ضوء المبادئ التي أقرتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، إذ اضعف الظلم والتعسف الذي مارسه النظام السابق ومصادرته حريات الشعب، بسبب الانتماءات القومية والدينية والمذهبية وزرع الفرقة، الوشائج التي كانت ولا تزال تربط المكونات العراقية.
وقد تغيرت، بعد عام 2003 صورة الانتهاكات التي طالت المكون المسيحي في العراق، إذ قامت بها التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة والمليشيات السائبة المؤمنة بالعنف والتطرف، ما أودى بحياة عشرات المسيحيين الأبرياء في بغداد والبصرة والموصل وكركوك، وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وحرق محلاتهم ومراكز أعمالهم التجارية وطالتهم عمليات تهجير قسري وقتل على الهوية في الموصل وبغداد والبصرة، من دون أن تكشف الحكومة عن الجناة أو تقوم بتقديمهم إلى المحاكم.
وادت تلك الأوضاع المرعبة والمأسوية، إلى هجرة العائلات المسيحية الى مدن إقليم كردستان أو إلى دول العالم، وما زال نزيف الهجرة قائماً في ظل استمرار عمليات إفراغ العراق من مسيحييه الذين تراجع عددهم من مليون ونصف المليون نسمة في العام 2003 إلى قرابة 250 ألفاً، ما يعني انخفاضاً في نسبتهم السكانية بحدود 85 في المئة.
ولم تقم الحكومات العراقية المتعاقبة بعد العام 2003 بالحيلولة دون ترسيخ المشاعر المعادية للمسيحيين، سكان البلاد الأصليين، الذين خيرهم “داعش” بعد سقوط الموصل في عام 2014 ، بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة بيوتهم وأراضيهم، ما أدى إلى نزوح 125 ألف مسيحي، لم يتم تعويضهم عن ممتلكاتهم التي سُرقت ونُهبت أو تم الاستيلاء عليها سواء في الموصل أو في بغداد أو غيرها.
ان حماية المسيحيين والحيلولة دون رحيلهم إلى خارج موطنهم الأصلي، تقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة العراقية، عبر العمل الجاد لتغيير الصورة النمطية الراهنة إزاء حقوقهم ومعالجة التجاوزات التي تقع عليهم، وتطبيق ما جاء في الدستور العراقي في ما يخص أتباع الديانات والمذاهب في العراق.
ان التعدد القومي والإثني في العراق، يشكل ظاهرة إيجابية تُغني المجتمع ويمكن توظيفه لصالح تطور الفرد والمجتمع، من خلال صياغة استراتيجيات جديدة تؤكد على العيش المشترك والتفاعل والتلاقح والتلاحم، بدلاً من الفرقة والصراع والنزاع، وتستند إلى التجارب المريرة السابقة والمبادئ العامة للمجتمع المدني الديموقراطي التعددي، من أجل تأصيل التضامن والاخاء وتعزيز احترام حقوق الانسان وتصفية آثار الانتهاكات الشنيعة السابقة لهذه الحقوق. كما يتطلب احترام خصوصية المسيحيين العراقيين، وحمايتهم من الاستهدافات المتكررة، عبر إجراءات عملية، منها معاقبة الجناة، وتعويض الضحايا، واستعادة أملاكهم، وإعمار مناطقهم وتحسين الخدمات وتسهيل ظروف عودتهم الى ديارهم.
لا شك في أن غنى العراق، هو حصيلة التاريخ المادي والروحي للشعوب التي عاشت فيه منذ أقدم العصور. ومن الصعوبة بمكان، النهوض بالعراق الجديد من دون ربط الجسور بين الحضارات السابقة وتأثيراتها، وبين الواقع الحاضر حيث تعيش تلك الشعوب، وبين ما يُراد تأسيسه في العراق من حضارة انسانية مدنية حديثة.
اننا اليوم بحاجة ماسة الى استنهاض هذا الكم الكبير من التراث العراقي، ولكن ضمن سياقه التاريخي، أي أن نضع كل لبنة منه في مكانها الصحيح، تاريخياً وعمرانياً وثقافياً. لأن الحضارة الجبارة، التي نعتز بها اليوم، لم تكن من صنع حاكم معين، أو سلالة بعينها أو جنس (عنصر، عرق)، إنما هي نتيجة تضحيات هائلة قدمها سكان هذه المنطقة عبر آلاف السنين، فامتزجت عناصرها ومكوناتها، تماماً كما امتزجت دماء ودموع وموروثات أبنائها وبناتها في وحدة تاريخية – بشرية عضوية يستحيل الفصل بينها.
فهل ستعزز زيارة بابا الفاتيكان ورسالته للسلام والتسامح، حقوق المسيحيين، خاصة وهم ثاني أكبرديانة في العراق ويمثلون أقدم المجتمعات المسيحية في منطقة الشرق الاوسط؟ وهل ستفلح الزيارة في طمأنتهم وحماية وجودهم وافساح المجال أمامهم للمشاركة في مؤسسات الدولة وأجهزتها الامنية، والحد من التغيير الديموغرافي في مناطقهم؟