فاضل السباعي.. استوحى قصصه من عمله في المحاكم وتعرض للتهميش

فاضل السباعي.. استوحى قصصه من عمله في المحاكم وتعرض للتهميش

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“فاضل أبو السعود السباعي” كاتب قصصي وروائي سوري. ألف أكثر من 35 كتاباً، وترجمت كتاباته إلى العديد من اللغات “الفرنسية والإنكليزية والروسية والألمانية”، وهو عضو مؤسس باتحاد الكتاب العرب، ومقرر جمعية الرواية والقصة في الاتحاد لعدد من السنوات.

حياته..

ولد في مدينة حلب، حصل على شهادة الابتدائية عام 1943 وشهادة الدراسة الثانوية في 1950. حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة 1954، عمل مدرسا في الفترة ما بين 1954- 1958 ومحام في الفترة مابين 1955- 1957. كان موظف في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل خلال سنوات 1958-1969، ثم عمل في المكتب المركزي للإحصاء 1969-1972 وشغل منصب مدير الإحصاء في دمشق. كان عضوا في لجنة التخطيط في الشؤون الثقافية بجامعة دمشق 1978-1982. هو عضو مؤسس اتحاد الكتاب العرب بدمشق.

قصصه..

استوحى بعض قصصه من تجاربه في المحاكم، مثل “ذقون في الهواء”، إحدى قصص مجموعته “حياة جديدة”، التي أذاعها راديو حلب عام 1957، وحكم عليه بالحبس لعشرة أيام بسببها.

كتب “فاضل السباعي” قصص ومقالات أدبية ونقدية خلال عمله كمحام ونشرتها في المجلات العربية. عمل أيضاً في مجال الحكومي، وكان مشرفا على الجمعيات الإنتاجية. وفي أول العام 1963 عاد السباعي إلى الشؤون الاجتماعية والعمل معاونا للمدير، وفي أواخره عُيِّن مديراً لمعهد سيف الدولة في إحدى ضواحي حلب ونُقِل منصبه إلى دمشق في 1967 واستوطن فيها.

سافر إلی باريس في1977 والتحق بدورة الأرشيف. ثم رجع إلى سوريا ونقل من جامعة دمشق إلى الإدارة المركزية في وزارة التعليم العالي، مديرا في الترجمة والنشر. ترك العمل الحكومي رسميا في 2 نوفمبر 1982 وقصد أن يتفرغ للكتابة. أسّس دار إشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع بدمشق عام 1987.

تزوج “فاضل السباعي” في 1950 وله أربعة أولاد (سوزان وسهير وخلود وابنه فراس). أقام بمصر 4 سنوات. زار لبنان والأردن وليبيا والجزائر وتونس، ، أقام بفرنسا مدة 9 أشهر وزار ألمانيا والولايات المتحدة. اعتقل مرة في أيام عمله في وزارة التعليم العالي في لحظة خروجه من جامعة حلب، خلال عيد الميلاد لعام 1980.في أكتوبر 2013 هاجر سوريا إلى فلوريدا، الولايات المتحدة الأمريكية مع عائلته.

أعماله..

  • الشوق واللقاء: قصص، 1958.
  • ضيف من الشرف: قصص، 1959، نشرت في ما بعد تحت عنوان: الظماء والينبوع في 1946.
  • مواطن أمام القضاء: قصص، 1959.
  • الليلة الأخيرة، قصص، 1961.
  • نجوم لا تحصی: قصص، 1962.
  • حياة جديدة: قصص، 1964.
  • حزن حتی الموت: قصص، 1975.
  • رحلة حنان: قصص، 1975.
  • الابتسام في الأيّام الصعبة: قصص، 1983.
  • الألم علی نار هادئة: قصص، 1982.
  • اعترافات ناس طيّبين: قصص، 1990.
  • ثم أزهر الحزن: رواية، 1963.
  • ثريا: رواية،1963.
  • رياح كانون: رواية، 1968.
  • التب: رواية، 1992.
  • الزعيم إبراهيم هنانو، ثورته ومحاكمته: دراسة التاريخية والسيرة، 1961.
  • عقبة بن نافع: سيرة، 1975.
  • طارق بن زياد: سيرة، 1975.
  • عمر المختار: سيرة، 1975.
  • موسی بن نصير: سيرة، 1975.
  • عمر بن العاص: سيرة، 1975.
  • غومة المحمودي: سيرة، 1975.
  • عبد الكريم الخطابي: سيرة، 1977.
  • عبد الرحمن الكواكبي: سيرة، 1975.
  • سليمان الباروني: سيرة، 1975.
  • عبد الحميد بن باديس: سيرة، 1976.
  • إلی المغرب: رحلة، 1977.

قلق الإبداع..

في حوار معه أجرته “سمر وعر” يقول “فاضل السباعي” عن كتابته للأدب: “أود الاعتراف بأنني اقتحمت في عهد الشباب الأول كتابة الرواية مرتين، الأولى وأنا في المرحلة الإعدادية، والثانية في المرحلة الثانوية، أسهبت في المحاولة الأولى حتى أحسست بالضياع فتوقفت، وتأنيت في الثانية وتأنقت في اللغة حتى مللت فتوقفت. وفي المرحلة الجامعية كتبت كثيرا من القصص القصيرة، ولكني ظللت أرنو بعيني إلى الرواية وكانت أول قصصي الطويلة “ناديا، ضيف من الشرق، ثم أزهر الحزن، رياح كانون””.

ويواصل: “يسكنني القلق تلقاء الإبداع في بحثي عن الفكرة المضيئة، وفي التقاطها لحظة تشرق في الخاطر احتضنها أحنو عليها كي تتفتق عملاً صغيراً أو كبيراً، وبعد إنجاز هذا العمل أدعه جانبا مدة لأعود إليه وقد تحررت من اللحظة النفسية التي رأى النور في ظلها، فأقرأه بعين أخرى”.

وعن ترجمة أعماله يقول: “لاشك إنه لسرور عظيم، فإنه من الممتع أن تعلم أن ما تخطه يدك يذاع بين الناس وليس بين أبناء قومك وحسب.أقول أنا لست كاتبا عالميا ولكنني أكتب أدباً عالمياً- تجاوزت به حدود سورية إلى العالم- بدليل أنه يترجم ورغم هذا أنا لم آخذ حقي في المجتمع السوري من الناحية الأدبية والثقافية”.

نقد على الهوية..

في حوار له مع صحيفة “أشرعة” يقول “فاضل السباعي” عن النقد: ” من مقومات النقد الصحيح ، كما أرى: النزاهة، هذه التي تعني: الصدق، والأمانة، والعدل والشرف والإحساس بالجمال، وقبل ذلك النزاهة في اختيار الكتاب المنقود موضوعاً للدراسة قبل غيره. النقد  العربي يمارس على الهوية (الأدبية، السياسية، الشخصية) فالكاتب محكوم عليه مسبقاً، مصنف بانتمائه إلى هذه الفئة أو تلك، بالفعل أو بالافتعال. إن القارئ العربي بشكل خاص، يتوقع دائما في الرواية الوطنية، انتصار محاربيه على العدو، ذات يوم، همس في أذني أحد الكتاب: ”أني إن كتبت عن أدبك وأثنيت، لم أضمن أن ينشروا لي ما أكتبه عنك، ولا أمنت إن يوصدوا في وجهي أبواب النشر بعد ذلك”.

وعن قصصه يواصل: “قصصي “المسيّسة”، تلك التي أتصدّى فيها لممارسات القهر والفساد و”الشموليّة” – وهي تأخذ حيِّزًا في مجموع نِتاجي القصصي عبر ستين عامًا من الكتابة والتأليف – توسّلتُ غالبًا بـ”فنّ الفانتازيا” (الخيال الغرائبي) أسلوبًا للمعالجة القصصية، فيه أُجرّد الحوادث من مكانٍ تقع فيه وزمانٍ تسري في فضائه، ولا أسمّي أبطالها بسوى حرف من الحروف الهجائية، إمعانًا مني في الابتعاد عن الواقع المعيش، يَحدوني في هذا ظنٌّ بأني أُمتِع قرائي وأمنَع عن نفسي أن تمتدّ إليّ يد الأنظمة الشموليّة بالأذيّة، وبدا لي أني كثيرا ما أفلحتُ!

متحرر من العقد..

في مقالة بعنوان (فاضل السباعي آخر رواد القصة العرب يرحل في دمشق) يقول “إبراهيم الجبين”: “بقي السباعي، طيلة حياته، وحتى رحيله الأسبوع الماضي في دمشق ذاتها التي عاد إليها من أميركا بعد العام 2011، ينظر إلى نفسه كمثقف متحلّل من كافة العقد التي أصابت وضربت أعراضها جسد الثقافة العربية، لاسيما الأبعاد المناطقية منها، والطائفية والعرقية. لم يكن هذا همّ السباعي. التاريخ وحده هو ما كان يشغله، الماضي ورجاله وتفاصيله. كيف لا وهو من أعاد كتابة تاريخ كثّر نعرفهم اليوم، وفق الطريقة التي قدمهم بها السباعي ذات يوم. ومن بينهم طارق بن زياد وموسى بن نصير وعمرو بن العاص وغيرهم.

ويضيف: “كانت بداية السباعي من الشعر. ومنه انتقل إلى الرواية والقصة القصيرة. ورغم أنه كان غزير الإنتاج متعدّد المواهب، وسبق له أن أسهم في كل مفاصل الحراك الثقافي السوري، مرورا بتأسيس اتحاد الكتاب العرب في دمشق في العام 1969، إلا أن السباعي بقي يشعر بإصرار الطبقة المتحكمة في الوسط الثقافي على تهميشه. جلب معه إلى دمشق في الخمسينات قصصا كتبها في حلب، وأصدرها في كتاب اختار له عنوان “الشوق واللقاء”. ثم تدفقت أعماله، وكان من أكثرها شهرة “ثم أزهر الحزن” و”ثريا” و”رياح كانون” و”الطبل”. بقيت أعمال السباعي في تصاعد فني لافت، وفي تنوع في الاهتمامات والرؤى، من السير الذاتية إلى أدب الرحلة، لكنّ منعطفا حادا جعله يتوقف ويغيّر مساره. كان ذلك حين انتفضت فئات اجتماعية ونقابات سورية في وجه الاستبداد، بداية الثمانينات. حينها ظن السباعي أن مكانته الأدبية ستعفيه من أن يعامل مثله مثل أي سوري آخر، فاتخذ موقفا قاده إلى السجن والاعتقال، يروي السباعي مستحضرا أن جامعة حلب دعته إلى لقاء جمعه مع طلاب قسم اللغة العربية، تحدث خلال ساعتين عن تجربتيه القصصية والروائية، قال “سردت في نهايته قصة ألهبت أكف الطلاب حماسة بقدر ما أثارت عليّ من غضب السلطة، التي بادرت باعتقالي لحظة خروجي من الجامعة، ولم يُطلق سراحي إلا بمساعٍ من أصدقائي، بعد أن قضيت أيام عيد الميلاد عام 1980، في زنزانة رطبة في معتقل بالعاصمة دمشق، وصنفوني في عداد الخارجين عن القانون”.

ومما وصفه السباعي عن تلك التجربة قوله “اقتادوني يومها إلى زنزانة منفردة في معتقل (باب مصلّى) في دمشق، نمتُ على البلاط ونحن في عزّ الشتاء، بطانيّة تحتي وملتحفًا بأخرى، وكانتا في غاية القذارة، بعد الإفراج عنّي قلت، في إحدى الإذاعات الناطقة بالعربية: كأنهم يريدون لسجين الرأي أن يموت من القهر والبرد والجراثيم. وقد خرجت من الاعتقال أحمل في صدري فكرة قصة، كتبتها، وحفظتها في أوراقي، إلى أن آن لي، بعد 12 عاما، أن أنشرها في كتاب””.

وفاته..

توفي “فاضل السباعي” عن عمر 91 عاماً، في 22 نوفمبر 2020 في تدويناته الأخيرة عبر صفحته الشخصية على “فيسبوك”، كان السباعي يصور بعض ما يعانيه مع المرض، وفي حديث دوّن منذ نحو أسبوعين قبل وفاته قال “يا الله، لقد أتعبتني أوجاع الجسد، وصروف الحياة، فخذني إليك يا الله”.

قصة لفاضل السباعي..

“امرأتان

أمام دكان الخضري، وقفتْ شابة، كان أكثر ما يميّزها أنها تلبس قميصاً أبيض.. وراحت تسأل البائع:

“بكم كيلو الخيار؟ بكم كيلو الكوسة ؟..”

والرجل يجيبها.. وهي تطلب منه:

“زن لي من هذا كيلو واحداً، ومن ذاك اثنين.. وهذه البندورة بكم؟”.

– بليرة، يا خانم.

– زن لي منها كيلو واحداً، ولكني أريدها متماسكة للسلطَة!

تناول البائع كيساً، وراح يملؤه من الخيار الرفيع الذي يحاكي الأنامل دقة واستواء، وملأ كيساً آخر بالكوسة الغضّة اللّماعة التي تغري ربة البيت بحفرها وحشوها.

* * *

في هذه الأثناء، توقّفت أمام الدكان، امرأة تتجلبب بالملاءة السوداء وتسدل على وجهها منديلاً بلون الليل.

كشفت المنديل عن جانب من وجهها، وأخذت تبحث بعينيها عن ضالتها، ألقت نظرة سريعة إلى سحّارات الخُضر المعروضة في مقدمة الدكان، ثم أرسلت ناظريها إلى ما دونها.

لمحت هناك تحت رف الميزان، قفّة صغيرة، قد جمع فيها البيّاع كل ما تخلّف عنده من أسقاط البندورة.. سألته، بصوت خفيض، وهي تشير إلى القفّة:

“بكم الكيلو من.. تلك البندورة؟”

نظر إليها البائع، وهو يتابع ملء الكيس بحبات البندورة المنتقاة للسيدة ذات القميص الأبيض، وأجاب:

“القفّة كلها.. بليرة واحدة!”

– طيّب، هاتها لي”

– معك “وعاء”؟

من تحت ملاءتها، أخرجت المرأة، ذات المنديل الأسود، حقيبة مهترئة، فيما كانت عيناها تتابعان البحث عن.. أشياء أخرى، لمحت، في ركن من الدكان، قفّة ثانية، فيها حبات من الكوسة، المكسورة والمشقوقة والمبيضّ لونها.

– وتلك الكوسة.. بكم؟

– خذيها كلها بـ.. نصف ليرة!

* * *

اهتم البائع بوضع الأكياس الثلاثة في الشبكة النايلونية، التي فتحت له فوهتها الشابة ذات القميص الأبيض، وترك المرأة الأخرى، التي جلست القرفصاء، تفرغ في حقيبتها ما في القفتين الاثنتين.

كانت السيدة الشابة تتلقّى مساعدة البائع، وعيناها إلى المرأة المقرفصة: كيف دلقت، في حقيبتها، الكوسة، ثم فرشت فوقها رُقاقة من نايلون كانت معها، وبعدئذ راحت تنقل حبات البندورة، المبعوجة والمتعفّنة.. والتي يسيل منها ماؤها!

أحسّت الشابة في حلقها غصّة، ودّت لو تفعل شيئاً من أجل هذه المرأة، التي يبدو البؤس في ملبسها، وفي بحثها عن لقمتها، ثم في ترتيبها مشترياتها المتعفّنة في حقيبتها الناصلة اللون.

وقبل أن تدفع للخضري ما ترتّب عليها، اقتربت من المرأة، وانحنت عليها، لتقول موشوشة:

“هل تسمحين لي، يا أخت، بأن أدفع ثمن أشيائك هذه، وثمن كل ما تحتاجين إليه من خضر أنتقيها لك؟”

رفعت المرأة، الكاشفة منديلها عن جانب من وجهها، إلى السيدة المنحنية فوقها، عينين سوداوين، متألقتين، وإن بدتْ حولهما تغضّنات حفرتها يد الزمن.. أجابت، وهي تهزّ رأسها يمنة ويسرة، وقد ارتسمت على محيّاها ابتسامة ما:

“لا، شكراً لك، يا بنتي!”

لم تفاجأ السيدة الشابة بهذا الردّ، لا ولم يخالجها أي شعور بالأسف. على العكس، لقد نزل “الاعتذار” الأبيّ، على قلبها برداً وسلاماً. انقلب عطفها إلى إكبار، وزايلتها غصّتها وكلّ ما شعرت به من المرارة.

* * *

قبل أن تمضي السيدة الشابة، وقفت ترقب المرأة، التي أسدلت، الآن، منديلها على وجهها كله، وهي تمشي الهوينى تحت وطأة حقيبتها الثقيلة.

تمنّت لو أنها كانت تستطيع، لحظة تلّقت منها اعتذارها، أن تقبلها من جبينها الوضّاء، من عينيها، اللتين لم تشفّا عن أيما أثارة من ذلّ البؤس أو الانكسار، بل كانتا متألقتين بالكبرياء، وبمضاء العزم على اجتياز فلوات الحياة بالاعتماد على النفس وحدها.

وأحسّت أنّ شيئاً ما، ساخناً، يترقرق في عينيها.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة