تتباين وجهات نظر الخبراء الاسرائيليين حول مايتعين اتخاذه من سياسات إزاء البرنامج النووي الايراني رغم
اتفاقهم على انه احد اهم التحديات التي تواجه ” اسرائيل ” وأمنها في هذه المرحلة . الهدف الذي يتفق عليه جميعهم هو ضرورة ايقاف تقدمه ، سواء من حيث نوعية مخرجاته المادية والمعرفية او كميتها ، ويتباينون في تحديد الوسائل اللازمة لذلك . غير ان جميع المهتمين الاسرائيليين في الموضوع متفقون على ان حرباً محدودة النطاق او استهدافاً لإحدى حلقاته لن يشكل الحل النهائي للمشكلة ، ولن تشكل تلك الإجراءات حلاً يتجاوز كونها عمليات اعاقة وتأجيل ، وهم يتفقون على ماقد يؤول اليه البرنامج النووي الايراني على المدى المتوسط او البعيد ، وهو امتلاك الخبرة والمواد والتجهيزات الكافية لصناعة عدة رؤوس نووية ، ويختلفون عند هذه النقطة في تحديد نوع السياسة التي يتعين انتهاجها ، التعايش او المواجهة ام التخلي المتبادل عن جزء او كل من الرؤوس او الحلقات الخطرة في البرامج النووية لدى الطرفين . لكل وجهة نظر في هذا المسلسل سأقدم وجهة نظر لشخصية ذات اعتبار في مجال البحث . ابدأ برأي احد رجال الاستخبارات الاسرائيليين السابقين في الاطار العام للمشكلة :
دينيس سيترينوڤيتش ، ضابط مخابرات مخضرم عمل في اجهزة استخبارات عدة في ” اسرائيل ” لمدة ٢٥ عاماً ، ويعمل حالياً كبيراً للباحثين في معهد ابا إيبان للديبلوماسية الدولية . نشرت له مؤخراً دراسة على موقع معهد واشنطن ، اهم ماورد فيها :
١- ان ايران قد تصرفت بشكل محسوب فيما يتعلق ببرنامجها النووي منذ ان أوقفت تجاربها الخاصة بإنتاج قنبلة نووية عام ٢٠٠٣ ؛ منذ تلك السنة تم التركيز على تطوير برامج التخصيب والتمسك بحقها فيه ، مع الالتزام بالخطوط الحمراء من حيث كمية ودرجة التخصيب .
٢- تعرضت ايران لضغوط دولية كبيرة انتهت بتوقيع الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ والذي فرض قيوداً مشددة على البرنامج النووي الايراني وفق آجال محددة ، وتستطيع ايران بعدها التوسع في أنشطتها النووية تحت نظام للرقابة والتحقق ، وتكون مخرجات برنامجها النووي انذاك مخصصة لاغراض تجارية ، وبما يساعدها على تحسين ظروفها الاقتصادية من ما يؤمنه من موارد مالية .
٣- اتخذت ” اسرائيل ” موقفاً سلبياً من المفاوضات النووية مع ايران وما نتج عنها من اتفاق عام ٢٠١٥ ، وقد بذلت في هذا المجال جهداً كبيراً وصل حد التدخل في الحياة السياسية الداخلية للولايات المتحدة ، ولكن جهودها باءت بالفشل مما ادى الى عقد الاتفاق بعيداً عن متطلباتها ، واصبحت معزولة لوحدها في مواجهة ايران على هذا الصعيد .
٤- جاء ترامپ وقرر الانسحاب من الاتفاق النووي رغم المعارضة الدولية ، وتبنى سياسة الضغط الأقصى والعقوبات بهدف ارغام ايران للتخلي عن برنامجها النووي . في المقابل ناورت ايران بورقة التخصيب مجدداً لتظهر للعالم ” الثمن الذي سيدفعه في حال عدم عودة مختلف الاطراف الى الاتفاق النووي ” ، ومع قدوم ادارة امريكية جديدة يتم طرح فكرة العودة للمفاوضات .
٥- ستواجه العودة للمفاوضات صعوبات كثيرة ولعل من أهمها هي زيادة نفوذ المتشددين الايرانيين على الملف النووي ، وهم يصرون على ان تتضمن اي مفاوضات جديدة ” رفع العقوبات بالكامل ، والتعويض عن الخسائر التي سببتها العقوبات ، والسماح لايران بالاحتفاظ بقدراتها النووية القائمة باعتبارها جزءا من آمن البلاد وفقاً لرأي مختلف الاطياف السياسية في البلاد ” .
٦- من المرجح ان النقطة الوحيدة التي يمكن البدء بها ، في ظل التداعيات والتعقيدات التي نجمت عن سياسة ترامپ ، تنحصر في امكانية تمديد المهل الزمنية في الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ ؛ ومن غير المرجح ان تقبل ايران بقيود على طبيعة النشاطات النووية المسموح بها وفق الاتفاق ( وخاصة التخصيب بعد كسر بعض حلقات دورة الوقود النووي مثل تصنيع قضبان الوقود الخاصة بمفاعلات الماء الثقيل ) ، وسترفض ايران اي بحث في برنامجها الصاروخي او نفوذها الاقليمي .
٧- يوصي كاتب الدراسة ان تتعامل ” اسرائيل ” مع المفاوضات القادمة بروح ايجابية والانخراط فيها والتخلي عن آية أفكار تتعلق بتفكيك البرنامج النووي الايراني ، لان هذه الافكار لاتحظى بقبول من القوى الكبرى ، وان تعمل على بعض القضايا الاخرى لتضمينها في اي اتفاق جديد مثل إطالة المهل الزمنية في الاتفاق النووي الى ابعد مدى زمني ممكن ، واعادة العمل بنظام التفتيش المباغت Intrusive inspection regime الذي يؤمن وصولاً مباغتاً غير مشروط لاي موقع او شخصية لاغراض التحقق والتفتيش .
٨- يعتقد كاتب الدراسة ان البرنامج الصاروخي الايراني لايمثل تهديداً كبيراً لأمن اسرائيل بحكم الجغرافيا وقدرات ” اسرائيل ” الدفاعية ضد الصواريخ ، وان بحث موضوع الصواريخ ، ان تم ادراجه في اتفاق ، فهذا يعني انه سيشمل انواع محددة منها واعتبار ماتبقى مشروعاً لاتستطيع ” اسرائيل ” البحث في شرعيته مستقبلاً ، لكنها قد تكون تهديداً في أيدي وكلاء ايران الاقرب لاسرائيل . ان تهديد آمن ” اسرائيل ” ينحصر في تنامي القدرات النووية الايرانية ، والتي يتعذر ايقافها الا من خلال اتفاق .
٨- من المهم ان تسعى ” اسرائيل ” لتغيير البيئة الستراتيجية من خلال مواصلة العمل على التقارب مع الدول العربية والسعي لصياغة تخالف عربي – اسرائيلي وخصوصاً مع دول الخليج العربي ، يشكل فيه الأعضاء العرب ضغطاً اضافياً على المجتمع الدولي والإدارة الامريكية لمواصلة الضغط على ايران من اجل تثبيت خطوط حمراء صارمة تشكل جزءاً اساسياً من اي اتفاق نووي جديد .
هذه وجهة نظر رجل مسلح بخبرة طويلة في العمل الاستخباري السري لصالح ” اسرائيل ” وستراتيجيتها الصهيونية ، وهو لإيميل الى ايران ولايقول مايقوله اويقدمه من توصيات بهدف ” التودد ” لايران ، وهذا تعبير استخدمه مرة احد المعلقين على احد منشوراتي لتوصيف موقف اوباما من ايران ، وسألته حينها عما اذا كان هنالك مصدر واحد ذو قيمة علمية ، ولو بالحد الأدنى ، من مصادر المعرفة في مجال العلاقات الدولية يستطيع ان يصنف كلمة ” تودد ” تحت اي عنوان فرعي في الفهرست ،،
ادارة العلاقات الدولية هي شكل من اشكال السياسة ، وهي بالتالي فن ادارة الموارد المتاحة من اجل خدمة المصالح ، وهذا يقتضي معرفة الوقائع على الارض ، وحساب المتاح من الموارد ، وتحديد ماهي النسبة التي يمكن تأمينها من الهدف العام وعلى اساس ذلك تدار السياسة ؛ وحين تقصر الموارد عن تحقيق الهدف النهائي ، يكون هنالك افتراق ، مؤقت او ربما دائم ، بين السياسة والستراتيجية .