18 ديسمبر، 2024 9:20 م

ان الذين يتراكضون وراء المناصب ، طمعاً بالحصول على الامتيازات ، والجاه العريض والنفوذ الواسع ، ليسوا بالقليلين ….
وان عُبّاد الدنيا، لايتورعون عن كثير من الانحدارات الخلقية ، وهم في غمرة مساعيهم المحمومه لأصطياد تلك المناصب ….
وانهم يُريقون ماء وجوههم ، ويعرضون انفسهم لألوان من الإمتهان والذل في سبيل تلك الشهوة الرهيبة .
ويتحول بعضهم الى كيانات ممسوخة، خالية من جوهر الانسانية وروحها، إرضاءً لاسيادهم من السلطويين
والامثلة والشواهد على هذه الحالة أكبر من ان تقع تحت العد والاحصاء …
ويندر ان نجد العازفين عن المناصب، ايثاراً لكرامتهم ،وثوابتهم العقائدية والاخلاقية ..!!
انهم كالعملة النادرة، لا في ايامنا الراهنة فحسب بل في كل الاعصار والأمصار .
المثال التاريخي :
ومن تلك القلة النادرة …
مجد الدين ابن الأثير ، الاخ الأكبر لصاحب الكامل –
ومجد الدين صاحب كتب معروفة مشهورة :
( كالنهاية في غريب الحديث والاثر )
و(كجامع الاصول في احاديث الرسول ) …. وغيرهما
وهذا الرجل كان قد مارس الاعمال الرسمية ردحاً من الزمن ….
كان في (ديوان الرسائل) في الموصل ، وقد استطاع ان يكون مرموق المكانة لدى امرائها …
وقد أصابَهُ الشلل فأقعده عن الكتابة ، واضطر الى اعتزال العمل وملازمة المنزل ، والانصراف الى مهمات التأليف والإملاء ….
ولسنا هنا بصدد الإفاضة في ترجمته الشخصية، ولكننا نريد ان نقف ، على قصة طريفة ذكرها اخوه (صاحب الكامل)خلاصتها :
ان طبيبا من أهل المغرب زار الأسرة ووقف على مرض (مجد الدين) فأبدى استعداده لمعالجته حتى الشفاء، دون ان ينال أجراً إلاّ بعد تمام الشفاء، فتحسنت حالتُه ، ولانت أطرافُه ، واقترب من البُرء حقاً .
غير أنَّ (مجد الدين) أَمَرَ أن يُصرف للطبيب المغربي أجره ، وينصرف ..!!
أنّ تحسن صحته واستجابته للعلاج على يد الطبيب المغربي ، يجعلان من المستغرب جداً ، أمره الصادر بانهاء العلاقة مع الطبيب المغربي .
انه بَدَلَ الايصاء بمزيد العناية به أَمَرَ بان ينصرف عنه ..!!
فما هي أسباب ذلك ؟
ويجيب أخوه (عز الدين) قائلاً :
{ فقلتُ له :
لماذا ؟ وقد ظهر نُحجُ معاناته ؟
فقال :
((الأمر كما تقول، ولكني في راحةٍ مما كُنْتُ فيه، من صُحبة هؤلاء القوم ، والالتزام بأخطارهم،وقد سكنتْ روحي الى الانقطاع والدعة .
وقد كنتُ بالامس وأنا معافىً ، أذل نفسي بالسعي اليهم ،
وهنا أنا اليوم قاعدٌ في منزلي ، فاذا طرأت لهم أمورٌ ضرورية جاؤني بأنفسهم لأخذ رأيي .
وبين هذا وذاك كثير .
ولم يكن سبب هذا إلاّ هذا المرض ، فما أرى زواله ولا معالجته ، ولم يبق من العمر الاّ القليل فدعني أعيش باقيه حراً سليما من الذُل ، وقد أخذتُ منه أوفر حظ ))
إنّ للحرية والكرامة والعزّة أثمانا باهظة ، لابُدَّ ان تُدفع …
وأين الأحرار من العبيد ؟
إنّ (مجد الدين) حين اعتزل العمل الوظيفيّ ، طغت عليه صفته العلمية ، والعلماء يسعى اليهم الحكّام ، ولا يسعون هم الى الحكّام .
ان الذين يتسكعون على أبواب الحكّام ، يهدرون بأنفسهم  مكانتهم الرفيعة ومزاياهم السامية .
اننا نعتز بمثل موقف (مجد الدين) النابض بروح الاباء والشموخ .
انه فضّل ان يبقى مريضا، وهو بعيدٌ عن مَواطِن الإذلال التي كان يتعرض اليها ،على الصحة في ظلّ المداهنة والمصانعة للحكّام …
وهكذا تكون النفوس الكبيرة …
لقد رأيتم بأم أعينكم كيف وُبِّخ بعض السلطويين من قبل رئيسه، وكيف ابتلَعَ الأهانة العلنية ، حفاظا على كرسيّه دون ان ينبس ببنت شفة ..!!
وقديما قال المتنبي :
مَنْ يهن يسهل الهوانُ عليهِ
                  ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ
ومن لم يستلهم روح الإباء والعزّه من أبي الأحرار الامام الحسين (ع) فهو من الخاسرين لا في الآخرة وحدها بل في الدنيا والآخرة .

[email protected]