انفرد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) دون سائر أهل الإسلام بل دون سائر البشرية سواء من أتباع الأديان نستعرض في ما يلي بعض الآيات القرآنية التي تشير الى وجود بشر سبقوا وجود آدم، مع الالتفات الى أني في معظم الأحيان قد اجتهدت في تفسير هذه الآيات مع الإشارة باقتضاب الى أقوال مشهور المفسرين، أي التفسير المتعارف، كما سأتناول التفسير الشاذ (حسب فهم المشهور) والذي قد أقدِّمه لأسباب سأشرحها في حينه بإذن الله تعالى.
وقبل الشروع في تفصيل الآيات لا بد من أن نعرف مقدماً أن نصوص الأئمة أيدت النصوص السابقة بتفصيل آخر، وهذا التفصيل سنعرف أهميته القصوى عند شروعنا في تفسير الآيات، وهو أن الأئمة رفضوا الفهم السائد أن حواء خلقت من آدم أو بعض أعضاءه، وهو الضلع الأيسر حسب مشهور المحدثين والمفسرين، ولا بد أن نعرف أيضاً أن هذا الفهم سرى الى النصوص الإسلامية من التوراة عبر اليهود الذين أسلموا بعد وفاة رسول الله أو أعلنوا أنهم مسلمين، وكانوا أشد ضرراً في كل مراحل تأريخ الحديث.
أكَّد الأئمة أن خلق حواء كان مستقلاً عن خلق آدم، مع أن الروايات لا تشير إلى كيفية خلقها إلا أننا يمكننا وبوضوح أن نعي أنها جاءت ضمن التسلسل الطبيعي لخلق الإنسان كما سيتضح من بعض النصوص، أما الآيات التي تتحدث عن خلق آدم من طين، ومن ثم الروايات التي تحدثت عن بداية خلق آدم من طين ومن ثم على هيئة جسد دون روح فسنأتي على فهمها في محله.
روايات خلق حواء
((عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل جاء فيه …. وإنما سميت حواء حواء لأنها خلقت من الحيوان)). الصدوق، علل الشرائع 1 : 1، والمجلسي بحار الأنوار 10 : 13 و 11 : 102.
((عن أبي عبد الله (جعفر بن محمد الصادق) “عليه السلام” قال : سميت حواء حواء لأنها خلقت من حي)). الصدوق، علل الشرائع 1 : 16.
¬((عن زرارة قال سئل أبو عبد الله “جعفر بن محمد الصادق” (عليه السلام) كيف بدأ النسل من ذرية آدم عليه السلام فإن عندنا أناساً “يقولون : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم (عليه السلام) : أن يزوج بناته من بنيه، وأن هذه الخلق كلهم أصله من الإخوة والأخوات” قال أبو عبد الله (عليه السلام) : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيراً، يقول من يقول هذا : إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطيب؟. قال زرارة : ثم سُئل (عليه السلام) عن خلق حواء وقيل له : إن أناساً عندنا يقولون : إن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، قال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! يقول من يقول هذا : إن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه..)). ونفس المضمون عن الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3 : 379. والجزائري (المتوفي سنة 1112 هـ)، قصص الأنبياء 62. والمجلسي، بحار الأنوار 11 : 220 ـ 221.
((عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال : سألت أبا جعفر “محمد بن علي الباقر” (عليه السلام) : من أي شئ خلق الله حواء؟. فقال : أي شئ يقولون هذا الخلق؟. قلت : يقولون : إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم، فقال : كذبوا، أكان الله يُعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟)). العياشي 1 : 216.
أعتقد أن النصوص لا تحتاج الى تفسير معقد، فحواء حسب نصوص أئمة أهل البيت لم تخلق من ضلع، واعتبر الأئمة هذا القول جزافي مرفوض، وسمعنا في الروايتين الأوليين أن حواء خلقت من (حي، حيوان)، ومما لا شك فيه أن المقصود هو كائن حي، وقوله خلقت لا يعني أكثر من الولادة الطبيعية، وهو ما يطلقه القرآن على أي مولود بشري أو غير بشري. تبقى إشكالية قوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة)، وهي الإشكالية التي تعرض لها المفسر الكبير الرازي، وقد أجاب عنها ولكنه كان مضطراً تلقائياً أن يرفض النصوص التي وردت في مصادره السنية التي تجمع على أن حواء خلقت من جزء من أجزاء آدم (الضلع أو غيره)، وهو لم يصرح بمعتمده الحديثي في استدلاله وانما اكتفى بالرفض بناء على قوله الأخير (فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا “على خلق حواء من التراب، وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم)، وهو القول الذي رأيناه آنفاً عن أئمة أهل البيت، ولكن الرازي لم يذكر أنه استقى ذلك من أحاديث الأئمة كما فعل سابقاً بإشارته الى نصوص الأئمة حول وجود (ألف ألف آدم) التي تعرضنا لها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
وتعرض لنا هنا إشكالية قوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة) التي وردت في عدة آيات وهي:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}النساء1. النفس الواحدة الاولى التي انشطرت.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف189. وهذه الاية تتحدث عن النوع أي قوله (ليسكن إليها).
{خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }الزمر6.
{وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98.
فكيف نستطيع أن نخرج من هذا النفق الذي دخل فيه جل المفسرين؟، ولاحظنا محاولة الرازي الجيدة للخروج بقوله من أنفسكم أي من جنسكم، ولكنه استدلال غير مقنع للمتأمل، ومحاولة إيصال الاستدلال بقوله تعالى (وابعث فيهم رسولاً منهم) أو قوله تعالى (ولقد جاءكم رسول من أنفسكم)، لا تستقيم، لأن قوله (ابعث، جاءكم) ليست لها صلة بخلق وإنشاء، وإنما تتحدث مثل هذه الآيات الشريفة عن وصف لحالة ما لأناس موجودين ولا تتحدث عن ابتداع وأصل خلقة، كما هو واضح، وأما الآيات أعلاه فهي تتحدث عن أن أصل الخلق البشري وربما غيره يعود لنفس واحدة، وهذه الإشكالية أدَّت الى قول جل المفسرين أن حواء خلقت من آدم لفهمهم أن قوله تعالى(خلقكم من نفس واحدة) هي نفس آدم، ولكن لا توجد أي دلالة في النفس على ذلك، واتجاه المفسرين يمكن أن نعتذر لهم عنه أنهم غير مسبوقين بروايات ما قبل آدم، وهذا عن مفسري السنة أما بعض مفسري الشيعة فلا عذر لهم هنا، سوى الانسياق وراء الفهم العام الذي هيمن على العقل الإسلامي طيلة قرون متراكمة، حتى أصبح القول بخلافه مجازفة غير محمودة العواقب.
وقدحاول المفسر العبقري الرازي أن يخرج من هذا المأزق لعدم قناعته بقضية الضلع:
{(خلق منها زوجها) المراد حواء. قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم، أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم. قالوا : والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل، والجنسية علة الضم، وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم؟، ولم لا نقول : إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟، وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء، وأيضاً الذي يقال : إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح. بقي أن يقال : إذا لم نقل بذلك، فما المراد من كلمة (من) في قوله : (وجعل منها زوجها)، فنقول : قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه، وأخرى بحسب نوعه قال “عليه الصلاة والسلام” : “هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به” وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع. وقال عليه الصلاة والسلام : “في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون” والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم، والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنسانا مثله}. تفسير الرازي 15 : 89.
وبالرغم من عدم قناعة الرازي إلا أن جوابه لم يكن مجدياً هو الآخر، فإحالة الأمر الى قدرة الله تعالى وأنه قادر على كل شيء (مع تسليمنا بذلك) ليست جواباً شافياً وإلا فسوف نقف أمام عقبات كثيرة، وهي أن الله تعالى جعل للكون قوانين وسنن كما نص على ذلك في عدة آيات (ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولا تجد لسننا تحويلاً)، كما أن أئمة أهل البيت أكدوا على هذه الجهة، ((عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أبى الله ان يجرى الأشياء إلا بالأسباب)). الصفار (توفي 290 هـ) بصائر الدرجات 26 و525. الكليني، الكافي 1 : 183.
لذلك فإن كل المحاولات لتفسير خلق حواء بعيداً عن قصة الضلع التوراتية لم تعتمد على نص أو استدلال عقلي مقبول، باستثناء الروايات السالفة عن أئمة أهل البيت.
وأعتقد أن المراد بالنفس الواحدة في هذه الآيات هي الكائن الأول الذي خلق زوجه منه، بشكل أو آخر، وأرجح أن هذه الآيات تشير الى شكل من الانشطار الذي عبرت عنه بعض الروايات أن الكائنات الأولى كانت خنثى وأنها تكاثرت بإيلاد زوجها من داخلها، وهي روايات سنتعرض لها في محله بإذن الله تعالى.
وهنا يأتي السؤال المهم هل يوجد في القرآن الكريم ما يشير الى وجود كائنات بشرية قبل آدم؟. لأننا بعد اتضح لنا من خلال روايات الأئمة أن هناك بشرية كثيرة وموغلة في القدم سبقت آدم، فليس من المنطقي أن لا يشير القرآن الى هذه الحقيقة، وهو الذي تحدث عن خلق الانسان والكون في آيات كثيرة. في الواقع أشار القرآن الى وجود بشري سبق آدم في العديد من الآيات منها:
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} آل عمران33، وهذه الآية من أهم الآيات التي تشير بوضوح الى وجود بشري سبق وجود آدم وفي عرض وجوده أيضاً، فمفهوم الآية أن ألله اصطفى آدم على العالمين ونوح على العالمين وهكذا، ومن البديهي أن لفظ (العالمين) يقصد به الإنس والجان حسب ضرورات وواضحات القرآن الكريم. وقوله (اصطفى) أي اختار من بين العالمين مع تفضيل عليهم، وشاهدنا على ذلك عدة آيات أخرى:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}البقرة247. أي أن الله اختار طالوت (شاؤل) على بني اسرائيل وفضله عليهم.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} آل عمران42. نفس الأمر يقال هنا بخصوص مريم فاصطفائها كان على نساء عالمها.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} الأعراف144.
ولعل هذه الآية أشد الآيات وضوحاً بخصوص الاصطفاء.
وهذه الآية تعود بنا الى قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} البقرة213. والتي تدل بوضوح على أن مرحلة أو طور ماقبل النبوة كان الناس على مستوى واحد ولكنه لم يكن يستحق مرتبة الخلافة الالهية فأرسل الله النبيين وأولهم آدم كما هو من ضرورات العقيدة الإسلامية، ونفهم كذلك أن هناك بشر قبل آدم الذي تشرف بأن يكون أول نبي. فالآية تؤكد أن هناك (ناس) قبل أن يوجد نبي ولم يكن هناك اختلاف بينهم، وعدم وجود الاختلاف ليس لكونهم على مستوى عال من الرقي، وإنما سببه الحيوانية التي كان عليها المجتمع والبدائية التي سبقت أولى دلائل الحضارة التي انتقلت بالبشرية من عصر الصيد والالتقاط الى عصر الزراعة ومن ثم المدنية.
نستعرض الآن آية غاية في الأهمية تشير الى وجود بشرية سابقة على آدم، وهي قوله تعالى : {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} الشعراء 184.
قوله (الذي خلقكم والجبلة الأولين) قول شعيب لقومه، ونحن نعلم أن شعيب عاش في الفترة التي تلت ابراهيم ولوط مباشرة بدلالة السياق في سورة الشعراء وسورة هود فقد ذكر قبله لوط، كما أن شعيب قال كما في الذكر الحكيم {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} هود89. من المؤكد أن البعد هنا هو البعد الزماني، كما أن موقع قوم لوط ليس بعيداً عن المراكز التجارية التي كان يقصدها أهل مدين قوم شعيب. ونلاحظ أن الجبلة الاولين ليسوا الأمم السابقة كقوم لوط وهود وصالح ونوح، فهؤلاء ذكرهم على نحو العبرة بما أصابهم كما أن القرآن ذكرهم على نحو أقوام بشرية عاقلة مكلفة تمردت على أنبيائها، بينما لم يقل الأمر نفسه بشأن (الجبلة الأولين)، لأنهم كانوا قبل عصر الوعي والتكليف، وإنما جاء بذكرهم على نحو التذكير أن الله الذي خلقهم هو الذي خلق تلك الجبلة، التي يجب أن نعرف أنهم لم يسمهم القرآن (بشراً، أو إنسان)، لأن أمثال هذه الالفاظ اختصت بآدم وأبنائه، نعم هم بشر وإنسان في الاصطلاح العلمي كونهم يحملون نفس المواصفات الجسدية التي يحملها الإنسان الواعي بعد ذلك، ولكنهم كانوا خارج الوعي الذي عبر عنه القرآن بالروح التي نفخت في آدم، واختص آدم وذريته بخلافة الله في الأرض، وهو مفهوم سنأتي عليه في محله، أما قبل ذلك حيث كان عصر الفوضى التي عبر عنه القرآن بالفساد، حيث نعلم اعتراض الملائكة : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، وهذا الفساد فسرته آية أخرى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} البقرة205، كما أن اعتراض الملائكة لا يمكن أن نتوقعه حول فساد الكائنات الأخرى كالحيوانات، لأنها لا تفسد وإنما تتبع غريزتها لحماية نفسها سواء ببحثها عن الطعام أو الدفاع، ولا تخرب أو تدمر كما يفعل الإنسان، كما أن وصف (سفك الدماء) لا ينطبق بحال على الحيوان حتى المفترس منه لأنه لا يعد فساداً وإنما يعتبر أمراً مركوزاً في طبيعتها لغرض البقاء وليس لحب القتل أو الفوضى، وقد صرحت روايات أئمة أهل البيت بذلك:
((قال هشام بن سالم قال أبو عبد الله عليه السلام : وما علم الملائكة بقولهم ” أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ” لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء)). العياشي 1 : 29.
((علي بن الحسين في قوله : “وإذ قال ربك للملائكة انى جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” ردوا على الله فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟، وإنما قالوا ذلك بخلق مضى)). العياشي 1 : 30 ــ 31.
((عن زرارة قال دخلت على أبى جعفر (محمد بن علي الباقر) “عليه السلام” فسئلني ما عندك من أحاديث الشيعة، قلت : إن عندي منها شيئاً كثيراً قد هممت ان أوقد لها ناراً ثم أحرقها. قال : ولم؟، هات ما أنكرت منها. فخطر على بالى الادمون (الآدميون) فقال لي : ما كان على الملائكة حيث قال “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”)). العياشي 1 : 32. والصفار، بصائر الدرجات 256. وهذه الرواية صريحة أن الذين كانوا يفسدون في الأرض هم الآدميون السابقون على آدم الواعي.
وقد سمت بعض الروايات هؤلاء المفسدين في الأرض (النسناس)، كما جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي (المتوفي سنة 329) 1 : 36. والصدوق، علل الشرائع 1 : 104 ــ 106.
((الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن غالب، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال : سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول : إن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : أخبرني إن كنت عالماً عن الناس، وعن أشباه الناس، وعن النسناس؟، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا حسين، أجب الرجل. فقال الحسين (عليه السلام) : أما قولك : أخبرني عن الناس، فنحن الناس ولذلك قال الله تعالى ذكره في كتابه : “ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس” فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أفاض بالناس. وأما قولك : أشباه الناس، فهم شيعتنا وهم موالينا وهم منا، ولذلك قال إبراهيم (عليه السلام) : “فمن تبعني فإنه مني”. وأما قولك : النسناس، فهم السواد الأعظم وأشار بيده إلى جماعة الناس، ثم قال : “إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً”)). الكليني (المتوفي سنة 329)، الكافي 8 : 244 ــ 245. وتفسير فرات الكوفي 64 (المتوفي سنة352). وتفسير الرازي 32 : 156.
وقال العجلوني من علماء السنة:
((عن أبي هريرة “رضي الله عنه” من قوله : ذهب الناس وبقي النسناس. فقيل له : وما النسناس؟، قال : قوم يتشبهون بالناس وليسوا بناس، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس من قوله بلفظ : ذهب الناس وبقي النسناس، فقيل : وما النسناس؟، قال : الذين يتشبهون بالناس وليسوا بالناس، أي بالناس الكاملين، وفي المجالسة للدينوري عن الحسن البصري مثله بدون تفسير، وزاد لو تكاشفتم ما تدافنتم، وهو في غريب الهروي وفائق الزمخشري ونهاية ابن الأثير بدون زيادة ولا تفسير، وقال ابن الأثير قيل هم يأجوج ومأجوج، وقيل خلق على صورة الناس أشبهوهم في شئ وخالفوهم في شئ وليسوا من بني آدم، وقيل هم من بني آدم)). العجلوني، كشف الخفاء 1 : 418 ــ 419.
وهذه الروايات عن النسناس تكسف عن جانب مهم في بحثنا، إذ تعكس الرؤية الإسلامية عن ما قبل آدم الواعي، فهؤلاء الذين سبقوه على الأرض يشبهون الإنسان في أجسادهم ولكنهم ليسوا كذلك في وعيهم وعقلهم، وشأنهم شأن الحيوان الذين يعتاش لقوته، وربما تعطي هذه الروايات شيئاً من نقاط القوة لصالح مذهب داروين الذي ليس من مختصات هذا البحث الذي يركز على الرؤية الإسلامية عند أئمة أهل البيت حول هذه القضية.