قرر أن يعمل في العطلة الصيفية بعد إنهاء الصف الحادي عشر عسى أن يساهم في مصروف البيت ويوفر بعض النقود للسنة الدراسية القادمة. انضم إلى جماعات العمال المياومين الذي يذهبون إلى البلدة القريبة خلف الخط الأخضر. يغادر الفراش والنعاس ملء جفنيه، والشمس ما زالت مختبئة خلف الأفق. في كل يوم تبدأ الحركة في ساحة العمال قبل اكتمال انتشار الضياء. يصلها مبكراً بأمل متجدد في أن يكون حظه أفضل من اليوم الذي سبقه. أسوأ الأيام تلك التي يدفع فيها أجرة المواصلات من القرية إلى ساحة العمال في البلدة ومنها إلى القرية دون أن يحظى بعمل، كل شيء يهون عن هذه النتيجة. حتى العمل في تفريغ شاحنة الإسمنت الذي عمل به قبل أسبوع كانت آلامه أهون من نتيجة العودة فارغ الجيب واليدين.
أراد أن يبدأ يومه متفائلاً، أقنع نفسه أن هناك دائماً باباً للتفاؤل، يمكن أن تنفتح فيه طاقة للفرج من حيث لا يدري، ألم تكون هذه الطاقة هي التي أرسلت له ذلك الشاب القوي الصلب ليكون شريكه في العمل في تفريغ شاحنة الأسمنت؟ كانت أكياس الإسمنت ساخنة، يبدو أن الشحنة كانت قادمة مباشرة من المصنع، صَلَتْ جلده بسخونتها وهدّت جسمه النحيل بثقلها. هجمت عليه موجة قنوط حين تذكر ما مرّ به، كيف ترنح تحت الكيس الأول ثم مضى، لكنه أصرّ أن يصدّها، ومن أجل صدّ تلك الموجة قرر أن يتذكر الجانب المضيء من تلك التجربة. كانت تجربة أليمة، ورغم ذلك اعتبرها ناجحة إذ تعلّم منها أن يصبر وأن يأمل خيراً.
كان وقت الأمل بأن يحصل على عمل قد انقضى وبدأ يفكّر بالتوجه إلى السيارة التي ستعيده إلى القرية خالي الوفاض، حتى بدون خفي حنين، حين حضر ذلك الشخص في سيارة صغيرة وقال إنه يريد عاملين للعمل، واختاره مع ذلك الشاب. ركبا السيارة وانطلق بهما سائقها، لم يسأل لا هو ولا الشاب الآخر إلى أين يمضيا، المهم سيكون عمل وسينجو اليوم من العودة الخائبة. وصلت السيارة باب مخزن وأمامه شاحنة صغيرة. شرح لهما سائق السيارة الصغيرة، الذي تبين من حديثه أنه مقاول بناء يريد أن ينقل بالشاحنة الصغيرة أكياس الأسمنت إلى ورشة عمله في قرية مجاورة. تقدم الشاب الآخر من كومة أكياس الإسمنت التي يقف فوقها عامل في المخزن، حمل عامل المخزن كيسا وكأنه يحمل كيس خضروات صغير ووضعه على كتف الشاب الآخر الذي انطلق به نحو الشاحنة. تقدم ووقف في الوضع المطلوب ليلقي عامل المخزن بكيس على كتفه، كان الثقل هائلا، ترنّح قليلاً ثم مشى باتجاه الشاحنة، دفع بالكيس إلى أرضية صندوق الشاحنة ولحق بالشاب الذي انطلق مرة أخرى إلى المخزن. لم يشعر من الألم والصدمة كيف انتهت عملية التحميل. ركبوا إلى جانب السائق في الشاحنة التي انطلقت خلف سيارة المقاول. في الطريق لاحظ الشاب وضعه، كان في غاية اللطف والتضامن معه، قال له إن عليه فقط أن يبقى في صندوق الشاحنة ليجر الأكياس إلى طرفها ومن ثم يردّها على كتفه لينقلها من السيارة إلى الورشة. وكان ذلك، لكنه في الأكياس الأخيرة لم يستطع حتى جر الأكياس إلى طرف السيارة فكان الشاب الآخر يصعد إلى صندوق الشاحنة يجر الكيس ويوقفه عند طرف الصندوق ليقوم هو بدفعه إلى كتف الشاب. انتهى العمل، قبض الأجرة وطلب المقاول من صاحب الشاحنة الصغيرة أن يعيدهما إلى ساحة البلدة. تحدثا، كان الشاب الآخر لطيفاً جداً، قال إنه كان أصغر منه عندما بدأ العمل، وأنه يتمنى لو بقي في المدرسة مثله. رغم عضلاته التي تصيح من الألم، والحرارة التي يشعر بها في كتفه وظهره، شكر الشاب الذي نزل في الطريق عند المفرق المؤدي إلى قريته القريبة من الشارع الرئيسي.
بدأ عدد العمال الموجودين في الساحة انتظارا لمن يشتري قوة عملهم بالتناقص، كالعادة هو من الذين يختارهم المشغلون في النهاية، هذا إن حالفه الحظ، جسمه الأقرب إلى النحالة و”ترفعه” أو عدم رغبته في المزاحمة وعرض نفسه يجعلانه آخر المختارين إن تم اختياره.
ها هو رجل الدراجة النارية “الفسبا” يأتي ويستعرض المتبقين في الساحة. كم يكره نظرة هذا الرجل التي تستعرض الذين أمامه من الرأس حتى أخمص القدم، يفعل ذلك دون أن يترجل عن دراجته، عندما يصل إليه في النظر يسرع دون أن يتوقف في التفحص وكأن لسان حاله يقول “المكتوب يقرأ من عنوانه، ماذا بإمكان هذا الولد أن يعمل؟”، يأخذ عاملا أو عاملين ويمضي. وصل اليوم متأخرا على غير عادته، الوقت قريب من الضحى، والعمال المنتظرون في الساحة يعدون على أصابع اليد. جال رجل الفسبا نظره في المتبقين، وعندما وصله ابتسم ابتسامة صفراء ساخرة، وأشار له بسبابته أن تعال. تخيله يقول له “رغم نحافتك سأجربك اليوم”. رد عليه بعد تردد قليل “آسف أنا لديّ شغل”. كبر في عين نفسه ولم يفكر في الثمن الذي سيدفعه مقابل ذلك، العودة فارغ الجيب واليدين.