19 ديسمبر، 2024 1:01 ص

أية مهزلة في بلد يقوده الجهلة!

أية مهزلة في بلد يقوده الجهلة!

 

يوم 12 / 11 / 2020 شرع مجلس النواب قانون تمويل العجز المالي الذي نصت المادة 10 منه على ما يأتي: “إلغاء جميع الإعفاءات والاستثناءات الكمركية والضريبية الممنوحة للدول والمؤسسات الحكومية”. ومن مقارنة مسودة القانون التي أعدتها وزارة المالية وأقرها مجلس الوزراء وأرسلها إلى مجلس النواب بالنسخة الي أقرها مجلس النواب، يتبين أن المادة 10 أضافها مجلس النواب، باقتراح من اللجنة المالية على الأرجح.

ما الذي يترتب على تطبيق النص المبتسر للمادة 10؟ من حيث المبدأ، يشمل الإلغاء نوعين من الإعفاءات والاستثناءات: تلك الممنوحة للدول وتلك الممنوحة للمؤسسات الحكومية.

لا جدال في أن من حق الدولة أن تلغي الإعفاءات والاستثناءات الكمركية والضريبية الممنوحة للمؤسسات الحكومية لزيادة العائدات الضريبية والكمركية، لكن هل أن هذا الإلغاء سيزيد الإيرادات فعلا؟ أغلب المؤسسات الحكومية ممولة مركزيا، أي أن ما ستدفعه من ضرائب ورسوم كمركية ستأخذه من الموازنة العامة! ولاجدل أن عائدات الضرائب والرسوم ستزداد بتطبيق المادة 10، لكن هذه الزيادة حسابية فقط، فالتسديد سيكون للموازنة العامة والتعويض سيكون من الموازنة العامة أيضا، بلا زيادة فعلية في العائدات الضريبية والكمركية، فأي هراء هذا؟

على أي حال، وجهت وزارة المالية كل من الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك بكتابها ذي العدد 2073 في 22/11/2020 بإجراء اللازم لتطبيق المادة 10 من قانون تمويل العجز المالي. بدورها، عممت كل من الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك توجيه وزارة المالية على مديرياتها وأقسامها وفروعها بالكتابين ذوي العددين 14د/1995 و21294 على التتالي، وكلاهما مؤرخ في 22/11/2020. لكن بعد أقل من 24 ساعة، أي في 23/11/ 2020، أصدر المكتب الإعلامي لوزارة المالية بيانا توضيحيا بشأن الغاء الاعفاءات والاستثناءات الكمركية الممنوحة للدول والمؤسسات الحكومية (http://www.mof.gov.iq/Pages/MOFBannerHeadlineDetail.aspx?BannerNewsID=870) جاء فيه أن وزارة المالية خاطبت اللجنة المالية النيابية لبيان الرأي بشأن تطبيق أحكام المادة 10 من قانون تمويل العجز المالي لسنة 2020 وهل يشمل كافة للمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والاتفاقات الدولية والإعفاءات الممنوحة للعتبات المقدسة .وأشار البيان إلى أن المادة 10 من القانون قد تتعارض مع فقرات من قوانين نافذة مثل قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 وقانون الاستثمار الصناعي للقطاعين الخاص والمختلط رقم 20 لسنة 1998 وقانون المنظمات الحكومية (الصحيح “غير الحكومية”) رقم 12 لسنة 2010 وقانون إعفاء الشركات الأجنبية والمقاولين الثانويين الأجانب المتعاقدين في عقود جولات التراخيص من الرسوم رقم 46 لسنة 2017 وقانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنة 2013 والتزاماتنا مع منظمة التجارة العالمية والسوق العربية المشتركة والاتفاقيات التجارية الثنائية مع دول عديدة واتفاقيات دولية أخرى فضلا عن الإعفاءات الكمركية التي تمنح وفق أحكام قانون الكمارك رقم 23 لسنة 1984 والإعفاءات الاخرى الخاصة بشطب الديون المترتبة عن تأجيل الرسوم الكمركية وباقي القرارات الأخرى المتعلقة بالإعفاءات والرسوم الكمركية ضمن قوانين الوزارات الأخرى .

لنتمعن في ما جاء البان التوضيحي. أولا، قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 هدفه جذب المستثمرين وتوفير التسهيلات لهم. والمستثمرون بالطبع من القطاع الخاص المحلي والأجنبي، فكيف ينطبق عليهم توصيف “المؤسسات الحكومية”؟ وكذا الأمر فيما يخص المشمولين بقانون الاستثمار الصناعي للقطاعين الخاص والمختلط رقم 20 لسنة 1998. فالقطاع الخاص عموما والقطاع المختلط لا ينطبق عليهما توصيف “مؤسسات حكومية”، فما مبرر الإشارة إليهما في البان التوضيحي؟ أيضا، المنظمات غير الحكومية المشمولة بالقانون رقم 12 لسنة 2012 “غير حكومية” من تسمية القانون والتعريفات الواردة فيه، فبالله عليكم، كيف ينطبق عليها توصيف “مؤسسة حكومية”. لتجب وزارة المالية على هذا الأسئلة “الساذجة”!

ثم أكدت وزارة المالية مضمون البيان التوضيحي بكتابها ذي العدد 2101 في 23/11/2020 المعنون إلى كل من الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك وأضافت أنه “لحين ورود الإيضاح من مجلس النواب، فإن الوزارة ملتزمة بتطبيق مضمون القانون على كل مؤسسات الحكومة العراقية فقط بدون شمول القطاع الخاص والمؤسسات غير الحكومية أو أي دولة أو مؤسسة دولية تربطنا معهم (الصحيح “معها”) اتفاقيات تجارية أو إعفاءات ملزمة قانونا”.

المستغرب في كتاب وزارة المالية هذا توجيه الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك بتطبيق شطر من ما نصت عليه المادة 10 (المؤسسات الحكومية) وغض النظر عن الشطر الآخر (الدول). أي أن وزارة المالية وجهت بتطبيق انتقائي لمادة من القانون، فهل يصح ذلك؟ وبأية سلطة تخرق وزارة المالية القانون بالتوجيه بتطبيق جزء منه وغض النظر عن الجزء الآخر، سواء كان القانون صحيحا أم لآ؟

أيضا، لماذا انتظرت وزارة المالية 10 أيام لتوجه بتطبيق القانون ثم الاعتراض عليه بعد يوم واحد، لاسيما وأن المادة 12 نصت أن القانون نافذ المفعول من تاريخ إقراره؟ وأين كان ممثل الحكومة في مجلس النواب وممثلي وزارة المالية عندما أضافت اللجنة المالية المادة 10؟ ولماذا لم تعترض وزارة المالية أو مجلس الوزراء على إضافة المادة 10 قبل التصويت على القانون وإقراره؟

وعند التطبيق، كيف ستفسر الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك نغاذية المادة 10؟ أي هل أن النص سيطبق على العقود المبرمة قبل صدور القانون أم بعده؟ إذا كان الإلغاء سيطبق على العقود المبرمة قبل إقرار القانون، فتلك مشكلة كبرى. فالعقود المعنية لا بد ان تكون قد نصت على إعفاء ضريبي وكمركي، في حين أن نسبة ضريبة الدخل على عقود التجهيز تصل إلى 15% والرسوم الكمركية لا تقل عن 5 – 10%، فمن سيتحمل مسؤولية تسديد زهاء 20 – 25% من مبلغ العقد؟ وهل أن لمجلس النواب تصور يشأن النزاعات العقدية التي قد تنشأ لهذا السبب؟ هذا فضلا عن التشويه الذي سيلحق بسمعة حكومة العراق بسبب قرار ارتجالي كهذا.

يبقى أن أسوأ ما جاء في نص المادة 10 “الدول”. وحسنا أشارت وزارة المالية إلى شمول “الدول” بهذا الإلغاء يخالف العديد من المعاهدات والاتفاقيات الثنائية والعربية ولإقليمية والدولية التي العراق طرف فيها. وفي تقديري، أن هذا الإلغاء يخالف ما لا يقل عن 35 معاهدة واتفاقية دولية صدق عليها العراق. ثم أن تفسير “الدول” يمتد ليشمل البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية الموجودة في العراق. وإذا ألغيت هذه الإعفاءات والاستثناءات، ففي ذلك مخالفة لأحكام المادة 36 من معاهدة فيينا بشأن العلاقات الدبلوماسية لسنة 1962 والتي صدقت عليها حكومة العراق بالقانون رقم 20 لسنة 1962 ولأحكام الفصل الثاني “الإعفاءات الخاصة بالهيئات الدبلوماسية والقنصلية” من قانون الكمارك رقم 23 لسنة 1984 ولمبدأ المعاملة بالمثل. أيضا، إذا ما طبقت حكومة العراق نص المادة 10 حرفيا وألغت الإعفاءات والاستثناءات الكمركية والضريبية الممنوحة للبعثات الدبلوماسية، وهذا أمر وارد نظرا لأن الهيئة العامة للضرائب والهيئة العامة للكمارك تميلان عادة إلى التعسف في تفسير القوانين والتعليمات، فإن الدول التي تمثلها تلك البعثات ستلجأ إلى التعامل مع العراق بالمثل.

ومن أسخف ما تضمنه القانون نص المادة 12 “ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية وينفذ من تاريخ إقراره والتصويت عليه في مجلس النواب…”. فإقرار أي قانون في مجلس النواب يكون بالتصويت عليه بالأغلبية، فما الداعي لقول “إقراره” و”التصويت عليه”؟ فهذا حشو ولغو لا يصح أن يرد في نص قانون!

زبدة الكلام، عشنا رجبا ورأينا، ولا زلنا نرى، عجبا. فقد أصبح التشريع في العراق مهزلة و”خيط وخرابيط” وسمعة حكومة العراق ومجلس نوابه أضحت في الحضيض بفعل جهلة وسذج لا يفقهون بما يسطرون ويشرعون!

كان الله في عونك يا عراق، الذي فيك سطر حمورابي أول قانون مدون عرفته البشرية…