في السبعينيات كان بيتنا القديم يطل على شارع كبير في تقاطع هذا الشارع مجموعة من الباعة المتجولين …الذين يلتقطون أرزاقهم من بيع خضارهم وفاكهتهم ،بعض هذه البضائع المستوردة كان منها (التفاح اللبناني) وكنا نحن أبناء الفقراء … ننظر من بعيد لنرى عملية البيع والشراء التي يقوم بها هؤلاء الباعة لأصحاب السيارات الفارهة او العوائل المتمكنة … كنا حين تزداد سرعة الريح في شهر تشرين يدفع الهواء بالورق الذي يغلف هذا التفاح الى عتبات بيوتنا او بعض أزقتها ويتزامن هذا الامر مع تساقط قطرات المطر على الارض …ولأننا جياع فقراء … كنت واصحابي نحاول بكل ما أوتينا من سرعة التقاط هذه الأوراق وحين نمسك ببعض منها… نضعها على أفواهنا فرائحة التفاح كانت ملتصقة بها … وهذه العادة التي أدمناها قد تؤجل جوعنا المزمن ،ورائحة آلتراب اثناء تساقط المطر قد تلغي وحشة فضائنا المتناهي …
المهم ان صناديق التفاح والبرتقال والعرموط … تدفعنا الى الاقتراب من هؤلاء الباعة مرةً لأشباع غريزتنا بصرياً وأخرى للفرجة على عملية شراء المترفين والميسورين من باعة التفاح والفواكه الاخرى … كنا نندهش بجمال وكثرة المعروض وعناية الباعة ببضاعتهم ،
لقد هممنا الخطى انا وصديقي فرج (ابو اللوبيا) ( وعلي مهوس ) نمني النفس وبطوننا معاً … بتفاحة الجنة ،او برتقالة مدللة،او عرموطة مشتهاة …تمضي الساعات ولا احد منا يحصل على منيتهِ …لكن الغريب ان فراسة الباعة الفقراء او قل شجاعتهم … سبق كرم الميسورين ، فقد انبرى احدهم ليفتح لنا احد التفاحات (الأيلة للفسخ) كما يسمونها (المضروبة)
فما كان من صاحبهِ أقصد البائع الثاني الذي كان يضع احد الكتب على الميزان الذي يتوسط ( عربانته ) الا أن …يهزأهُ ويخاطب صاحبه بغضب … إن أردت أن تعطي إعطي بحب …كن رجلآ أيها الفقير…فالله ينظر إليك ..ان كنت تكرم أكرم بشجاعة ،حينها اخذ هذا البائع من صندوق بسطيته تفاحة وبرتقالتين وقسمها بيننا.
الذي مازال عالقآ في ذاكرتي وجهه الترابي، وشعره الأبيض الكثيف ،وعيناه المتعبتين ،وصوته المتهدج …لكن اكثر ما اثار انتباهي ،وانا الطالب في الصف السادس الابتدائي ، ترأى لي عنوان الكتاب وانا استلم التفاحة منه، وكأنها تفاحة أدم ، وعلى ما أذكرُ ان عنوان الكتاب (الوعي الشقي)…
حين غادرنا تقاطع شارعنا لوحنا لبائع الفواكه وجماعته بورقة التفاح بأيدينا الذابلة كأنها جريدُ نخل … لانعرف ان نقول لهم شكراً ، ربما الهتنا غنائمنا ( التفاحة والبرتقالتين ) لكنا أبتسمنا وانحنينا معاً لهم من بعيد
وقد لاحظناهم أنهم كانو يلوحون لنا بأيديهم بأيديهم ،
إلا البائع الذي اكرمنا بهداياه وأقصد صاحب ( الكتاب) فقد كان يرفع احد يديه يلوح بها والاخرى يشير بأصبعه على عنوان الكتاب الذي كان يحمله أقصد (الوعي الشقي) ….
لسنوات عديدة وبذاكرتي الصبي المتحجرة… مازلت احفظ عنوان الكتاب ( الوعي الشقي ) … وبعد سنوات وفي نهاية احد الأشهر وانا استلم ( خرجيتي ) من الوالد الذي هجر حقله في جنوب العراق ونسي اغانيه الحلوة واشتغل عامل كهرباء … ليرمم بطون ( اطفالهِ ذي مرخً ) ،أخرج والدي وهو يمسك بيدي اليسرى والعرق يملئ بدلتهُ الزرقاء من احد الجيوب نصف دينار ومن الجيب الاخر صحيفة يومية وقد دسهما بيدي وقد رجوتهُ أن ياخذني معهُ ذات يوم… الى الباب الشرقي لأشتري الكتاب الذي ظل يخدش عنوانهُ عقلي وبصري.
في احد الايام والوالد يمسك بيدي في (مصطر العمال) تحت جدارية فائق حسن …نظرت الى الجهة المقابلة من الشارع فجدت في ركن المصطر مكتبة (ابو ثامر) وحين سألته ياعم هل لديك كتاب ( الوعي الشقي) …نظر لي البائع بذهول وقال مالكَّ وهذا الشقاء ياابني، خذ مجلة مجلتي أو المزمار او مجلة العربي… تحت لهفتي وأصراري دخل ابو ثامر صاحب المكتبة وبعد وقت ليس بالقليل أعطاني الكتاب الذي حلمت به طويلاً …دفع والدي ثمن الكتاب… .
وبعد ان أمسكت بالكتاب تخيلت نفسي كأني أمسك بمصباح علاء الدين او كأنني بين علاء الدين والسندباد والذي اركبني سفينته …وتذكرت وانا الجائع قديمآ. الجائع الان ….أن ثمة مايرمم جوعي ويشبع فضولي الان ، وقلت :أنا املك ( الوعي الشقي ) …
حين بدأت بقرأة كتاب ( الوعي الشقي ) أخذتني الدهشة حين كبر الجوع وازدادت اللهفة ،الى طه حسين ، وعلي عبد الرازق والى صادق جلال العظم ومالك بن نبي وعلي الوردي وحسن حنفي ومحمد اراغون وهيجل وماركس ومحمد الماغوط وعبدالرحمن منيف …
لقد أفزعني تلويح بائع الفواكهِ في نهاية شارع مدينتنا وهو يلوح ليّ ( بالوعي )…لقد وصلت رسالتهُ كان يريد أن يذكرني أو يبوح لي بسر الأسرار إنَّا نفكر بشيء ونعيش شيأً وأراد أن يخبرني أيضاً ان في كل منا ضدهُ النوعي واننا متغالبون مرة.. ومتغانمون أخرى ومتناشزون ثالثة مع ناموس الكون ( أيُ شقاء نعيش ). وعرفت ان في صباح كل يوم ينهض البدوي فينا باحثآ عن غزوته وحين ينام يحضرُ التأريخ فينا ليكون معوذته …
اعرف اننا نشقى في الوعي ، ونتغطى بالجهل … مخافة أن ينبلج الحق … واعرف ان كل منا يجلد نفسهُ لخذلانه الحسين …وان المطالب بثأره من الظلم والجبروت لم يعد حاضراً الا على المنابر والوعي لم يعد إلا سبة عند أنفسنا …رغم انِا لم نخذل احد …
مازلنا نبحث عن أوراق التفاح … نحن الجياع وحين أمسكنا بالتفاح … وانتفخت بطوننا فقدنا البوصلة للخير وأضعنا الحرية…وتهنا في تعريف العدل طمعاً بجنة الأغنياء ،ونخدع الله حين نعتذر منه ونشكره على ذنبوب لم نقترٌفها بعد …
الوعي شقاء…ما أجمل شقاء الواعي وما العننا حين نرهنهُ بيد الظالمين؟؟؟