بالأمس رأینا كيف حاول البعض مسك الحقيقة من ذيلها، إذ قاموا بإخضاع نصوص الدستور للتأويل اللاموضوعي، من أجل التحوير والتحريف، غير مهتمين بالركن الأساسي في حكم عراق ما بعد سقوط تلك الدكتاتورية، ألا وهو التوافق السياسي، إذْ أن فقدان هذا التوافق سوف ينهي في العراق ما نسميه نحن الشراكة الحقيقية في الحكم.
ففي فجر يوم الخميس المصادف ١٢ تشرین الثاني ٢٠٢٠ تم تجاهل حقوق شعب كوردستان بعد أن صوّت نواب تابعين للقوی الشيعية والسنية في البرلمان الإتحادي على قانون الإقتراض الداخلي تجاوز بشكل صریح علی مبادئ الشراكة والتوافق والتوازن بين مكونات العراق، التي تأسست علی ضوئها العملية السياسية، تم بموجبه حجب حصة الإقليم من قانون الاقتراض، في وقت بدأت فيه الحکومة الإتحادية کخطوة إستفزازية بصرف رواتب موظفيها لشهرين متتالين.
نحن نعلم جيداً بأن الذين يستفردون بإقرار قانون تمويل العجز المالي من دون التوافق مع ممثلي شعب كوردستان و يتصدرون واجهة الدفاع عن طوائفهم ومذاهبهم ومعسكراتهم بالأفكار السائدة والأنظمة المتحكمة والشعارات الخاوية والمقولات المستهلكة لا يستطيعون القيام بمهام قضية العيش المشترك وبناء الدولة الناجحة والحکم الرشید.
إن إغفال مطالب الإقليم بهذا القانون من قبل نواب من الطائفتين السنية والشيعية وتجاهل إنسحاب نواب کافة الكتل السياسية في الإقليم بلا إستثناء من الجلسة البرلمانية عبر إتفاق مبرمج ومدعوم من قبل شبکات عنکبوتیة تابعة لجهات غير مجهولة عقوبة مالية و غبن مكون أساسي في العراق و ورقة ضغط سياسية علی الإقلیم و خطوة خطيرة هدفها نسف مبدأ التوافق والشراكة، لأن حصة الإقلیم من الإيرادات الإتحادية حق يکفله الدستور وليست هبة من طرف أو آخر.
فالعلاقات التضامنیة الكوردستانیة العراقیة المتبادلة والمواطنة والمساواة والتعایش المشترك یجب أن تعتمد علی فهم مبدأ التوافق لا العمل بمنطق الأکثرية والأقلية، إذ بدون ذلك یصعب المضي الی الأمام، لایکمن للعراق أن یستقر أو یتقدم علی أیدي أناس یعتبرون أنفسهم وحدهم ورثة العراق وکل مافیه، مهملين تحقيق المصالحة العامة والإنسجام مع إرادة شعب كوردستان.
إن تهميش شعب كوردستان وإقصائه والحط من مرتبته وقيمته والعودة الی أجواء التوتر والشکوك المتبادلة وقرع طبول التهدیدات وعودة شبح الدكتاتوریة والإستبداد لا ينفع بناء “العراق الموحد” أو إخراجه من براثن الجوع والفقر والبطالة والجهل. إن الإصلاح في جمهوریة الفساد يقتضي إعادة النظر في مسألة المصداقية المعرفية، بعيدة عن التعامل مع المعرفة بصورة أحادية نخبوية و هو يقتضي أيضاً أن تشكل ثقافة مضادة للهدر، تفتح الإمكان لاستغلال الموارد بصورة مثمرة و فعالة، بالإضافة الی خلق الفرص لأفراد المجتمع للمشاركة في إغناء و تطوير صيغ العقلنة وقيم التواصل و قواعد الشراكة الحقيقية.
فبدل العمل علی اجتراح الإمكانات لتأمين فرص العمل و أسواقه و شبكاته ، أو لتحسين شروط العيش لأوسع الفئات من الشعب العراقي يتهم نواب من الکتل السنية والشيعية الكورد بأنه هو السبب في فشلهم السياسي والإقتصادي، إذ يحملون المسؤولية علیه و يستخدمون الميزانية كسلاح سياسي لإضعاف أربيل وتحريض مواطني الإقليم على الاحتجاج ضد حكومته، هاربين من استحقاقات الكورد أو إيجاد الحلول للمآزق والكوارث والإفلاس و البطالة وعدم تحسين البنية التحتية وشروط العيش لأوسع فئات من الشعب العراقي. بمواقفهم و قراراتهم السلبية هذه سوف يدفعون عجلة تفاقم المشكلات واستعصاء الحلول نحو الأمام، لکنهم لايستطیعون التأثير علی مواقف شعب كوردستان المناضل و إيقاف سعي قيادته الحکيمة في الدفاع عن حقوقهم المشروعة والسير بسفية الإقليم نحو برّ الأمان.
ختاماً: في زمن ثورة المعلومات والعصر الرقمي لاتنفع الدولة الفاشلة وأصحاب الرؤی الرجعية إستخدام النماذج السياسية المستهلكة والبعيدة عن الشعور الإنساني العميق، المدرك لحكم المأساة وطبيعة الحياة وثقافة الحوار والتعددية والتعايش وقبول الآخر المختلف، ولاتنفعها النماذج القائمة علی فلسفة الاقصاء والتهميش وحرب الآخر والداعمة لهواجس وحسابات الربح والخسارة.