قبل ثلاث سنوات وتحديدا في نهاية العام 2017، جمعتني الصدفة بصديق كردي يسكن محافظة اربيل وبعد جلسة استعدنا فيها العديد مِن الذكريات والتحركات التي شهدها اقليم كردستان بعد “المحاولة الفاشلة” لاستفتاء الانفصال، وقرارات الحكومة المركزية في حينها التي كان رئيسها حيدر العبادي ومن ضمنها استعادة كركوك والتوقف عن ارسال الاموال لسلطات الاقليم، فكان الصديق يروي “بحسرة” معاناة المواطنين بسبب انقطاع الرواتب وكيف اصبح رواد المولات والمطاعم “الفخمة” غالبيتهم مِن نازحي المحافظات الغربية والسائحين مِن بقية مدن البلاد، بعد “العجز المالي” الذي اصاب جيوب المواطنين الكرد.
يكمل صديقي المقرب الذي يمثل طيبة المواطن الكردي حديثه عن تلك الايام، قائلا، كانت جيوب احزاب السلطة وعلى رأسهم الحزب الديمقراطي الكردستاني تغص بالاموال وارصدتهم ارتفعت ارقامها في البنوك الداخلية والخارجية، بينما يعيش المواطن حالة مِن الفقر تصاعدت مستوياتها بشكل كبير بسب السياسة الفاشلة التي تدير الاقليم، لكن “الاعتراض مرفوض” ولا يمكن التعبير عن الرفض لتلك السياسة والا سيكون مصيرك الاعتقال او الاتهام بالتعاون مع بغداد ضد ابناء شعبكم، حتى ان العديد مِن التظاهر خرجت في حينها للمطالبة بالرواتب لكنها، قوبلت بالقمع مِن قبل القوات الامنية التي تقف “متفرجة” امام سرقات العوائل لواردات النفط والمنافذ الحدودية التي ترفض ارسالها إلى الحكومة المركزية كجزء مِن اتفاق سابق، دائما ماتنقضه اربيل بحجج مختلفة، رغم ارتفاع تلك الاموال التي تصل مِن منفذ ابراهيم الخليل مع تركيا لوحده، اكثر مِن مائة مليار دينار شهريا، في وقت يصل عدد المنافذ في الاقليم نحو عشرين منفذاً ثمانية منها رسمية فقط، ولك عزيزي القارئ ان تتخيل كم يبلغ حجم الواردات التي ترفض السلطة في كردستان الاعلان عنها..
تذكرت هذا الحديث بعد اقرار قانون الاقتراض في مجلس النواب بمقاطعة مِن القوى الكردية التي وضعت العديد من الشروط قبل التصويت عليه، ومنها اضافة ثلاثمائة وعشرين مليار دينار شهريا لاقليم كردستان مقابل العودة للاتفاق السابق بعهد حكومة عبد المهدي في تصدير مئتين وخمسين الف برميل يوميا مِن نفط الاقليم، رغم انها لم تلتزم به مطلقا، لكن رفض بقية القوى السياسية لهذا الشروط بعد ضغوط جماهيرية وشعبية تصاعدت بشكل كبير بعد تاخر الرواتب، دفع القوى الكردية لعدم دخول الجلسة لانها كانت تعتقد بان البرلمان سيفشل بتمريره، لعدة اسباب ولعل في مقدمتها، وجود مصالح مشتركة مع بعض الاطراف قد تدفعها لكسر النصاب القانوني للجلسة، لكن ماحصل شكل “صدمة” دفعت زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني لاتهام القوى الشيعية والسنية “بالتأمر” على كردستان، ولَم يكتفي بذلك، ليعتبر بان “قانون الاقتراض طعنة اخرى في الظهر واستخدام قوت شعب كردستان كورقة للضغط على الاقليم”، في تصريح لا يمكن وصفه بغير “المحرض” ضد الحكومة المركزية ورفض الاعتراف بالتقصير.
لكن اكثر ما يثير الغرابة…. موقف رئيس الجمهورية برهم صالح، الذي تأسف لاقرار قانون الاقتراض “بغياب” القوى الكردية، وكانه يريد القول بان، النواب الكرد تم طردهم مِن جلسة البرلمان ولَم تكن مقاطعتهم باوامر مِن مسعود البارزاني وقياداتهم، ونحن ايضا.. ياسيادة الرئيس نتأسف لوجودك في منصب “حامي الدستور” في وقت تقدم نفسك وكأنك رئيس لجمهورية القوى الكردية وليس رئيسا للعراق الذي يضم مكونات لا يمكن حصرها “بعصابة” تسرق ابناء شعبها، وناسف مرة اخرى ياسيادة الرئيس، لاننا لم نسمع لك اعتراضا او انتقادا حينما تاخرت رواتب الموظفين والمتقاعدين، ولَم نسمع صوتك الرافض لقمع المحتجين وقتل المتظاهرين واختطاف الناشطين، كما يعلو اليوم، في رفض قانون الاقتراض الذي يعتبر “اسوء” الحلول لتوفير لقمة “عُبَّاد الله” في حكومة، شاركت سيادتك، بتقديم مصطفى الكاظمي كرئيس لها، ليس لامتيازات تذكر، انما لعلاقة صداقة تربط “الصبي بمعلمه” فقط، لكن مِن يتابع موقف النائبة الكردية الا الطالباني التي تمثل الجناح الذي ينتمي له رئيس الجمهورية ذاته، (الاتحاد الوطني الكردستاني) يجد الفرق الكبير بين “الانصاف والتخاذل” حتى لو كان حديث الطالباني بغضا بالحزب الديمقراطي، لكنها كلمة حق في وقتها، حيث ابلغتنا سيادة النائبة بان “ما حصل ليس بمؤامرة طائفية أو عرقية على الكرد بل هو نتيجة السياسة غير الشفافة لإدارة موارد الإقليم تجاه الشركاء، مؤكدة انه لا حل دون الجلوس مع الشركاء للوصول لحل جذري لجميع الملفات العالقة”، لتكون دليلا لا يقبل الشك عن وجود رفض داخلي لسياسة البارزاني وحزبه الذي يحاول “تشويه الحقائق”.
وفِي صورة يتحمل مسؤوليتها جميع مِن مارس سياسة الصمت تجاه “اطماع البارزاني” خلال الفترة الماضية، ظهر علينا احد نواب حزبه، ارام بالاتي، بنبرة تحمل رسالة “منية” واضحة، حينما قال “يصوت ضدنا بمجلس النواب، ويركب معنا الطيارة ليقضي إجازته في أربيل، لأننا منحناه هنا الأمان المفقود في مدنهم، فيمنحنا النكران، قليل من الوفاء يا أهل القيم”، وبدلا مِن ان يرد عليه نواب القوى السنية الذين يقصدهم بهذا الموقف خرج علينا مشعان الجبوري، متحدثا ان “إغفال مطالب اقليم كردستان بقانون الاقتراض وتجاهل انسحاب نوابه ومطالبهم عبر اتفاق النواب السنة والشيعة عمل غير صائب ويهدد مبدأ التوافق، واصفا موقف النواب السنة بانه نكران لجميل الاقليم مع اهلنا النازحين وتاكيد لتبعية اغلبهم للدولة العميقة التي مكنتهم من الوصول للبرلمان بحراب بنادقها”، وهذا يمثل قمة “الدونية” حينما يتبجح احدهم بان مافعلته السلطة لكردستان كان لعيون النازحين، وهي بالحقيقة، للاستفادة مِن اموالهم والمساعدات التي تمنحها الدول بعنوان النازحين، وليس كما يصورها الجبوري، الذي اختلطت عليه الموازين وتاهت عنده مقاييس المواقف، فكان عليه عدم نكران مواقف مقاتلي الحشد الشعبي، وليس الفصائل، في تحرير الارض واستقبال النازحين في محافظات الوسط والجنوب مِن دون مقابل، لكن يبدو ان عقدة “خالف تعرف” ستبقى منهاج السيد مشعان الجبوري المعروف بمواقفه المتقلبة بين فترة واخرى.
الخلاصة… واهم مِن يعتقد باننا تقف ضد مصالح الشعب الكردي ونؤيد اقتطاع رواتبهم، ابدا.. فالمواطن في كردستان والوسط والجنوب والغربية يعيش المعاناة ذاتها مع طبقة سياسية “تعيش على السرقات” واستغلال الخلافات لتأجيج النزعة الطائفية او القومية لتوفير الحماية لنفسها كما يفعل البارزاني، لكن ماحصل مِن “نكبة” للقيادات الكردية في اقرار قانون الاقتراض، يجب ان يكون البداية لاجبارها على الالتزام بالاتفاقيات وارسال الواردات مِن النفط والمنافذ مقابل الحصول على الاموال، اضافة الى تقديم ضمانات تؤكد بانها ستصل لموظفي الاقليم ومواطنيه وليس لجيوب السراق مِن عوائل السلطة… اخيرا… السؤال الذي لا بد منه… هل سيلتزم رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي بقرار البرلمان ويمتنع عن ارسال الاموال لاربيل، ام سيكون عليه الاستمرار برد الجميل للبارزاني في ايصاله لمنصبه؟…