هنالك مطلب لكل إنسان إذا ما أراد التأكد من شيء أيا كان، وهو البرهان على حقيقة الشيء ووجوده. أي ما الدليل. ويكون الرد إما بحقيقة أخرى سواء كانت واقعة ماثلة أو كامنة. والحقائق الواقعة أو الماثلة أمامنا يمكن لحواسنا ان تدركها، هي التي تفرض نفسها، اما الحقائق الكامنة او المؤجلة الإظهار لأي سبب كان، فهي التي يقف عندها المرء، إما يؤمن بها ودليله عقله وإحساسه، أو يبحث عن دليل آخر أكثر إقناعا من بين الادلة الماثلة، وإلا غادر موضوع بحثه.
عندما نفكر بهذه الطريقة فالأمر منطقي. ولو رجعنا لطبيعة النفس البشرية، فهي في الغالب الأعم ترضخ في تثبيت قناعاتها بالحجة البائنة والدليل الواقعي القاطع. وعلى هذا الأساس، فلا بد أن تكون قناعاتها فيما يتعلق بموضوع ما لا حجة ظاهرة فيه، أضعف أو أقل نصيبا من التصديق والإتباع. وبالتأكيد فالغالبية تسلم على انها قاعدة واسعة وقوية وعلى الجميع الرضوخ إليها أساساً في اصدار الأحكام، وفي تحديد أية جهة تصح للإتباع. رغم أن العكس قد يكون صحيحاً تماما.
السؤال، هل يصح أن تقلب القاعدة؟ أي هل يمكن أن تكون الحجة الظاهرة زيفا لا حقيقة؟ كيف ومتى؟؟ لو اجبنا على هذا السؤال أو أكثر، فلا بد من الجواب بقاعدة أخرى قد تنفي أو تنقض ما قبلها، ولكن دون ان تنفي قبول القاعدة التي قبلها لأنها أشمل. ذلك أن لكل قاعدة شواذ كما هو معروف. القصد أن ما يبدو هو الأصوب في ظرف ما، ليس بالضرورة أن يكون كذلك في ظرف مغاير، فلكل حدث ظروفه التي حتمت وقوعه، وأحكامه وضروراته ومتطلباته. وهذه حقيقة علمية يدركها كل عالم وعارف.
يستعمل البعض القاعدة الأولى للإيهام. عندما نؤمن بأن الحقيقة الظاهرة هي الدليل على فكرة ما، سوف لن نقبل بسواها عندما تكون خافية أو مؤجلة، أو حينما لا يمتلك الداعي لها الوسيلة لإظهارها. وهذا ما حصل كثيرا على مر العصور وفي مواقف وميادين مختلفة. واليوم برغم كل هذا التطور العلمي، وما وصل إليه، وما أتاحه للبشرية من سعة الخيال وقابلية تحقيقه، وبغض النظر عن اختلاف البشر وما يذهبون إليه، فهناك من يقلب القاعدة الأساسية العامة ويعمل بالقاعدة الشاذة النقيضة، والمصطنعة أحيانا للإيهام.
مثال، أعطانا الله تعالى علامات كثيرة للإشارة إلى أحداث سوف تقع على المدى القريب أو البعيد، احداث ونبوءات حصلت كما أنبأ عنها رسول الله محمد (صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم) ورءاها الناس رأي العين بل عاشوا أحداثها. وأخرى أعقبت حياتهم. كما أنبأ الله تعالى نبيه عن أحداث ستحدث مستقبلاً جاءت في كتابه الكريم، أو في الحديث القدسي، وكثير من تلك الاحداث لم يتمكن المسلمون غير من أنعم عليهم الله تعالى بالإيمان اليقيني والعلم الوافر. لم يتمكن المسلمون من إدراكها، فهي أكبر من أن يستوعبها العقل البشري في ذلك العصر لما فيها من أسرار لم يكشفها العلم بزمانهم، وتتطلب تهيؤا ذهنياً بما يحتمله هذا التهيؤ من صور ورموز وافكار قابلة لأن يدركها العقل في ذلك الزمان، وللقبول والإعتقاد بها، والعقل البشري في تلك الحقبة وما قبلها وبعدها إلى فترة ما، لم يكن ليستوعب ما يمكن أن يحدث أو يجري. والعلم اليوم قد كشف عن الكثير منها، وما عاد صعبا أن يؤمن الإنسان أو يصدق حدوث أي شيء مهما صعب مسبقا استيعابه وقبوله. بل صار الناس يتعاملون بحياتهم اليومية بما لديهم من وسائل وتقنيات وغيرها مما كان بالنسبة لهم مجرد خرافة لا يقبلها عقل ولا منطق. بل صار ليس من المنطق أن لا نصدق أي شيء قد يحصل، فكل شيء ممكن. ومن النبوءات ما أخفى الله تعالى علاماتها، لحكمة لا يعلمها إلا هو جل وعلا، ومن أراد لهم العلم ببعض منها من الربانيين ومن رسخوا في العلم، حتى إذا جاء وعدها، حضرت الحقيقة بعينها. فيتساءل الإنسان العادي عن زمن حصولها، وكيف، وما علينا أن نعمل؟ والبعض لا يكلف نفسه عناء تلك الأسئلة أصلا لأنه يؤمن بالوقائع الماثلة فحسب، وكل ما دونها سراب، خرافة. ونقول أن من الحقائق الماثلة ما هو سراب وخرافة.
من الناس من يطالب بالدليل الظاهر ليؤمن أو يصدق ويتبع. لقد اعطانا الله تعالى علامة واضحة جدا للدلالة على فئة من الناس الذين وصفهم تعالى بالإيمان والتقوى، ذلك لمن يريد التعرف إليهم والتعامل معهم بثقة. عندما قال (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) وبالتأكيد فالآية الكريمة في ظاهرها واضحة المعنى، ومن قرأها يظن أنه لا يحتاج شرحا ولا تفسيرا لمعانيها ودلائلها. ماذا نرى اليوم، كثر من نرى علامات السجود على جباههم، فما الذي حصل.
لفترة طويلة وإلى يومنا هذا يوجد من يدعي الإيمان والتقوى ويوهم الناس بهذا الظاهر، ونلاحظ ان علامات السجود التي نراها على كثير من هؤلاء المدعين في جباههم وليست كما أخبرنا الله تعالى انها في الوجوه. فأنظر كم من الاستغفال الحاصل، وكم من الفهم السطحي الذي يتعامل به هؤلاء مع من يماثلون في تفسيرهم السطحي كذلك. ما زال كثير من الناس من يستدل بتلك العلامة الظاهرة، ليعرفوا مع من يتعاملوا وبمن يثقوا. ولكن عجباً، إذ يكتشف هؤلاء المستغفلون أن تلك الحقيقة ما هي إلا سراب، ما هي إلا خرافة. فكم من أولئك الذين يدعون الدين ويتمظهرون بمظاهر الدين بكل أشكالها، وفي حقيقتهم أكثر الناس شراً وعدوانا، شياطين متلبسة بدور رجال أو نساء التقوى والدين، وأكثر استغلالا للجهلاء ومن أقفلوا عقولهم عن التقصي والبحث والبيان. أقول، ليس كل ما نراه حقيقة، وليس كل ما لا يحدث في يومنا خرافة، مثلما ليس كل ما لا نلمسه سراب.