إِنِّي لا أرَى المَوتَ إلا سَعادةً ، وَالحَياةَ مَع الظالمين إِلاَّ بَرَماً
لا وَالله ، لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل ، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد
الامام الحسين (ع)
يعيش المرء في هذا العالم المليء بالتناقضات,والحوادث الحزينة والمفرحة على القلب والمشاعر,لكنه يحتاج الى موقف يجسد من خلاله احتراماً وتقديراً مع ذاته ,موقفاً لايخاف منه اذا أطال النظر إلى المرآة ليجد شخصاً مليء بالشموخ والعزة هذا الموقف يتطلب منه الشجاعة والتضحية والثبات والإصرار,لانه الموقف الذي يميز الحق من الباطل والخير من الشر والظلام من النور ,وليس موقفاً خنوعاً متململً متردد في سبيل مصالحه الشخصية الانية ,المهم عنده انه يحافظ على المنصب والكرسي والراتب الشهري المغري والامتيازات الأخرى الذي لوبقي مئات السنين لن يصلها,لان المواقف هي لآهل المواقف الذين ان قطعت أرجلهم وأيدهم وستلت ألسنتهم وتقطعت رقابهم لن يساوموا عليها ,فأبن سكيت كان عالماً يعيش حياة الاستقرار والهدوء والمكانة الاجتماعية المرموقة بين المجتمع وكلمته مؤثرة فيه ,وموقفه مع المتوكل العباسي الذي الزمه تأديب ولديه المعتز والمؤيد فقال له يوماً أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسن؟ فقال والله ان قنبراً خادم علي (ع)خيرٌ منك ومن ابنيك فقال المتوكل للأتراك سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات من ساعته ,وصورة اخرى هو الشيخ هاني بن عروة وهو شيخ جليل القدرعالي النسب والحسب بلغ من العمر فوق التسعين,وأدرك النبيَّ محمد (ص( وتشرّف بصحبته، ثمّ صار مِن أصحاب أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام فشارك معه في معارك: الجمل وصفيّن والنَّهروان،وعندما علم ابن زياد ان سفير الحسين (ع) ثقته وابن عمه مسلم بن عقيل في داره ,أمر بإحضار هانئ.ولما جاء أنبه ابن زياد وأراد منه أن يسلمه مسلم ابن عقيل بعد أن أراه ابن زياد معقل وعرف هانئ أنه كان عيناً له عليهم!
وجاء في كتاب “الملهوف في قتلى الطفوف” أن ابن زياد قال له:
“والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به.
فقال : والله لا آتيك به أبداً! آتيك بضيفي حتى تقتله؟!
فقال : والله لتأتيني به.
قال : والله لا آتيك به.
قال هاني: والله إن عليّ في ذلك الخزي والعار ، أنا أدفع جاري وضيفي ورسول ابن رسول الله إلى عدوه وأنا صحيح الساعدين وكثير الأعوان؟! والله لو لم أكن إلا رجلاً واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فأخذ يناشده ، وهو يقول : والله لا أدفعه ,كان باستطاعة هاني ان يتجنب القتل والتمثيل الذي جرى عليه بعد موته ,رفض الانصياع والهوان والذل ،وبقي هاني رغم كل محاولات التغييب ,وتمرد فوق القضبان والحديد .
وجون العبد المسيحي من غير الديانة والمعتقد لكنه يؤمن بفكر تحرر الإنسان من رق الإنسان ويرفض العبودية ,فقد جسد صورة رائعة في الوصف عندما ستأذن الامام الحسين (ع)في النزول إلى الميدان لقتال ذلك الجيش، إلاَّ أن الإمام يردّه ردّاً لطيفاً مليئاً بالحب والحنان والتقدير قائلاً له: «يا جون إنما تبعتنا للعافية، فأنت في إذن مني» فوقع جون على قدميه يقبّلهما ويقول: «أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، إن ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود، فتنفّس عليَّ بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم»، عند ذلك سمح له الامام بالقتال، فما هي إلاَّ برهة وسقط شهيداً مخضب بدمه فداءً لدين الله وأهل بيت النبي , وضرب بذلك مثلاً للوفاء والصدق وتفوَّق على كل أولئك الذين تخلَّفوا عن نصرة الحسين (عليه السلام) وهم يزعمون أنهم من أشراف المسلمين وعلية القوم، بل ويزايدون على الآخرين بسبب بعض الاعتبارات الواهية التي أسقطتها دماء «جون» في كربلاء صحيح رحل ابن سكيت وهاني وجون ولكنهم بعثوا برسالة للطاغية في الزمان والمكان مفادها انهم ليسواعبيداً لهم,وأقزاما في الفكر والمنهج والخط الذي نشئوا وتربوا عليه ,والمواقف عندهم لا تباع ولا تشترى,بل تبقى خالدة في التاريخ تناقلها الاجيال والذاكرة جيلً بعد جيل ,هنالك من يقدم كل شيء في سبيل بقاؤه في مكانه,انا لا طالب من الجميع بان يتخذوا المواقف لكل صغيرة وكبيرة ،بل ان تكون قيمة عليا للموقف الذي لايسمح للأخر في توجيه الطعن والقدح في عقيدة المرء وثقافته وتراثه الذي يفتخربه , ونراه امام هذه الاساءة انه لايبالي ويبادر الأخر المسيء بالابتسامة وانحناء الرأس والطاعة العمياء ,اي بشراً هؤلاء لايحترمون القيم والمبادئ ,القضية عندهم محصورة في جني الأموال والامتيازات فقط ,ومن بعدي الطوفان ,فالامم التي تريد ان تنهض من ركام الخراب بعد الانهيار الذي يخلفه لهم الطغاة ,نحتاج قبل الأعماروالبناء الى رجال لازالت بنيتهم التحتية عامرة ,وهي الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء بالعهد وإغاثة الملهوفين ونصرة المكروبين ,والدفاع عن المظلومين ,لاان يطبقوا مقولة اذهب أنت وربك ياموسى قاتل انا هنا قاعدون ,أولئك ليس لديهم مبدأ ولاموقف ,أولئك لا نعول ولا نعتمد عليهم فهم ينعقون مع كل ناعقة .