18 ديسمبر، 2024 11:24 م

أوّل يوم- قصة قصيرة

أوّل يوم- قصة قصيرة

استقبلني مدير المدرسة عند البوابة الرئيسية، ماداً يده ومرحّباً بحفاوة بالغة، تصافحنا وشكرته على ترحيبه بي. توجهنا نحو مكتبه، مروراً بغرفة المعلمين. تحدث مع عدد من المعلمين الواقفين عند باب الغرفة مستمتعين بشمس الربيع “الدكتور عصام جاء اليوم إلى مدرستنا، في الحقيقة إلى مدرسته، ليكون المدرب لكم في دورة تدريبية في أساليب التدريس، إن شاء الله سنستفيد كلنا منها، سنبدأ الدورة بعد الحصة السادسة”. شكرته على كلماته اللطيفة وأضفت بأنني آمل أن أكون عند حسن ظنه.

أنهيت فنجان القهوة، واستأذنت المدير لأتجول في المدرسة قبل البدء بالتدريب. مررت بغرفة المعلمين، حييت الواقفين هناك، وعبرت عن سروري بالعودة إلى مدرستي، وتبسمت في وجه معلم يضع نظارة بعدسات سميكة فرد عليّ ببسمة عريضة. توجهت نحو مجموعة الغرف الصفية الواقعة في الطرف الجنوبي للمدرسة، لم تكن هناك لافتة “غرفة الصف الأول”، وقفت قليلاً وتأملت الباب واستمعت لصوت المعلم الذي كان في الداخل يقرأ قصيدة. رفعت يدي إلى رأسي أتحسس الصلعة، لم تكن هناك صلعة، كان هناك شعر قصير محلوق على الصفر.

***

استيقظت مبكراً. شعرت بأن الوقت يمرّ بطيئاً، شعرت به كذلك داخلياً، حيث لم يكن لدينا في البيت أية ساعة تدل على الوقت. تمنيت لو كان كانت لدينا ساعة لتخبر الوالد أن الوقت متأخر كما اعتقدت. قلت لنفسي “هذا هو أبي، طويل روح”. أخيراً غادرت البيت مع أبي مودعاً بابتسامات التشجيع من أمي ومسلحاً بدعواتها لله أن يحميني وأن تراني كبيراً ناجحاً. كنت قد تمكنت من إلقاء نظرة سريعة على صورتي في المرآة الموجودة قرب الباب، كدت لا أعرف نفسي في الملابس الجديدة. غمرني الفرح، ولكن فرحي لم يكتمل بسبب المرارة التي شعرتها لمنظر رأسي دون شعر. إذ كان لا بد في الأمس من حلق شعري على الصفر كما تتطلب تعليمات المدرسة، على تلاميذ الصفوف الابتدائية أن يحلقوا رؤوسهم على الصفر خوفاً من القمل.

انتهت الطريق الترابية المغبرة التي تصل بيتنا بالشارع الرئيسي للقرية. ألقى والدي التحية على رجل آخر، أب آخر يصطحب ابنه إلى المدرسة كما خمنت. تأكد تخميني عندما تصافحا وبدءا بالحديث. كان اسم الولد الآخر عصام. اعتقدت أنه هذا سيكون سبباً جيداً لاتخاذه صديقاً. استأذن والد عصام الآخر منا لأنهما سيعرجان على مكان آخر في الطريق إلى المدرسة. نظر والدي إليّ وسألني كيف شعرت بالنسبة لعصام، فأجبت بأنني أحببته، واعتقدت بداخلي أننا سنكون أصدقاء في المدرسة، ولكنني بيني وبين نفسي حسدته على هندامه الأفضل من هندامي: الملابس والحذاء والوجه كلها تدل على أنه يعيش حياة أرغد من حياتي. سألني والدي بصوت عالٍ عن رأيي. يبدو أنه قد فاتني شيء من حديثه أو سؤاله بينما كنت أفكر بالصبي الآخر الأفضل هنداماً مني، هززت رأسي محاولاً ألاّ أظهر بأنني لم أكن منتبهاً لسؤاله المفترض. تبسم وفهمتها علامة لمسامحتي على الشرود.

في نهاية الشارع الصاعد نحو المدرسة لاحظت رجلاً وحوله عدد من الأولاد والرجال، سألت والدي، فوضح “هذا أكيد عادل الخليل يسجل التلاميذ الجدد”. حيا والدي الرجل “السلام عليكم”، والذي رد دون أن يرفع رأسه عن الدفتر الكبير الذي كان يحمله ويسنده برجله المستندة على سور قصير في طرف الشارع. عندما أنهى ما كان يكتبه في الدفتر الكبير، رفع رأسه ونظر إلينا وسلّم على والدي بحرارة، فردّ والدي بفخر أنه يحضرني اليوم إلى المدرسة، ثم تكلما قليلاً عن ذكرياتهما في المدرسة وكيف يمضي الزمان سريعاً “يبدو وكأننا فقط بالأمس قد احتفلنا بختم القرآن في هذه المدرسة عندما أنهينا الصف الخامس” قال عادل. رد والدي مازحاً “ولكنك لم تكن مجتهداً جداً في المدرسة يا أبو خالد”. رد الرجل “هل تتفاخر أمام ابنك يا أبو عصام؟” وضحكا، ثم سجل اسمي في دفتره الكبير ومضينا لنقطع المسافة القصيرة المتبقية حتى المدرسة.

تركني الوالد عند البوابة ودفعني دفعة خفيفة نحو ساحة المدرسة متمتماً بدعاء لي بالتوفيق، كما قدّرت من الكلمات التي سمعتها. بعد وقت قصير لمحت عصام عند البوابة مع أبيه، وقفا قليلاً ووالده يتحدث معه وهو مصغٍ، فهمت من إشارات يد والده أنه يوصيه بأشياء. اقتربت منه، ومشينا بالساحة إلى أن رن الجرس.

اصطف الأولاد الأكبر في صفوف طويلة، وتوقعت أن علينا أن نصطف مثلهم، سألت عصام “أين يجب أن نصطف؟”، فأجاب بأنه مثلي لا يعرف. وقف المدير ومعه عدد من المعلمين أمام صفوف الطلبة المصطفين في الساحة وطلب من الجميع السكوت والإصغاء، ثم تحدث مع أحد المعلمين الواقفين بجانبه، معلم يلبس نظارة بعدسات سميكة. اقترب المعلم ذو النظارة السميكة منا وطلب من تلاميذ الصف الأول أن يصطفوا عند آخر صف من الجهة الجنوبية. أنشد التلاميذ القدامى بصوت واحد عالٍ نشيداً انبهرت من قوة صوتهم وعبارة “عاش المليك” التي بدأ النشيد بها.

سرنا بخط مستقيم كما طلب منا المعلم ذي النظارة السميكة العدسات باتجاه الغرفة التي أشار إليها لتكون غرفتنا، غرفة الصف الأول. عند عتبة الغرفة وقفت ونظرت باتجاه المعلم ببراءة وتبسمت له فلم يرد على ابتسامتي كما تمنيت. صاح بنا “أسرعوا”. بشكل لاإرادي وضعت يدي على رأسي وتحسّسته مفتقداً شعري الذي كان قبل حلاقته على الصفر.

(ملاحظة: كتبت القصة أصلاً باللغة الإنجليزية، ثم أعدت كتابتها كما هي هنا والنسخة الإنجليزية حاضرة أمامي، وبإمكان القارئ الدقيق الانتباه أن يلحظ تأثير ذلك).