24 ديسمبر، 2024 3:50 ص

أسباب انهيار الدولة العراقية الحديثة – 2 / من جمهورية الحروب والخوف الى جمهورية الفساد والظلم

أسباب انهيار الدولة العراقية الحديثة – 2 / من جمهورية الحروب والخوف الى جمهورية الفساد والظلم

عندما أتحدث عن الحروب والخوف في زمن النظام السابق فهذا لا يعني عدم وجودها في فترة ما بعد عام 2013 ، كذلك لدى الحديث عن الفساد والظلم في هذه الفترة لا يعني خلو عهد النظام السابق منها ، إلا أن كلاً من هاتين الفترتين قد اشتملتا على هذه الجوانب والممارسات ولكن  بأشكال مختلفة من حيث الحجم والسطوة والتأثير.
إن تعدد الحروب العبثية التي خاضها النظام السابق والتي عانى منها العراقيون والحصار الذي توسطها  الذي تسبب في  إبادة مئات الألوف من خيرة أبناء العراق ناهيك عن الإعاقة الجسدية وهجرة العقول والكفاءات فضلاً عن تفكك الأسرة ، وتداعيات نفسية طويلة الأجل وما أعقبها من عدم الاهتمام بمشاكل التسريح وبرنامج إعادة الإدماج . ولعل التأثير والعبء النفسي على المدنيين العراقيين الذي أثقل كاهل المجتمع العراقي كان له تأثيراته الجسيمة غير الملموسة آنياً في جينه ولكنها ظهرت فيما بعد بوضوح وجلاء كبيرين.
تقول الدكتورة أوركيج بيهروزان Orkideh Behrouzan  ، وهي أستاذ مساعد في الأنثروبولوجيا الطبية في قسم العلوم الاجتماعية، والصحة، والطب في كلية كينغز بلندن ، ” إن فهم الأثر النفسي للحرب على المدنيين أمر مهم لأن الحروب تقوم بتغيير العلاقة مع مجتمع المستقبل
من حيث الحالة النفسية ، وغالباً ما يتم لدى الاستدعاء المستمر لذكريات الحرب حدوث أمراض نفسية أخرى مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب” . هذه الجوانب ظهرت بوضوح كتأثيرات مباشرة من جراء الحروب الطويلة التي غامر بها النظام السابق فزادت من تدمير نفسية الفرد العراقي فضلا عن تدمير البنية التحتية وبالتالي الدفع باتجاه الانهيار المتسارع للدولة.
وإذا ما تحدثنا عن الخوف فهو يهيمن على المجتمع العراقي منذ عصور ، سيما إبان عهد النظام السابق والحالي بعد عام 2013 ، يؤكد هذا القول الأستاذ أكرم عبد الرزاق المشهداني ” ومازال الخوف من تداعياته المستقبلية على المجتمع يشكل أكبر كارثة وطنية تحيق بالعراق الجديد بفضل سياسيي ما بعد 2003 دون ان نمنح صك البراءة لمن سبقهم”.
وهناك من يرى أن سقوط الحكم العثماني في العراق على يد الجيش البريطاني قد حرر الذهنية العراقية من الخوف من كليهما ، وأن الخوف الجماعي أضيف الى النفسية العراقية فرداً وأسرة وجمهوراً ابتداء من انقلاب الثامن شباط 1963 على عبد الكريم قاسم .
يتحدث الأستاذ البروفيسور الحارث عبد الحميد المتخصص في علم النفس عن حجم اتساع وتاثير الخوف في عهد النظام السابق بالقول : ” ان الخوف والرعب صارَ يلف ويحيط بالعراقيين حتى في داخل بيوتهم ، فالزوج يخاف من زوجته أن تكتب عنهُ تقريراً أو توشِي بهِ ، والأب يخاف من أبنهِ ، والمعلم يخاف من تلميذهِ، والموظف يخاف من مديرهِ وهكذا. لقد أصبح الخوف من كل شيء، خاصة من السلطة، هو الهاجس الذي يتحرك بضوئه العراقي ، في ساعات حياتهِ اليومية. وقد لا يبدو هذا الخوف ظاهراً، بل يبقى في أغلب الأحيان كامناً ومكبوتاً ولا شعورياً، لكنهُ ينعكس على السلوك العام للأفراد والمجموعات في داخل المجتمع. وقد خلق هذا الخوف المكبوت في داخل النفس العراقية، نزعةً قوية، واضحة وظاهرة، نحو التحذلق والمنافقة، في محاولةً لإرضاء الأعلى، أياً كان هذا الأعلى، مما عززَّ الدافعية والحافز في داخل الشخصية العراقية نحو الرياء والمكر والكذب أحيانا “.
كما كتب ريان كروكير السفير الأمريكي السابق في بغداد 2007- 2009  مقالة بعنوان ” أحلام بابل” في مجلة ” National Interest ” أن العراق صعب ، كان صعباً وسيبقى صعباً ، حيث أن الخوف فيه متجذر منذ أقدم العصور  بدءاً من القرن الأول الهجري حيث استخدم الخوارج العنف وحتى يومنا هذا حيث تمارس القاعدة نفس الممارسات العنيفة مروراً بحكم الحجاج الثقفي”.   
يردف بأنه كان قد عمل في العراق بين 1978 و 1980 وكان يرى الخوف في عيون وتصرفات من يلتقي بهم من المسؤولين الكبار الى اصغر شخص في الشارع ، بما في ذلك جيرانه حيث يخشون التحدث معه لكي لا يقعوا تحت أنظار رجالات النظام ، حتى ان سائقه تم سجنه لعدة سنوات بتهمة العمل مع الأمريكان ، فرئيس النظام السابق- والحديث لم يزل للسفير الأمريكي السابق – لم ينجو من بطشه حتى اقرب أقربائه ومقربيه وهو يكون بذلك قد رسّخَ  ثقافة العنف والإرهاب في هذا البلد بإمعان .
أما كنعان مكية فقد تحدث في كتابه “جمهورية الخوف” الصادر عام 1989 والذي أصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعد حرب الكويت ،  كيف أن العراق أصبح دولة شمولية مستبدة من بين أكثر الدول ذات الحكم الاستبدادي.
على الرغم من أن مكية كان قد إمتدح في كتابه هذا قصف القاذفات الأمريكية وهي تدكّ بغداد ، إذ كتب في ” New Republic ” : ” هذه القنابل لها وقع الموسيقى في أذني . إنها أشبه بأجراس تُقرع للتحرير في بلد تحوّل إلى معسكر اعتقال هائل”. هذا البلد الذي أطلق عليه اسم ” جمهورية الخوف “، ولكنه ما لبث و إن سّمى العراق الحالي بــ ” جمهورية التشرذم والسرقة ” ففي ربيع 2010 ، في حوار صحفي يقول : ” العراق انتقل من جمهورية الخوف إلى جمهورية السرقة والفساد “.
على الرغم من أن الشاعر سعدي يوسف يروي بأن مستشاراً لبنانياً في دائرة حاكم العراق العام السابق غارنر ، أشار إلى أن كتاب ” جمهورية الخوف ” ليس كتاباً ، فهو يضمّ نثيراً ضئيلاً ممّـا يتداولُـه العراقيون عن تسلّط البعثيين . كلُ ما في الأمر أن الكتاب كان باللغة الإنجليزية ، وإن كان هذا يعني شيئاً خارج العراق ، فإن الكتاب غير ذي معنى في العراق . إلا أن عنوان الكتاب لوحده يكفي أن يختزل الصفة الاعم وحال بلد يحكمه نظام دموي شمولي مستبد.
تحدثت عن أبرز سمات عهد النظام السابق وهي الحروب والخوف وإذا ما انتقلت الى الفساد والظلم الذي اتسم به عقد من الزمن بدءاً من الربع الثاني من عام 2003 ، وعلى الرغم من وجود فساد غير قليل في ظل حكم النظام السابق ، ومن بينها قضايا رشى فساد في برنامج النفط مقابل الغذاء ، فقد كشفت منظمة الشفافية الدولية Transparency International – التي يُرمز لها اختصاراً (TI) ، وهي منظمة دولية غير حكومية معنية بالفساد ، تشتهر عالمياً بتقريرها السنوي ” مؤشر الفساد “، وهو قائمة مقارنة للدول من حيث انتشار الفساد حول العالم، ويقع مقر المنظمة الرئيسي في العاصمة الألمانية برلين –  أن العراق يقبع في “حضيض قعر معدلات الفساد بالعالم”، مما أدى إلى إذكاء العنف السياسي وإلحاق الضرر بعملية بناء دولة  فعالة ونقص بتقديم الخدمات إذ ما يزال العراق “فاشلاً” في توصيل الخدمات الأساس بشكل كافي، وأن 23% من أبنائه ما يزالون “يعيشون بفقر مدقع”. لذا ليس من المستغرب ان يُصنّف العراق من بين أكثر الدول الفاشلة على مستوى بلدان العالم ، فبتاريخ 18 حزيران/ يونيو 2012  صدر التقرير الثامن بخصوص الدول الفاشلة Failed States Index (FSI) عن إحدى المؤسسات الأمريكية الخاصة في واشنطن،  التي تعرف باسم  Fund for Peace ، ويهدف ذلك الإِصدار إِلى بيان التسلسل العالمي للدول من حيث فشلها ونجاحها، ثم المراتب بين الفشل والنجاح.
وقد احتل العراق المرتبة التاسعة في ترتيب الدول الأكثر فشلا بالعالم ، وبالمرتبة الثالثة عربياً حسب تقرير المؤسسة أعلاه.
كما تشير مجلة فورن بولسي Foreign Policy الأمريكية الشهيرة في أحد أعدادها لعام  2012 أن الفساد قد وصل إلى ذروته بعد العام 2003 . وبحسب تقرير مؤشر الفساد CPI لعام 2012 ، احتل العراق المرتبة 169 كأكثر البلدان فساداً من بين 175 دولة، مع إحرازها 18 نقطة من معدل 100 نقطة، ووفقا لهذه المؤشرات فإن العراق يقع في ذيل قائمة أضعف الدول إدارة لملف مكافحة الفساد في بلادها استنادا لتقرير البنك الدولي لعام 2011 لمؤشرات قوة إدارة الدول في العالم.
الظلم الذي هيمن على العقد الأخير لم يستهدف جهة أو طائفة أو شريحة دون غيرها ، إذ شمل الغالبية من الشعب ، والمستغرب فيها أنها جاءت من جهات حاكمة تدّعي انها إسلامية وحيث أن الإسلام أوصى بالعدل والإنصاف فالعدل أساس المُلك ، وقد أُبيدت أمم وخُسفت بها الأرض نتيجة سياساتها الظالمة الذي مارسها حكامها وسادات قومها ، وكما ذكر القرآن الكريم : ” وتلك القرى أهلكنا هم لما ظلموا “، لذا فان من يحكم اليوم أولى به ان يكون افضل من يطبق مبادىء الاسلام قبل ان يطبق مباديء العدالة وقيم الانسانية. 
تشير أغلب التقارير العالمية الى أن أكثر أنواع الظلم التي تُمارس في العراق تلك الممارسات التي تُلقي بعدد كبير من الأشخاص الأبرياء في السجون والمعتقلات لأسباب غير معروفة وبدون محاكمات عادلة وفقا للقانون ، تذكر ذلك بوضوح مجلة “بوست كازكيت ” في مقالة معنونة ” الظلم في العراق ” في عددها الصادر في 3 ديسمبر 2007 بالقول : ” سوف لن يسكت الناس عن الظلم الذي يحدث من حولهم بمرور الوقت. لماذا هذه الممارسات غير الطبيعية في بلد مثل العراق ، هذا الظلم دليل على أن معالجات الحكومة الجديدة ليست كافية لتغيير العلل الاجتماعية في المجتمع،  وأن العراق في الواقع يسير على خطى التقدم البطيء نحو نظام أفضل؟
سوف يذكر التاريخ بان هذه الفترة من تاريخ العراق كانت الأكثر فسادا والأكثر ظلماً ، وحيث أن الظلم – على مدى التاريخ – يذهب بالمُلك فقد ذهبَ بحكم النظام السابق على أيدي من هم أكثر ظلما منه من دول وجيوشها الجرارة ، كذا حال من مارس الظلم في العهد الحالي فلا شكوك في هذا الشأن في الشارع العراقي وعلى مستوى النخب من زواله عاجلاً أو آجلاً.
هذه الجوانب وغيرها – سنأتي بالحديث عنها لاحقا – أدت الى انهيار الدولة العراقية الحديثة وتمزقها وأبقّتها هياكل دولة وليست بدولة بمعناها القانوني المتضمن حفاظها وحمايتها لكل أبناء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو المذهبية أو الفكرية. الدولة المدنية إن نقص أحد عناصر تكوينها فلا تتحقق شروط اعتبارها دولة ، من أهمها أن تقوم على السلام والعدل وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وأن تضمن حقوق جميع المواطنين، وأن لا  يخضع أي فرد فيها لإنتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو جهة ما ، فهناك دوماً سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تُهدد بالانتهاك، فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا العقاب والجزاء بأنفسهم .