تجر وفاة القائد الثاني لحزب البعث العربي الاشتراكي، فرع العراق، عزة الدوري، إلى الحديث عن مصير الحزب من بعده، ثم عن ظاهرة خلو العراق من الأحزاب الجماهيريةالكبيرة التي تتأسس من تحت، من القاعدة، ثم تصعد إلى أعلى، إلى سدة القيادة، لتدوم، وتكبر، وتسود.
فأي واحدٍ من الأحزاب العراقية، ما عدا الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي، مؤسس ومملوك من شخص واحد يظل أسيرا له، ثم يتشقق بعد غيابه، ثم يتلاشى، حتى لو بلغ أعضاؤه عشرات الآلاف، أو حتى مئاتها، وذلك لأن قائده الأوحد لا يربي من حوله قادةً وزعماء يصلحون لحمل الراية بعد غيابه، بقدر ما يهمه ويسعده وجود مصفقين ومحصلي ضرائب وحراس وخدم وبوابين.
وليس خافيا مصير حزب الاستقلال القومي العربي، وحزب كامل الجادرجي الوطني الديمقراطي، والتشققات التي شهدتها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الدعوة وحزب ملا مصطفى البارزاني وحزب جلال الطالباني والمجلس الأعلى وباقي الأحزاب والحركات الأخرى، كجماعة أياد علاوي وأسامة النجيفي وخميس الخنجر وصالح المطلق.
وقد ساهم الاحتلال الأمريكي، ثم الاحتلال الإيراني، وانهيار الدولة العراقية، وقيام دولة المحاصصة، في شرذمة الأحزاب العراقية، قاطبة، وتحويلها إلى دكاكين سياسة هدفها السلطة والمال والوجاهة.
كما أن دخول المال السياسي الوارد من خارج الحدود جرَّد تلك الأحزاب من صدقيتها في نظر المواطن العراقي، وعزلها عن قواعدها، وحرمها من احترام الجماهير.
وحين ندقق في مصير الحزبين الكبيرين، الشيوعي العراقي وحزب البعث، ونبحث في أسباب انكماشهما، واقعيا، وانفضاض أغلب أعضائهما عنهما نجد أن فردية صدام حسين في الهيمنة على القيادة والقاعدة، معا، في حزب البعث، وانفراد القيادة في الشيوعي بعقد التحالفات وقبول المساومات، هما السبب الوحيد.
فبالرغم من أن حزب البعث ولد في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، ونما وكبر وانتشر بسرعة غير اعتيادية، وتحول، بجدارة، إلى أحد أهم الأحزاب العراقية التي صنعت تاريخ العراق الحديث، بسلبياته وإيجابياته، إلا أنه خسر ديمقراطية مؤتمراته القطرية والقومية، ولم يعد لقواعده، بكل درجاتها الحزبية، كلمة الفصل العليا الفاعلة النهائية في رسم خط سيره وصياغة شخصيته وصنع قراراته، وبالتحديد في أعقاب محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم 1959 و(إقالة) الأمين العام، فؤاد الركابي، وتعيين بديل له دون الرجوع إلى قواعد الحزب، وبالاقتراع الحر، ثم في أحداث ما سمي بـ (ردة تشرين) 1963 التي أسست لمسلسل التمزق والشرذمة والاحتراب.
وحتى حين تمكن الراحل أحمد حسن البكر، وبإرادة القائد المؤسس ميشيل عفلق ودعمه، من إعادة بنائه، فقد احتكر قيادته بالمناصفة مع نائبه صدام حسين، لينفرد بها النائب في العام 1979 وينتزع القيادة ويُدجن القاعدة، ويظل قائده الأوحد حتى يوم رحيله المعروف. وبغيابه غير المتوقع وغير المنتظر تجسدت أزمة القيادة فيه بكل وضوح.
فالشخصُ الذي كان يوصف بأنه ظلُه وساعده الأيمن، والذي ورث القيادة من بعده، لم يستطع أن يلملم أجنحة الحزب المتناطحة، ولا أن يوحد شتاته ويعيد إطلاقه من جديد، خصوصا في أعقاب جلاء قوات الاحتلال الأمريكي من البلاد، وبداية الاحتلال الإيراني الذي فعل بالحزب أكثر مما فعله به الأمريكيون بكثير.
فقد اعترف، مثلا، بأن غزو قائده للكويت كان خطيئة مميتة، وهذا يعني أنه كان يدافع عن الغزو عند حدوثه، بكل ما لديه من قوة، وهو في قرارة نفسه يعتبره عملا معيبا، وذلك لأنوجوده في القيادة مرهون بالولاء المطلق لشخص الزعيم.
أما سبب انكماش الحزب الشيوعي فيكمن في القيادة الجديدة التي بدأت عملها في أوائل التسعينيات.
هذا هن حزب البهث. أما عن الحزب الشيوعي العراقي فإن الذين عايشوا ما بلغه من تخمة في المنتمين إليه، من منتصف الخمسينيات، ثم في الستينيات، عجبوا من فقدانهالآلاف من أعضائه وأنصاره، وضياع هيبته ونفوذه.
فإنه، وهو المصنف بأنه حزب المؤتمرات الحزبية العامة والانتخاب الحر لاختيار سكرتير لجنته المركزية وأعضائها، كان، هو الآخر، ضحية انفراد القيادة باتخاذ قرارات لا تحترم إرادة قواعدها، ولا تستمع إليها.
وقد بدأت رحلة التقهقر والتراجع والانكماش يوم أن دخلت القيادة الجديدة في جبهة واحدة مع نظام صدام حسين، 1973، بعد أن كانت تتبنى الحكم عليه بالعمالة والديكتاتورية.
ثم خسر الحزب كثيرا من رصيده الشعبي بدخوله خيمة المؤتمر الوطني الموحد 1992، الممول أمريكيا، والمسيَّر إيرانيا وسورياً، وبتحالفه مع الأحزاب الشيعية الموالية لإيرن، ثم بقبوله بوجودٍ هامشي على طاولة مجلس الحكم الذي شكله الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر 2003، وأخيرا انضمامه إلى جماعة مقتدى الصدر فيما سمي بـ (سائرون).
والسؤال المطروح الآن هو ماذا يخبيء المستقبل المنظور والغد البعيد للحزب العراقي الكبير الأول، حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد رحيل قائده الأول، ثم قائده الثاني؟.
وماذا عن الحزب الكبير الثاني، الحزب الشيوعي العراقي، بعد أن تحول إلى حزب صغير ملحق بالعملية السياسة الفاشلة التي ثار على فسادها الشعب العراقي، وتحمل خسارة دماء سبعمئة شهيد وآلاف المعتقلين والمعوقين؟.
أما أكبر الأحزاب الإسلامية الحاكمة، حزب الدعوة، فمصيره مرقوم بسقوط النظام الإيراني، أو بجلوسه مع الأمريكان على طاولة مفوضات، وبالشروط الأمريكية القاتلة.
وما حل بحزب جلال الطالباني، وبحزب الملا مصطفى البارزاني من تشققات وتصدعات، وما بين أربيل والسليمانية من تناحرات لا يخفى على أحد.
وهذا ما يفسر ضآلة أعداد أعضاء الأحزاب والمنظمات السياسة، بما فيها الحزب الشيوعي وحزب البعث، وضعف نفوذها.
فبحسب الواقع الإحصائي الانتخابي الأخير كان مجموع المنتسبين إلى الأحزاب والتيارات والتجمعات السياسية الحالية أقل من خمسة بالمئة من مجموع سكان العراق. وهذا يعني أن عدد المنضوين تحت أجنحة الأحزاب، مجتمعة، لا يتعدى مليونا ونصف المليون إلا بقليل، وتبقى تسعة ٌ وعشرون مليونا من المواطنين لا يثقون بهذه الأحزاب ولا يحترمونها.