“وليمة لأعشاب البحر” هو عنوان رواية للكاتب السوري المعروف حيدر حيدر، أقل ما يقال فيها أنها ملحمة سردية مدهشة وساحرة ورواية عظيمة، استغرق كتابتها 9 سنوات، وصدرت الطبعة الأولى منها العام 1983، وسببّ نشرها عاصفة من الهجوم والرفض والتحريض في صفوف الكثيرين من المتعصبين والمتشددين والسلفيين، لم يأتِ إبان صدورها، وإنما بعد 17 عامًا، وتحديدًا في العام 2000، عندما قررت الهيئة العامة والثقافة في القاهرة، اعادة طباعتها، فأثار ذلك عاصفة من ردود الفعل الغاضبة التي هاجمت كاتبها بكل الحدة وطالبت بمحاكمته. وأقيمت الولائم القهرية والقمعية حولها، وأخطر ما في هذه الولائم خروجها عن إطار حرية الرأي والفكر والكلمة والعفوية إلى النهجوية المتعمدة الصادرة عن تمركزات أساسية منصبة في أروقة حكومات الأقطار العربية ومسيطرة على مساراتها المتنوعة. وما محاولات قهر وقمع الخطابات الإبداعية الحقيقية من قبل هؤلاء المتنفذين، إلا خدمة رخيصة ودفيئة لصالح أعداء الحرية والامة العربية، وضد الذات الحضارية في هذه الأمة.
وكان حيدر حيدر رد على الهجمة الرعناء ضد الرواية والتحريض الذي تعرض له، قائلًا: ” نحن نعرف ديننا وتراثنا، نعرف إسلامنا وتاريخنا، ولسنا بحاجة إلى فقهاء ومتعصبين ودعاة ويرشدوننا إلى الصراط، لكننا نعرف في الآن ذاته مواطن الخلل والتأويل الجاهلي، وكهوف الظلام التي يستودع فيها الإسلام السياسي المغلق والاحتكاري لفئة تتاجر بالإسلام وترشق التهم لمن لا ينتمي لقبيلتها العصبية”.
حيدر حيدر جاء إلى الدنيا وعانق نورها في أواسط الثلاثينات في قريته ” حصين البحر” في محافظة طرطوس السورية، وهي بلدة سعد اللـه ونوس أيضًا، وهو كالمرحومين وسعد الله ونوس وهاني الراهب ومحمد عمران، من أبناء الطائفة العلوية، وبإضافة اسمي الشاعرين ممدوح عدوان وعلي كنعان، يمكن التحدث عن مجموعة من المثقفين العرب السوريين، تمردت على اللبوس الطائفي، وانتسبت في بدايات الستينات إلى حزب البعث، بوصفه أمل الأمة، لكن سرعان ما ضاقت به وضاق بها، بعد أن توصلت إلى قناعات جديدة واختيارات أكثر راديكالية إلى فوضوية إلى وجودية وغير ذلك.
وقد اتسم هؤلاء المثقفون، باستثناء علي كنعان، بحدة المزاج وسلاطة الخطاب، ورغم ذهابهم جميعًا إلى ما بعد أفكار وطروحات حزب البعث، لم يزعزع انتماءهم القومي أو اهتمامهم بالتراث العربي والإسلامي الذي تجلى في نتاجهم جميعًا بلا استثناء.
ومما له دلالة أن ثلاثة منهم، عدوان وحيدر وعمران، وجدوا قاسمًا مشتركًا بينهم في الكتاب الأول من أعمالهم، فمحمد عمران سرد بالشعر، وحيدر حيدر بالرواية ، وممدوح عدوان بالمسرحية الشعرية جانبًا من تجربة فلاح سوري من مناطقهم تمرد على الإقطاع، ودعا بالفطرة إلى نصرة الفقراء والجوعى فكان مصيره المشنقة، وأول شهيد لفقراء سورية ما بعد الاستقلال.
تنتشر الرواية الممتدة على 387 صفحة على مستويين متقاطعين من حيث الزمان والمكان، وتدور أحداثها حول مناضل شيوعي عراقي هرب إلى الجزائر، وهناك يلتقي إحدى المناضلات القديمات من عهد انهيار الثورة. وهي تناقش وتتناول الواقع السياسي والاجتماعي في العراق والجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذان البلدان يتطابقان رغم البعد الجغرافي والاختلاف التاريخي، في العادات والتقاليد والعصبية والثورة والأيديولوجيات، فالقالب نفسه، والنفسيات ذاتها، وإن اختلفت القشور الخارجية، والعنصر المشترك بينهما هو الثورة والضياع والاخفاقات والأوجاع والآلام والامنطقية.
رواية ” وليمة لأعشاب البحر” مزيج من الفلسفة والسياسة والسوريالية والدين والواقعية والتاريخ والأدب والجنس والعبثية والتيه والضياع، وكل هذا جاء بقالب سردي بلاغي مدهش وعميق، لا يعكر صفوه سوى السرد والقص الطويل والأحداث المتشابكة المتشعبة ما يشعرنا بالملل أحيانًا.
ويرسم حيدر حيدر شخصيات روايته بواقعية وباستخدام لغة الحوار( المونولوج) مناسبة لكل منها، ومختلفة فيما بينها. وهذه اللغة تعكس وتجسد شخصية الراوي وخلفيته الفكرية والدينية والعقيدية والثقافية والاجتماعية.
ويوظف حيدر اللهجة العراقية والجزائرية كثيرًا في الحوار، وكان موفقًا جدًا باستخدام وتوظيف الكلمات العامية المتداولة في الشارعين العراقي والجزائري، ما أضاف للرواية بعدًا واقعيًا محببًا.
ولغة الرواية جزلة متينة متماسكة فصيحة ورشيقة حد الابهار والدهشة.
ومن نافلة القول أخيرًا، أن رواية ” وليمة لأعشاب البحر” كتبت بهاجس واضح، هو الحرية وإعلاء شأن الإنسان العربي بثقافته وتراثه وحضوره في العالم الواسع، ولم تكن دعوة إلى التطاول على الدين والمس به، ولو كانت كذلك لما اختار الكاتب لأحداثها على أرض الجزائر في الفترة التي أعقبت الاستقلال حيث يلهج الشعب بدور الإسلام في مواجهة ومقاومة الاستعمار كما يتجلى بشكل واضح في تفاصيل الرواية.