قبل حوالي 42 عاما تعرفت على الكاتب الإنكليزي الوجودي كولن ولسون عن طريق زميلي في المدرسة أعارني مذكراته (( رحلة نحو البداية )) ، وكان صاحب فضل كبير عليّ ، فقد كنت منشغلاً في قراءة كتب السياسة والدين ، ولسون عرفني بعد قراءة كتبه على عدة أسماء أدبية وفكرية عالمية ، وشرح لي الكثير من المفاهيم .
والفائدة العظمى التي حصلت عليها من ولسون هي أنه أنقذني من مأزق كبير بعد قراءة مذكراته : (( رحلة نحو البداية )) حيث كنت أعاني من التأخر في الدراسة ، إذ إلتحقت بالمدرسة وأنا في عمر 12 سنة بصعوبة بعد ان وافق الوالد على إدخالي في مدرسة مسائية ، وقبلها سرق الوالد طفولتي وأجبرني على العمل معه وأنا في سن 9 أعوام ، كان يصطحبني كل يوم صباحا ونعود مساءا الى البيت ، وظل يراوغ في إدخالي المدرسة بحجة عدم وجود هوية أحوال مدنية لي بسبب ان الوالد كان هاربا من الإلتحاق في الجيش ، وكان إخراج الجنسية لأولاده يتطلب منه تقديم دفتر خدمة عسكرية وهو ما لايمتلكه ، وتحت إلحاح الناس عليه عثرنا على مدرسة مسائية لا تطلب الجنسية للطالب وتكتفي بجنسية الأب ، وكانت المدرسة بعيدة عن البيت بمسافة نصف ساعة بسيارة نقل الركاب .. وبدأت عذاباتي مع مخاوف الظلام ونباح الكلاب السائبة أثناء العودة الى الدار !.
كنت ضعيفا في معظم الدروس ، وحائرا بخصوص المستقبل خصوصا مع إقتراب إستحقاق الإلتحلق في الجيش في حالة رسوبي ، وجاءت مذكرات ولسون بمثابة لحظة قدرية عظيمة للتخفيف من حيرتي وإشعال ضوء الأمل أو الأوهام لديّ ، فقد أدهشني ان ولسون لم يكمل دراسته وانما كان عصاميا ، وعمل عدة أعمال يدوية في حياته وواصل القراءة والكتابة .. لقد فتح لي بابا واسعا للحلم وفرصة تؤكيد الذات عن طريق الشروع في تحديد هدفي الشخصي في أن أصبح كاتبا بغض النظر عن إكمال الدراسة .
في الحياة قد تصادفكِ كلمة ، أو موقف ، أو تلتقي بشخص ما .. عندها تتغير حياتكِ الى الأبد وبشكل لم يخطر على بال ، إضافة الى إكتشاف كولن ولسون ، بعد رسوبي في الصف الثالث متوسط وإلتحاقي بالجيش جاءتني ضربة حظ سعيد أخرى إذ حصلت على قرار طبي بعدم صلاحيتي لحمل السلاح بسبب ضعف بصري وأصبحت جنديا غير مسلح في زمن الحرب مع إيران ، ومع هذا لم يفارقني الرعب من نقلي الى جبهات القتال ، وواصل الحظ السعيد صحبته لي بعد ان أخطأ معي النائب ضابط المسؤول عن تنقلات الجنود وأدى خطأه الى تأخير إجازتي .. فاجأني – وهذا نادر في الجيش – بأن إعتذر مني عن ذلك الخطأ ووعدني بالمساعدة في ان يختار لي مكانا جيدا عندما يحين نقلي من معسكر التدريب ، وفعلا تم تنسيبي الى إحدى دوائر الجيش في منطقة باب المعظم ببغداد.
في بغداد نعمت بأوقات فوق الخيال من الراحة والتمتع بالوقت في القراءة ، والتجوال اليومي في شوارع المتنبي والنهر والرشيد والسعدون ، ودخول السينما والمسرح والبحث في المكتبات عن الكتب ، والجلوس في مقاهي : الزهاوي والبرلمان وحسن عجمي والبرازيلي ، وقد لازمني الشعور بالذنب طوال تلك الفترة كلما شاهدت طوابير الجنائز القادمة من جبهات القتال ، إذ لم تكن أنانيتي كافيا للإستمتاع بالحياة دون التفكير بالآخرين من الجنود المساكين الذي يسحقهم جحيم الحرب والتألم من أجلهم .. كنت أعتقد ان سبب هذا الحظ السعيد يعود الى كوني متدينا دائم الصلاة والدعاء ، وللاسف عشت في هذا الوهم الخاطيء قلقا مذعورا من أي تقصير في الواجبات الدينية خوفا من غضب الله وما ينتج عنه من تعرضي للعقوبة العسكرية والنقل الى جبهات القتال ، ولم أعلم ان ضربات الحظ السعيد تاتي لعموم الناس بعيدا عن علاقتهم بالأديان والإيمان بها ، وان مقولة التوفيق الإلهي محض أوهام لا غير ، وطبيعة الاقدار التي ترافق الإنسان هي أحد ألغاز الوجود الغامضة .
من الغريب أصبحت لا أنجذب الى كتب كولن ولسون وأنظر اليه على انه مجرد كاتب شعبي عادي .. ولا أعرف هل هذا قلة وفاء مني له بعد ان عشت مع كتبه أجمل الأوقات .. أم تطور طبيعي على صعيد القراءة والخيارات ؟!
سواء نجحت .. أم فشلت في هدفي ان أكون كاتبا .. عشت مع هذا الهدف أجمل الأحلام والذكريات ، الى جانب عشقي للقراءة .. ووصولي الى عمر 60 عاما وأنا لا أزال لم أكتب كتابا أمر لا يزعجني ، فلم يعد الكتاب يمثل عندي ذلك الكيان الذي يتمتع بهالة سحرية ، وعلى الصعيد النفسي كلما تخلص الشخص من الرغبة في حب الظهور وتوكيد الذات … سيجد نفسه يتوارى عن الناس ويتخلص من الحاجة الى إعترافهم به ، وإذا كان كاتبا سيجد نفسه غير مستعجل على إصدار الكتب والرغبة بسماع تصفيق الآخرين له ، وإنما ينحصر واجبه الأخلاقي في نقل خبراته ربما تنفع من يطلع عليها .
هامش : لابد من توجيه الشكر الجزيل للصديق أياد الزاملي رئيس تحرير موقع كتابات فقد ساعدني كثيرا حينما فتح لي أبواب بيته ومكتبته وأعارني عشرات الكتب القيمة .