الانتفاضة تستعيد زخمها
من الكلام المكرر أنّ انتفاضة تشرين، منذ اندلاعها في العام الماضي، خسرت سبعمئة شهيد من شبابها، وآلاف المعتقلين والمخطوفين من نشطائها، وهي خسارة فادحة دون ريب، وبكل المقاييس.
ولكن خسارة أحزاب السلطة الإيرانية في العراق كانت أضعافا مضاعفة تكبّدتها في محاولاتها إرهاب شباب الانتفاضة، أو على الأقل إفراغها من أي مضمون ثوري حقيقي يؤدي إلى قلب موازين اللعبة من أساسها.
إذا ما عدنا بالذاكرة إلى مثل هذه الأيام من العام الماضي فسوف يتبيّن حجم التضحيات التي تكبدتها السلطة وميليشياتها وهي تستخدم العنف الدموي، بكل أشكاله وأنواعه ودرجاته، من الكواتم إلى قنابل الدخان السام، وإلى الرصاص الحي.
وثابت، بالوقائع والأدلة أن مقابل كل ذلك العنف الذي استخدم لقمعها كانت الانتفاضة تتصاعد ويشتدُّ عودها ويرفع شبابها سقف مطالبهم ليصل إلى حد الهتاف، لا ضد الأحزاب الولائية الإيرانية، وحسب، بل ضد مخترعها ومالكها ومحركها الإيراني، نفسه، (إيران بره بره)، مع حرق قنصلياته في المحافظات ومعها مقار الأحزاب الحاكمة ذاتها.
خسارة أخرى. إن ذلك العنف لم ينتج عنه سوى اتساع النقمة الشعبية على الاحتلال الإيراني بين جماهير شيعية جديدة واسعة لم تشارك في الانتفاضة، من قبل، وكان الإيرانيون وأعوانهم العراقيون يعتبرونها ذخيرتهم التي يخبئونها لحماية نفوذهم في قادم الأيام.
ثم إن الخسارة الأكبر التي فوجئ الإيرانيون بها هي استفاقة الرأي العام الدولي ضدهم إلى الحد الذي راحت معه دول كبرى كانت ساكتة عن جرائمهم في العراق، من قبل، تندد بهم، وتدينهم بالجرم، وتهدّدهم بالعقوبات.
كما كان من ثمار سلوكهم الدموي ضد المتظاهرين السلميين أيضا أن اضطروا إلى التضحية برئيس وزرائهم عادل عبدالمهدي، والقبول، وهم صاغرون، برئيس وزراء جديد مكلف بمنافقة الشارع الغاضب، ولو بتصريحات يغمز فيها ما أسماه بـ”اللادولة”، وببضعة قرارات سطحية لا تمس العصب الإيراني الحساس الحقيقي، وبوعود عابرة يتعهد فيها بضبط سلاح الميليشيات، ومحاكمة الفاسدين، واستعادة سلطة القانون ولكن دون تنفيذ.
ولكن ذلك جعله، دون قصد، يزيد من عمق الهوة بين الجماهير الغاضبة وبين دولة السلاح المنفلت، ويضاعف حرج موقف داعمها الإيراني، ويمنح الانتفاضة قوة مضافة كفيلة بإعادة انطلاقها من جديد أشد قوة وأكثر شجاعة، وهو ما يحدث تماما هذه الأيام.
ومع عودة الانتفاضة إلى ساحات الثورة في تشرين الأول – أكتوبر الحالي، في جميع المحافظات المنتفضة، وخوفا من أن تتحول إلى ثورة شعبية فاعلة أكثر من انتفاضة العام الماضي، فقد لجأ الكاظمي، ومعه أحزاب السلطة وميليشياتها، إلى أسلوب المداهنة والنعومة المفتعلة وسياسة (العيني والأغاتي) معها، وأخذها بالأحضان، وتسيير قوات الجيش والشرطة، بحجة حمايتها، ولكن لضبطها ومنعها من الاتساع، وتحويلها إلى فقاعة عابرة مثلها مثل أي مسيرة من مسيرات اللطم التي اعتاد العراقيون عليها، دون اكتراث.
ولكن الحاكم الإيراني، وهو في مآزقه السياسية والاقتصادية والعسكرية المتصاعدة نتيجة العقوبات الأميركية الخانقة، أدرك أن قفازات الكاظمي المخملية التي يستخدمها لتبريد خواطر المنتفضين قد منحت انتفاضتهم الجديدة مشروعية، وجعلتها أخطر على احتلاله، وعلى مستقبل ذيوله، وهو ما جعله أقل صبرا على الانتفاضة، وأكثر ميلا إلى العودة إلى استخدام العنف لوقفها، ولكن بأسلوب جديد.
فقد دسّ بعضا من أنصاره داخل المنتفضين، وأمرهم بالاعتداء على قوات الجيش الحكومي والشرطة بالحجارة وقناني الغاز المشتعلة لإجبار السلطة، بمعاونة الميليشيات، على استخدام القوة ضد المنتفضين، لإخراج الانتفاضة من سلميتها، ولتبرير قمعها بالقوة بحجة الدفاع عن النفس.
تقول أجهزة إعلام الكاظمي إنه أشاد “بانضباط الأعداد الكبيرة من المتظاهرين، وبصبر قواته الأمنية (البطلة) على الجماعات المنفلتة والعصابات التي أرادت حرف التظاهرات عن مسارها السلمي، ولكن المتظاهرين رفضوا ذلك”.
وأشار بيان صادر عن مجلس وزراء الكاظمي إلى “أهمية التزام المتظاهرين بالتظاهر السلمي والانضباط والتعاون مع القوات الأمنية، وهو ما سيمكّن صوت المتظاهرين من الوصول إلى مقصده، ويوفر لأبنائنا المتظاهرين أقصى الحماية والحرية في التعبير”.
وبالتدقيق والتمحيص يمكن القول، أخيرا، إن المطلوب من الانتفاضة هو البقاء في حدود اللعلعة والصخب والكلام الفاضي، والقبول الضمني ببقاء الحال على حاله، بكل سوئه وخرابه وفساده، وبألاعيب المحتل الإيراني وسلاحه المنفلت الذي يتحكم في الدولة لوحده، وإبقاء الوطن العراقي وأهله مصدر تمويل مالي وسياسي قوي ووحيد تحتاج إليه إيران اليوم أكثر من حاجتها السابقة إليه.
ورغم أن مطالب المتظاهرين عادلة ومشروعة وواجبة الإصرار على تحقيقها، مهما غلت التضحيات، إلا أن الانتفاضة، إذا ما بقيت بنهجها الحالي لن تفلح في إحداث التغيير المطلوب، ولن تحقق شيئا من مطالبها، وستبقى رهينة وعود مصطفى الكاظمي التي لن يجرؤ على تنفيذ أي منها.
وبدون أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتتضح معالم المعركة وحدودها وميادينها، وبدون الحزم والحسم وإعلان رفض المنتفضين لأحضان مصطفى الكاظمي، وبدون ضمّه إلى جبهة أعداء الإرادة الحرة الحقيقية للشعب العراقي، كأي واحد من جلاوزة الاحتلال الإيراني وأدواته الفاعلة، لن يكون للانتفاضة معنى، ولن تكون سوى فقاعة، حالها كحال أي ظاهرة صوتية عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع.