18 ديسمبر، 2024 9:54 م

شيخوخة النظام العالمي الراهن وعجزه عن إدارة الصراعات الدولية

شيخوخة النظام العالمي الراهن وعجزه عن إدارة الصراعات الدولية

يعيش العالم اليوم فوضى عارمة تشمل أغلب الدول المهمة سياسيا واقتصاديا وحتى جغرافيا، وفي الغالب هذه الفوضى جاءت نتيجة السياسات التي تتبعها الدول الكبرى حاليا والتي اتبعتها في الماضي والمخطط لما ستعمله مستقبلا، فبعض هذه السياسيات شكلت عداءات مع الدول المجاورة لبعضها برا أو بحرا لعدة أسباب متراكمة، أدت بالنتيجة للوصول إلى الأبواب المغلقة على مستوى العلاقات والتعاون المشترك مابين البُلدان، والذي أثر على دول أخرى متحالفة مع الدول صاحبة الصراعات الرئيسية، مما خلق فجوة كبيرة بين أغلب الدول وإرباك على المستوى العالمي.
فالعالم الآن بصورة عامة وليس بلدا معينا، يعيش فترة انتقالية مهمة، ليس بين حكومتين أو قائدين وإنما بين نظامين عالميين، فالنظام العالمي القائم حاليا يتداعى وغير قادر على القيام بمهامه وممارسة صلاحياته وبدأت تظهر عليه علامات الشيخوخة، وبين نظام جديد في طور التشكل.

وللوقوف أكثر على مصطلح (الفترة الانتقالية) بين نظامين عالميين، نشير إلى أن هذا المصطلح قد استخدم في الإمبراطورية الرومانية القديمة لتصف الفترات الانتقالية بين الحكومات المستقرة، واستخدمت أيضا في الأنظمة الملكية لتصف فترات الحكم التي تتوسط بين الحكم الملكي الذي انتهى وبين الحكم الملكي الذي سيستلم العرش، واستخدمت كذلك في الأنظمة البرلمانية، كما استخدم هذا المصطلح بوضوح السياسي والفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي بكثرة في إحدى مذكراته بقوله: “الأزمة تتمثل بدقة في حقيقة أن القديم يموت والجديد يتعذر ميلاده، وفي هذه الفترة الانتقالية كثير من الأعراض الخبيثة تظهر على السطح”، بمعنى أن النظام العالمي القائم بدأ يحتضر أو بدأ بالموت السريري، والنظام الجديد يسعى أو يكافح للظهور إلى العلن واثبات وجوده، ويعتبر غرامشي أن هذه الفترة هي (فترة الشرور) فكلا يسعى لإثبات وجوده والتمسك بالسيطرة العالمية.

تاريخيا، إذا استمرت الفترات الانتقالية بين سلطتين لفترة طويلة كانت تتصف تلك المرحلة بالفوضى والعنف، بسبب غياب السلطة المركزية وإحداث فراغ في السلطة، وهذا الفراغ بالنتيجة سيؤدي إلى عنف وفوضى يأخذ أشكالا مختلفة أشهرها الصراعات الداخلية أو الصراع من أجل الحكم، بحيث يبرز كل طرف ادعاء أحقيته بالاستيلاء على الحكم وتطبيق قوانينه التي سيفرضها لاحقا على الرعية، والتي تكون نتيجتها دائما نشوء الحروب الأهلية وغياب سلطة القانون وانتشار الجرائم.
والمتتبع لتاريخ أنظمة الحكم يلاحظ انتهاء الفترات الانتقالية بأحد سيناريوهات محتملة: تظهر حكومة أو قائد قوي يعيد الاستقرار إلى هذا البلد المنكوب، أو إذا فشلت هذه الحكومة تتهيأ الظروف لتفكك عناصر القوة وتهشم الدولة وتكون الأرضية مناسبة لفرض غزو خارجي لهذه الدولة والسيطرة على مقاليد الحكم فيها وإعادة الاستقرار النسبي لها.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت تظهر على النظام القائم -في ذلك الوقت- بقيادة بريطانيا العظمى بدأت تظهر عليه علامات الشيخوخة والضعف أي بمعنى دخول العالم إلى فترة وسطية وهي فترة انتقالية للتهيؤ لدفن النظام العالمي القائم وقتها واستقبال نظام عالمي جديد، حيث كان العالم بأجمعه يعاني كل خصائص الفوضى والعنف كالثورات والمجاعات والكساد الاقتصادي الذي ضرب العالم عام 1929 والحروب الداخلية والصراعات العائلية من أجل السيطرة على حكم الدول وتغيير الأنظمة فيها، وكل هذه الفوضى حدثت بسبب عدم سيطرة النظام البريطاني- الفرنسي القائم وقتها، ووضوح علامات الشيخوخة وعدم السيطرة على مجريات الأمور في الدول المتصارعة، فأستغلت بعض الدول هذا الضعف العالمي واعتبرته الوقت المناسب لتحدي الدول المسيطرة عالميا وبدأت بفرض إرادتها كاليابان وألمانيا وإيطاليا بتحدي النظام البريطاني- الفرنسي المسيطر عالميا، ووصل هذا التحدي ذروته في الحرب العالمية الثانية 1939- 1944، ولم يعرف العالم الهدوء النسبي حتى وقت ظهور النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي، وظل كذلك حتى بداية التسعينات بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، وقتها عادت الفوضى مرة أخرى تضرب العالم في بعض الأماكن التي كانت تحت سيطرة الإتحاد السوفيتي، وأعاد العالم مرة أخرى استقراره تحت نظام عالمي جديد تفردت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة على مقاليد الأمور، لكن بعد حوالي 20 سنة من سقوط الإتحاد السوفيتي عادت لتظهر أعراض الشيخوخة على نظام الولايات المتحدة كما ظهرت أعراض الشيخوخة على نظام المملكة البريطانية العظمى من قبل بعد الحرب العالمية الأولى، ودخل العالم مرة أخرى بعد حوالي 15 سنة في مرحلة انتقالية جديدة والتي انتهت بالحرب العالمية الثانية.
وما يحدث اليوم على الساحة الدولية، فهناك الكثير من المظاهر التي حدثت وتحدث حاليا مشابهة تقريبا لما حدث في فترة النظام العالمي البريطاني، فهناك دول (مفترسة) تتحدى النظام القائم بقيادة الولايات المتحدة، وأهم هذه الدول هي الصين التي تحاول أن تستغل الضعف النسبي في الإمبراطورية الأمريكية، وتحاول أيضا أن تتوسع وتبسط نفوذها في أماكن حيوية قريبة منها وعلى رأسها بحر الصين الجنوبي.
وهناك أيضا روسيا، التي يعتقد رئيسها أن إسقاط الإتحاد السوفيتي كان خطأ تاريخي ويجب تصحيحه، فهي تسعى للسيطرة على أماكن حيوية جدا لأمنها القومي واستعادة هيبتها وبسط نفوذها.
وبعيدا عن الدول الكبرى التي تمثل تهديدا مباشرا للولايات المتحدة، نجد أن الدول الصديقة تسعى لإيجاد صيغ مختلفة لحماية أمنها القومي مثل الدول الأوروبية التي تحاول أن تجد صيغة لتأمين أمنها بعيدا عن الولايات المتحدة التي إما تخلت أو أنها ستتخلى عنها.

أما الفوضى التي تضرب منطقة الشرق الأوسط، فهي تدل على وجود أعراض واضحة ودقيقة للفترة الانتقالية التي يعيشها العالم اليوم، فالسبب الرئيسي لقيام الفوضى في منطقة الشرق الأوسط هو غياب السلطة المركزية التي تسيطر على هذه المنطقة من العالم، فعلى مدار التاريخ كانت منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تحت سلطة مركزية تفرض إرادتها عليهم، كالإمبراطورية العثمانية التي حكمت دول المنطقة لمئات السنوات حتى إنهارت في الحرب العالمية الأولى، ثم خلفتها المملكة البريطانية وفرنسا في السيطرة على دول المنطقة حتى ضعفت بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت الكثير من دول المنطقة تخرج من تحت عباءة هاتين الدولتين تحت مسمى إعلان الاستقلال، لتقع تحت سيطرة أو نفوذ إما الإتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة الذين كانوا يتحكمون بدول المنطقة بشكل غير مباشر من خلال أنظمة اتصفت بأنها كانت لديها القوة والقدرة على إحكام سيطرتها على كامل أقاليم دول المنطقة، وبنفس الوقت كانت دول قمعية، يعني دول عظمى حققت الاستقرار للدول المسيطرة عليه على حساب التنمية السياسية والاقتصادية وعلى حساب الحريات العامة…الخ كما هو معروف.
في الفترة الأخيرة حدثت الأمور الفوضوية بسبب أمرين: الأول/ ظهور علامات الشيخوخة على النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، وبالتالي هناك بعض الدول تحاول أن تستغل هذا الفراغ الذي خلفه التراجع الأمريكي لصالحها ومن هذه الدول إيران وتركيا وإسرائيل، أما الأمر الثاني فكانت بسبب أهم نتائج ثورات الربيع العربي التي تخلصت شعوبها من أنظمة قمعية، ولكن دخلت في فوضى لا يعلم أحد متى يمكن أن تخرج منها خصوصا مع سقوط الدولة القومية في كثير من دول العالم العربي.
ولو قمنا بترابط أحداث التاريخ الماضي مع الحاضر، ربما يمكننا الحكم على ما سيدور في المستقبل من أحداث، فإذا كان التاريخ هادئا، وإذا كان كلام غرامشي مازال قائما، فهذا واضح جدا أن منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي للأسف سوف تظل تعاني من الفوضى بكل أشكالها وتعايش كل خصائص الفترة الانتقالية التي تحدث بسبب غياب السلطة المركزية، وسوف تعاني من هذه الفوضى والحروب والصراعات والثورات وسقوط الأنظمة وقيام أنظمة أخرى حتى يتشكل نظام عالمي جديد يخلف النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة الذي ظهرت عليه علامات الشيخوخة بوضوح، وربما يحدث انتقال النظام العالمي من الغرب إلى الشرق بقيادة جمهورية الصين الشعبية.
…………………….