لاحقاً بمقالات سابقة ، وقبل أن نمضي في واجب ( التصحيح ) و ( التنبيه ) ، نود التنويه بآن تناول أي حدث تاريخي ، يكتسب أهميته بمقدار ما فيه من دلالات ودروس هامة ونافعة للحاضر والمستقبل . ومن هذا المنطلق ، وحين نتصفح كتاب ( جامعة آل البيت ١٩٢٤-١٩٣٠ ) لمؤلفه د. سيار الجميل ، نجد معلومات عن حدث تاريخي هام يعزوها المؤلف الى تقرير وصفه بانه ( تقرير ممتاز ) حول المقبرة الملكية في الاعظمية … من تلك المعلومات ، نص يقول ( … تقديراً من الملك فيصل للعلم والعلماء ، فقد إختار أن يكون مدفنه قرب هذه الجامعة – جامعة آل البيت – ) . ووجدنا نفس هذا الكلام عند أفاضل آخرين منهم د. عبدالسلام رؤوف ، استاذ مادة التاريخ في جامعة بغداد ، في حديث له ورد في تقرير منشور في مجلة الگاردينيا في تشرين أول ٢٠١٣ … وقرأنا لمتحدث آخر عن محاضرة له في مقهى الشابندر ما نصه ( كانت رغبة الملك في أن يكون قبره جزءاً من هذه الجامعة )
إن كل هذه الاقوال تعني أن الملك قد أوصى بدفنه قرب جامعة كانت قائمة في المكان موضوع البحث في تلك الفترة اسمها جامعة آل البيت وكان يزدهر في كلياتها ومنشئاتها العلم والادب والفن وكانت تحتضن العلماء وطلبة العلم ، لكن هذه المقالة ستفرز حقائق نستنتج منها بان لا صحة لهذه الاقوال على الاطلاق ، وانها تنم عن إهمال أوجهل أو تجاهل تام لجملة حقائق تاريخية ومؤشرات ذات صلة .وكنا قد أفرزنا في مقال سابق حقيقة مفادها أن المكان لم يشهد تأسيس جامعة بل كان طارداً للعلم والعلماء ومحتفياً بالبرلمانيين والسياسيين في الفترة من عام ١٩٣٠ حتى وفاة الملك في عام ١٩٣٣!!!
وللتحقق من صواب اجتهادنا ، يقتضي أن نتناول بالوصف والتحليل ، احداث هذه الفترة تحديداً ،مع المرور على احداث سنوات قبلها ، قدر تعلقها بموضوع البحث ، وسنتناولها في محورين ….. الأول ، لمحات شخصية عن الملك قبل جلوسه على العرش ومكانة العلم والتعليم في فكره ، ووصف لحالته النفسية في العام الأول لانطلاق مشروع الجامعة ، ثم كيف أصبحت بعد فشله الذريع في تأسيس الجامعة وإلغاء ملف المشروع بالكامل … والثاني ، وصف لمكان الموقع الذي تم اختياره مدفناً للملك والمتغيرات التي حصلت فيه في هذه الفترة !!
المحور الأول : كانت تمتلك الملك ، مشاعر السعادة وروح التفاؤل ، منذ كان مشروع إنشاء جامعة عصرية فكرة من أهم أولويات أفكاره ، للنهوض بالامة وتآسيس الدولة … فقد كتب أفاضل كثيرون عن المكانه الخاصه والمتميزه للعلم والعلماء ولمختلف شؤون التعليم في فكر الملك … كتبوا عن وعيه وايمانه وفهمه للحاجة الماسة والاولوية الخاصة لتشييد جامعة عصرية حديثة في وقت مبكر من تكوين الدولة ، ويكون من أهم مقوماتها وأهدافها ، التقريب بين المذهبين ومنتسبيهم ضمن مشروع نهضوي ( لتكوين شعب عراقي متدرب متعلم مؤمن بالفكرة الوطنية التي تعلو على فكرة التكتلات البشرية الخيالية ، الخالية من أية فكرة وطنية والمتشبعة بالتقاليد والاباطيل الدينية ولا يجمع بينهم جامعة …) ، كما ورد في مذكرته الشهيره . وكانت رؤيته في ذلك تبدأ من اعداد كوادر متخصصة في الاداب والعلوم والفنون يمكن الاعتماد عليهم في مشروع نهضة حديثة … وكتبوا عن الملك وكيف أنه تبنى وتحمس كثيراً لمشروع إنشاء الجامعة كثيراً لانه كان طالباً في جامعة إسطنبول ، ولأنه شاهد اورپا وهي تزخر بالجامعات … كتبوا عن قيامه بتفقد أطلال المدرسة المستنصرية في بغداد في ١٦/ ٧ / ١٩٢١ (أي قبل تنصيبه على العرش ) !!! ، واعلن من هناك عهده للامة في ( إعادة مجد المستنصرية ) !!
وفي هذا المناخ وبهذه الروح المفعمة بالمحبة والايمان الطاغي بآولوية العلم والتعليم في بناء الدولة والمجتمع ، بدأت فكرة إنشاء الجامعة … كتبوا كيف أن مراسلات ديوان البلاط الملكي مع الجهات الرسمية تشهد على حرصه الشديد واهتمامه الخاص بضرورة إنشاء صرح علمي على آساس متين ، وكيف انه ومنذ أول خطوة وضعها على الأرض للشروع بتنفيذ مشروع الجامعة ، أخذ يتابع تقدم العمل بنفسه بزيارات ميدانية متتالية ، بهمة عالية وشوق كبير . وكيف أن أطفالاً شاهدوه في احدى زياراته وتبعوه لمشاهدة ألبناء فقال لهم : أولادي جئتم تتفرجون على جامعتكم !! … وكتبوا كيف كان يستعجل المسؤولين على العمل ويبدي ملاحظاته عن الصغيرة والكبيرة ، وعندما كان يرى تأخراً في العمل فانه يكتب الى رئيس الوزراء بذلك . ورسائل الديوان الى وزير الأوقاف تتحدث عن طلب الملك الى وزير الأوقاف ، بضرورة وضع نظام للكلية الدينية قبل إجراء مراسم إفتتاح بنايتها بشهرين مع تذكير الوزير ( بفائدة التفكير في تأليف لجنة من رجال العلم والفن الذين حنكتهم التجارب في أصول التدريس وشؤون المعارف لاجل وضع نظام للكلية على طريقة حديثة تكفل تقدمها ونجاحها ، وان يكون البدأ في هذا العمل في أسرع وقت ممكن حتى إذا تمت المراسم لا يبقى ما يعيق مباشرة التعليم ) … وتحدثوا عن الملك وكيف كان في أوج وذروة مشاعره بالسعادة وهو يحضر افتتاح بناية كلية العلوم الدينية في يوم ٧ / ٣ / ١٩٢٤ والذي دعي ( يوم الجامعة وعيد الامة ) ، ثم يتوجه مباشرة الى موقع الصرح المركزي للجامعة (بهو رئاسة الجامعة ) ويضع إسطوانة حجر أساس مشروع الجامعة … ويقول حينها مخاطباً الامة ( كل عمل لا يُشيد الا على أساس متين ، كهذا الأساس لا تقوم له قائمة ، وها اني أضع حجر الأساس في أول جامعة تُشاد في هذا البلد ، وأؤمل أن تقدرها الامة العزيزة حق قدرها وتُعنى بتأسيس الجامعات الكثيرة امثالها وأرقى منها لتستعيد مجدها التاريخي وغارب عزها القديم ، وتتسنم مكانة رفيعة في عالم العلم والادب والفن )
المحور الثاني … لكن سعادة الملك الغامرة هذه لم تدم طويلاً ، اذ بدأت مرحلة الإحباط ومرارة الإحساس بالفشل أمام سطوة المناهضين الذين تمكنوا من اختلاق شتى العراقيل والمبررات أمام المضي في المشروع والتي كانت سبباً في تأخير مباشرة الطلبة في الدوام في الكلية المنشودة مدة ستة أشهر مما أدى الى انسحاب معظم الطلبة المتقدمين للدراسة !!! ومما ساهم في مشاعر الملك السلبية أنه لم يجد في أمته العزيزة من ناصر ينصره ، غير نفر قليل ، ضعيف أمام المناهضين … لهذا وجد الباحثون بأن الملك قد نأى بنفسه عن مشروع الجامعة حيث آنهم لم يعثروا في مراسلات البلاط ما يشير الى استمرار متابعته لاي شآن من شؤون المشروع منذ السنة الثانية لافتتاح الكلية ، ليستمر هذا الحال حتى صدور قرار مجلس الوزراء برئاسة نوري السعيد ( بسد الشعبة الدينية مؤقتاً ) في ٤/ ٥ / ١٩٣٠وهو القرار الذي كان في حقيقته غلق ملف مشروع الجامعة بالكامل !!! وحينها فوجئ الملك بصدور القرار ، فوجهت سكرتارية الديوان الملكي الى ديوان مجلس الوزراء رسالة جاء فيها ( علم صاحب الجلالة ، أن الأوامر قد أعطيت لسد الشعبة الدينية من جامعة آل البيت حالاً وقبل أن يتم التلاميذ فحوصهم – امتحاناتهم – ولا شك أن فخامة رئيس الوزراء يتفق مع صاحب الجلالة على أن هذا التدبير سابقاً لاوانه لان الظروف لا تبرره وهو مجحف بحق التلاميذ … )
تلك هي المشاعر السلبية والمريرة من احباط وأسى ، التي تملكت الملك ، لتبلغ ذروتها بقيام المناهضين باتخاذهم بناية الكلية مقراً للبرلمان في تشرين أول ١٩٣٠ !!! بمعنى أن موقع المشروع لم يعد فيه غير أشجار بستان وبناية برلمان وسياسة وسياسيون ولا جامعة ولا طلبة علم ولا علماء !!!
وفي هذه الفترة ، في آذار١٩٣٢ كتب الملك مذكرته الشهيرة ليقول فيها بأن ( قلبه ملآن أسى ) وشاكياً ( من بعض وزرائه ورجال ثقته لعدم وقوفهم تماماً على أفكاره وتصوراته ونظره في شؤون البلاد وفي كيفية تشكيلها وتكوينها … ) … وحين كان الملك يكتب مذكرته ، فإن موقع بناية الصرح المركزي ( بهو رئاسة الجامعة ) الذي مر ذكره ، كان قطعة أرض متروكة منذ نحو سبع سنوات بعد ان توقف فيها البناء لغاية الأسس … ولهذا فان الموقع أصبح كابوساً يذكر الملك بفشله الذريع في تحقيق واحد من أعز آماله وأحلامه ويذكره بأن ( امته العزيزة ) لم تقدر مشروع الجامعة حق قدره ، وخذلته ولم يجد فيها من ( ناصر ينصره ) غير نفر قليل … هذا الموقع أصبح يذكره كذلك، بانه مغلوب على أمره في هذا الامر … والسؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك ، ويعزز اجتهادنا وبعد كل الذي ذكرناه : هل يُعقل أن يختار الملك هذا الموقع مدفناً له ؟!!!
إذن … من الذي اختاره ؟… ولماذا ؟!… إن كل من اعتمد وثائق البلاط الملكي من الباحثين لم يذكر أية إشارة الى الذي اختار موقع المقبرة … لكن… قد يكون من الذين لا يفقهون ولا يحترمون العلم والعلماء … أوانه من الذين لا يريدون ان تقوم قائمة للمشروع وأن لا يفكر احد باحيائه … أوانه من الذين يريدون سيادة الخرافة والجهل والتطرف الطائفي … أوانه من الذين يدعمون الهويات الفرعية بديلاً عن الهوية الوطنية العراقية … أوانه من الذين يخشىون على مصلحتهم الشخصية وموقعهم في الدولة أو المجتمع … ذلك قليل مما ينبغي ان يحضر في الذهن عند كل من يستذكر المقبرة الملكية او يزورها او يقرأ الفاتحة ويطلب الرحمة للملك !!
وكلمة أخيرة يقتضي الختام بها … ونذكر بان الملك يوم كان في المستشفى في سويسرا ، يلفظ أنفاسه الأخيرة ، بعد ان كان قد تناول الشاي ، فاه بكلمات قصيرة … كلمات لم يكن بينها ، ولا كلمة واحدة عن مكان مدفنه سواء في موقع بناية رئاسة الجامعة ، حيث وضع أسطوانة حجر أساس المشروع ، أو في مكان آخر غيره !!!