23 ديسمبر، 2024 7:53 م

العراق بين حضارتي وادي الرافدين والعباسيين وحركة الترجمة

العراق بين حضارتي وادي الرافدين والعباسيين وحركة الترجمة

كتبت بحثاً مطولاً عن الإشعاعات العلمية في العصر العباسي الأول وتأثيراتها على العقل الإنساني , ونشرته في عدة مواقع , ونظراً لطول البحث , لذلك حسبت حسابي مسبقا , وبترت  فقرات مهمة منه , لأن الإشعاعات لا تأتي من فراغ , ومن تلك الفقرات الجذور التاريخية لحضارة وادي الرافدين , والحضارة العباسيه في عصرها الأول , وحركة الترجمة في ذلك العصر , وهذه الفقرات مقدمة للبحث المذكور , وبمناسب ( مؤتمر بغداد الدولي الثاني للترجمة نافذة مشرقة على العالم ) ,ارتأيت أن أن أنشر هذا المقال المتواضع كإسهام بسيط في هذه النافذة المهمة لتلاقح العقول ورقي الحضارة الوطنية والإنسانية.

نظرات خاطفة :
 1- حضارة وادي الرافدين:

كان العراق عظيماً حيث كانت حصارات سادت ثم بادت, حضارات مابين النهرين اي وادي الرافدين, رمز الرقي والتقدم في العالم القديم منذ اربعة الاف سنة قبل الميلاد تقريباً, حيث هاجرت الكثير من القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية الى الهلال الخصيب , من عربها البائدة  وعربها الباقية بعاربتها و (مستعربتها – كما زعموا – ) , واختلطت مع السكان الاصليين وأصحاب حضارة العبيد من السومريين والاكديين القدماء.
بدأت الحضارة السومرية تشق طريقها نحو النمو والارتقاء حيث بنوا مدناً مهمة كآوروك (الوركاء) وكيش واور وهي المدينة التي ولد فيها النبي ابراهيم الخليل (ع) , وظهرت  فيها أول كتابة في التاريخ, هي الكتابة الصورية, ثم شارك السومريون والاكديون وهم من الشعوب السامية بما فيهم العرب سنة 2350 ق.م حتى سنة 2218 ق.م وطوروا نظام الكتابة الصورية الى شكل الكتابة الرمزية التي سميت بالخط المسماري, حيث استمر العمل به لمدة 2000 سنة وكذلك اسسوا النظام التعليمي المركزي وخصوصاً عندما نهض القائد الاكدي العظيم سرجون الاول (2334-2279) ق.م وبنى عاصمته الشهيرة (أكد) على الضفة الشرقية من نهر الفرات قرب مدينة كيش, واصبحت من اعظم مدن العالم القديمة, وفرض اللغة الاكدية على السومرية, ولو ان السومريين تقبلوا الاكديين بسهولة لتقارب حضارتيهما, وتماثلهما في جميع المجالات, فتطورت الصناعة وخصوصاً صناعة البرونز, والادوات المختلفة الاخرى, وثم السيطرة على الفيضانات ببناء السدود وفتح القنوات, وساهم العرب بخبرتهم في هندسة الري والزراعة والتجارة الداخلية والخارجية التي اكتسبوها من اليمن السعيد وسدوده  وتجارته  أيام بلقيسهم ومأربهم وسبأهم بعد نزحهم  , ولكن هذه الحضارة قضى عليها من قبل الغوتيين وهم قبائل من التلال الشرقية وذلك عام 2218 ق.م ثم تقوم الحضارة البابلية الاولى 1894-1594) ق.م واشهر ملوكهم حمورابي الذي وحد الامبراطورية لشخصيته الفذة في المجال العسكري والاداري والتنظيمي, وتعتبر مسلته الشهيرة التي تحمل 282 مادة اقدم واشمل وثيقة قانونية جزائية عادلة في العالم … ويأتي الاشوريون بملكهم اشوربانيبال (668-626) ق.م ومن اشهر مدنهم اشور ونينوى, ويتميز عهده بالقوة العسكرية ونشر الثقافة والفنون, وتأسيس اول مكتبة في نينوى تضم معظم الادب المسماري في ذلك العصر, وفي القرن الثاني عشر قبل الميلاد يقسم العراق بين الاشوريين في الشمال والكاشيين في الجنوب ثم تعرضت الدولة الاشورية الى غزو خارجي بعد اضطرابات داخلية, ادى الى سقوط الدولة على يد نبوبولاسر الميديني سنة 612 ق.م, فتقوم السلالة البابلية الثانية ويتزعمها نبوخذنصر الثاني (وهو ابن نبولولاسر), وحكم مابين (562-604 ق.م), وهو الذي احتل جوديا (القدس) عام 586 ق.م, ودمر معبد سليمان ومن اشهر معالم عصره (الجنائن المعلقة) في مدينة بابل, وتعتبر من عجائب الدنيا السبع القديمة, واخيراً تسقط بابل على يد (كورش) الفارسي سنة 539 ق.م, ويستمر حكمهم حتى هزيمتهم على يد الاسكندر المقدوني الكبير (321)ق.م وهو من الاسرة السلوفية والتي هي بدورها يسقطها الباريثيون وهم من اصل فارسي سنة 141 ق.م ويقضي على هؤلاء الساسانيون الفرس عام 224 م, و يعين الساسانيون الملوك اللخميين على حكم العراق (268-607م) ويصحو العرب من سباتهم الطويل في معركة ذي قار الشهيرة وتهزم الجيوش الفارسية على يد القائد البدوي العسكري النادر في التاريخ المثنى بن حارث الشيباني عام 610 م, ثم ينهض العرب والمسلمون كالمارد الجبار عند البعثة المحمدية, وسرعان ماتتم الفتوحات في جميع الاتجاهات ويكون نصيب العراق منها معركة القادسية الشهيرة التي ادخلت بلاد فارس الى حظيرة الاسلام وذلك عام (636م/15هـ), ويتم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب تمصير البصرة والكوفة عامي 15هـ و17هـ (636,638م) على التوالي , وتصبح الكوفة عاصمة الخلافة الاسلامية في (36 الى 40هـ) (657م الى 661م) في عهد الامام علي (ع) – من أبسط أعماله وضع أسس علم النحو بإحماع العلماء والمؤرخين تقريباً كما ذكرنا في بحوثنا –   وشطراً من خلافة الامام الحسن (ع) حتى عُقد الصلح مع معاوية.

2 – الحضارة العباسية في عصرها الاول:
 
لا اريد ان اكرر نفسي مرة ثانية في تناول ملوك الحيرة ومعركتي ذي قار والقادسية ولا الكلام عن دورالمسلمين والعرب أبان  الدولتين الأموية و العباسية وازدهارهما من حيث النواحي الدينية واللغوية والادبية (القرآن والقرّاء , الحديث والمحدثون, الفقه والفقهاء والمدارس الفقهية, واللغة, ومصادر بحوث التنقية اللغوية, والنحو… نشأته والمدرستان النحويتان البصرية والكوفية) كل ذلك ذكرته في كتابيي الموسومين (تاريخ الحيرة .. الكوفة .. الاطوار المبكرة للنجف الاشرف) و (ونشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية – مقارنة بين النحو البصري والنحو الكوفي ) ثم هذا هو تمهيد للفصل بين رقي الامة وازدهارها من جهة وانحدارها وتشتتها وتسلط الاجانب عليها من جهة ثانية, ولكن ساتناول موضوع الترجمة والتطور الاجتماعي والعلمي والطبي والصناعي في بغداد وما انبثق منها من اشعاعات – نـُشر البحث في المواقع – لتعم بعض الحواضر العربية والاسلامية بشكل مختصر لقد وضع الخليفة ابوجعفر المنصور الحجر الاساسي لمدينة بغداد عام 145هـ – 762م, واعتمدها عاصمة رسمية للدولة عام (149هـ/766م) وهكذا انتقلت عاصمة الخلافة الاسلامية من دمشق وهي عاصمة الامويين الى بغداد حيث الخلافة العباسية فازدهرت ازدهاراً كبيراً بسرعة فائقة, ونهضت كالعملاق لتسود على جميع مدن العالم
 ان بناء بغداد لم يكن لها وحدها, بل هو بناء لامة, وقيام لنهضة شامخة تعم العالم الاسلامي بأجمعه, لقد ازدهر العراق ازدهاراً لا مثيل له, في جميع المجالات ومن ورائه كل الولايات التابعة له, فأصبحت بغداد ومدرستا البصرة والكوفة ومن ثم الموصل الحدباء قبلة للعلماء والعمال المهرة والمزارعين الاكفاء يقدمون للعراق من جميع انحاء الدنيا القديمة كالمغاربة واالصقالبة والفرس والاتراك والاحباش والروم ومن بلاد الهند والسند, واحتضنت بغداد من بعد بمدرستها الخاصة اغلب العلماء والادباء والشعراء والفنانين والمترجمين وغطت على المدرستين القديمتين -أعني البصرة والكوفة-, واستحوذت على العلم والعمل والامن والمال مما ادى الى الترف والعيش الرغيد والرقي والتعليم والدلع والمجون… واصبح الانتساب اليها نوعاً من الاعتزاز والفخر والعلو (التبغدد) وخصوصاً في عصر الخليفة هارون الرشيد ومن بعده الخليفة المأمون … اذ يجبى اليها كل خراج الدنيا, وتصب عليها الخيرات اينما يمطر السحاب ,
 فعج الشعراء في ندواتهم والنحاة في مناظرتهم والزهاد في زواياهم والعلماء في مختبراتهم والكتاب في مكتابتهم والسكارى في مجونهم وعبثهم, اما البصرة عاصمة الفتوحات الاسلامية ومركز الطرق للعابرين الى فارس وبلاد الهند والسند وجزر الواق واق شرقاً! والى الجنوب حيث صحراء العرب الشاسعة وقبلة المسلمين ومدينة الرسول (ص) … والى الشمال كل بلاد السواد واهل العراقيَن .غطت على اور والوركاء, وحلت محلهما, ناهضة بعمرانها, قبة لاسلامها تعج بالعلماء والفقهاء والشعراء.. ففقيهها الحسن البصري الشهير وكاتبها اللامع ومترجمها الضالع عبد الله بن المقفع , واصمعيها الراوية لكل ظريف وطريف وجاحظها العظيم وابو نواسها السكير وبشارها الاعمى البصير … هذا قبل خراب البصرة على ايدي الزنج, كانت زاهية بزراعتها ونخيلها وشطها. أما الموصل الحدباء فتحل محل نينوى واشور والحضر .. ثغر العراق الرئيس المؤدي الى بلاد الروم واباطرته في القسطنطينية شمالاً .. والى الغرب حيث بلاد الشام بحلبها الشهباء ودمشقها الفيحاء ومن الشرق موطن الاكراد وبلاد فارس والقوقاز وطريق الحرير … غنية بغاباتها المثمرة ودجلتها الرافد الخالد … وتتوسط مراكز زراعية ومنجمية وعسكرية مهمة ويتولى الشاعر الشهير ابو تمام مصلحة البريد فيها وتعني في ذلك العصر كل الاخبار الامنية والسياسية والاقتصادية القادمة من الامصار والثغور تمر على باصريه .. اما الكوفة عاصمة الخلافة الاسلامية في عهد الامام (ع) تاخذ مكان حيرتها وأديرة ظهرها, وتثري العاصمة برجالاتها الافذاذ كجابر بن حيان ابي الكيمياء والكسائي النحوي القرّاء الشهير وابي حنيفة النعمان صاحب مدرسة الكوفة الفقهية في الرأي والقياس وابي العتاهية شاعر الزهد والغفران وغيرهم , فالكوفة بسوادها المعطاء وبطائحها وظهرها كانت مركزاً تجارياً ودينياً وسياحياً, فكثير ماكان الخلفاء العباسيون يرتادونها للتنزه والصيد لطيب هوائها  واعتدال مناخها وكثرة بساتينها. كل العراق كان خيراً الزراعة بشتى انواعها, العنبر الفواح يعج في اسواقه والتمور بأنواعها والقطن على اجود مايكون والحنطة والشعير واالخضار وما تشتهي والفواكه وماتلذ, اما الثروة الحيوانية حدث ولاحرج, فالعراق مرعى خصب ومخزن مائي كبير, فلك ما تريد من الاغنام والماعز والجاموس الذي ادخل للعراق من اسبانيا المدر لحليبه والوفير بلحمه, والاسماك والطيور المهاجرة والمتوطنة, ولا اتكلم عن الاباعر والخيول والمها فأنت اعرف بها.
 أما الري فكان منظماً … السدود تبنى والقنوات تفتح للسيطرة على الفيضانات, والبزل مخطط له باتقان , كان سكان العراق يتجاوز العشرين مليون ونيف -كما يذكر علماء التاريخ – ونحن نتساءل ماحل بهم , وأين التكاثر التسكاني ليمسي ولا اقول ليصبح -لانه لم يعد هنالك صباح- في اوائل القرن العشرين اقل من مليونين , لقد ذهبوا ضحية الحروب والفتن والفيضانات والطواعين والكوليرا, ومن لم يولد بقى في عالم الغيب, لا اكتب اليك -ياقارئي الكريم- من وحي الخيال والاوهام, هذا هو لب الحقيقة والواقع بعينه قبل اكتشاف النفط والكبريت واليورانيوم وغيرها من المعادن حديثاً وما تدر من أموال طائلة, ولا شيء…
فهل تتصور في العصر العباسي لا توجد معادن؟!
كلا , توجد المعادن ومعها صناعة التعدين, ليس في بغداد وحدها بل في جميع ارجاء الامبراطورية العباسية الواسعة… ونخص بالذكر سوريا حيث كانت مركزاً لمحاجر الرخام ومناجم الكبريت كما كانت اصفهان مركز لاستخراج خام الانتيمون, أما فرغانة فاشتهرت بمناجم الزئبق واستخراج رواسب القار وفي خراسان تتم صناعة الاواني والعملة من الذهب والفضة, وترصع بهما السيوف وتوشي الملابس اضافة الى نيسابور حيث الاحجار الكريمة كالياقوت والفيروز واللازورد, ولاننسى بلاد الشام التي ابدعت كل الابداع في صناعة الزجاج الملون والمطلي بالمينا, وهنالك في سمرقند تتطورت صناعة الورق بشكل دقيق وبامتياز, وكل ما ذكرنا من زينة وابداع وصناعة تصب في بغداد ولأهل بغداد خاصة .. وللعراق وشعب العراق عامة
أما من حيث التطور الطبي ففي العهد الهاروني الرشيد بنيت اول مستشفى دراسي في بغداد ثم توالت مثيلاتها خارجها, وكان يلحق بكل منها عيادة خارجية ومكتبة, وكل الوسائل التي يحتاجها الطلاب لدراستهم مع توفير كافة الامكانيات لتطورها, واستمر النظام المحكم حتى بلغ أوجه في عصر المقتدر العباسي, حيث كان لا يمكن لأي طبيب وصيدلي وكيميائي أن يمارس المهنة الا بترخيص خاص, لكي لا يتغلغل المشعوذون لاضرار الناس والمرضى. وكان اول من قام بهذه الاختبارات (سنان بن ثابت), تـ338هـ, وهذا (سنان) هو أول من ابتكر العيادات الصحية النقالة (البيراماستانات) ويزودها بالادوية والاغذية, ولمن؟ … للمرضى المسجونين أو في الاماكن النائية أو للحالات الطارئة .. فأين منظمات حقوق الانسان من مرضى السجناء في هذا العصر؟! .. والاكثر من هذا وضع نقباء للاطباء يشرفون بأنفسهم على الامور الطبية (شيوخ الاطباء).
أما النهضة التعليمية العامة فقد بدأت بشكل رسمي في عهد المأمون وبلغت مبلغاً عظيماً, لما عرف عن الخليفة من حبه للعلم والعلماء, فانشئت المدارس الخاصة واخضعت لاشراف الدولة, وتم صرف الرواتب على المدرسين القائمين عليها .. وازداد توهجها -بعد مد وجز- في عهد الوزير السلجوقي نظام الملك الذي اهتم بها كثيراً لذلك سميت بأسمه (المدارس النظامية) .. وكان يهتم بأغلب العلوم المتعارف عليها في عصره من علوم دينية اضافة لعلوم المنطق والجغرافيا والحساب, حتى تم تأسيس معاهد عليا للشريعة والقانون والعلوم الطبيعية والصناعات, فكانت فخمة في عماراتها عامرة بمكتباتها وغنية بمختبراتها ومعاملها    
المهم نبقى في زمن الازدهار والعصر الذهبي فهنالك الكثير من الامور المهمة التي يجب ان نذكرها.

3 – حركة الترجمة ودورها في تطور الحضارة العباسية:

أولها الترجمة فمن وجهة نظري هي اهم عوامل الرقي الحضاري والازدهار الاقتصادي والنهضة العمرانية والثورة العلمية والرفعة الفنية. لذلك بيّن ديمتري جوتاس في كتابه (الفكر اليوناني والثقافة العربية) ان حركة الترجمة التي بدأت مع اعتلاء العباسيين عرش الخلافة لم تكن مرتبطة باهتمامات شخصية, وانما كانت سياسة للدولة واحتضنها المجتمع العباسي بمختلف مستوياته, وانفقت عليها الدولة أموالاً طائلة, ولهذا يرى المؤلف (ديمتري) ان عصر الترجمة في العصر العباسي يقف على قدم المساواة في الاهمية مع عصر اثينا ايام بركليس , ومع عصر النهضة الايطالية والثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين
بدأت بواكير الترجمة في العصر الاموي بمحاولات فردية غير مدروسة , وغير مخطط لها , اذ شرع خالد بن يزيد بن معاوية (13هـ -85هـ/635م-704م) باستدعاء مترجمين من الاسكندرية لترجمة كتب الاغريق في الطب والكيمياء والفلك ويقول ابن خلكان انه كان عالم في الطب والكيمياء وتعلمهما من راهب يوناني يدعى (مرياتوس) واسطفان الاسكندراني , ويؤكد ابن النديم في (الفهرست) ان هذه الترجمات هي الاولى من اية لغة منذ ظهور الاسلام وكما سنذكر لاحقاً ان العالم الشهير جابر بن حيان قد استفاد من هذه الترجمات ثم امر الخليفة عمر بن عبد العزيز حكم مابين (99هـ – 101هـ /717 – 2م) بترجمة كتاب طبي من السريانية لضرورات علمية بحته , وهذه الترجمات ليس لها أي علاقة بالفلسفة اليوانية ولا بالمنطق  الهندي ولا بعلوم العربية من لغة ونحو !!
ولكنّ الخلفاء العباسيين الاوائل اول من انتبه الى اهمية الترجمة وتمازج الحضارات وتلاقح العقول المتبانية في تطور الدول ورقيها والارتقاء بها الى الافق الانساني بشموليته, فخططوا لها بشكل مبرمج وبذلوا امولاً طائلة في سبيل تفعيلها والاستفادة من عقول لغاتها الاصلية وابداع العقول الواصلة اليها … في جميع المجالات العلمية كالطب والصيدلة والكيمياء والفلك اضافة الى الحكمة والمنطق … فمثلاً كان ابو جعفر المنصور شغوفاً في الترجمة من اللغات الاجنبية ككتاب كليلة ودمنة وكتب ارسطاطا ليس المنطقية, ولما مرض سنة 148هـ/765م وفسدت معدته وقلت شهيته, فاستدعى اطباء من جنديسابور وعلى رأسهم (جورجيس بن يختيشوع النسطوري) فشفي الخليفة على يده, فأكرمه اجل تكريم وطلب منه ان يترجم كتب الطب من اللغة الفارسية, فاستجاب لامر الخليفة, ويمرض هذا الطبيب (سنة 152هـ – 769م), ولا يجد من يطببه, فرجع مكرماً الى مدينته ليموت فيها, ولكن اسرته استلمت زمام الامور وتوارثت وظيفته في الترجمة والتأليف والتدريس…
اما الخليفة هارون الرشيد عندما استلم عرش الخلافة عام 170هـ/786م كانت له عناية فائقة في جمع الكتب , ولما توسعت خزاناتها أمر بتأسيس مكان خاص لها واطلق عليه المؤرخون (بيت الحكمة), وكلف به يوحنا بن ماسويه الطبيب المسيحي الدمشقي المتوفي 243هـ/857م , فأصبح المتولي عليه وترجم الكثير منى كتب الاطباء والحكماء مثل (ابقراط), و(جالينوس) وغيرهما, وخلف يوحنا تلميذه حنين بن اسحاق العبادي (وهو نسطوري من الحيرة) ولقب الاخير بشيخ المترجمين على امتداد العصر العباسي , فكان يجيد اللغات الفارسية والسريانية واليونانية اصافة للعربية, ولقى الدعم المادي والمعنوي من الخليفة المأمون الذي يعتبر عصره العصر الذهبي للترجمة, وخصوصاً عند تأسيس (دار الحكمة) وبالغ في الانفاق عليها, بل لم يتوان عن الاتصال بأباطرة الروم , رغم العداء المستفحل بينهما ليتزود بالنصوص اليونانية من شتى المعارف واكثرها كتب الحكمة والفلسفة, ومما يذكر في هذا الشأن كما يقول الاستاذ ابراهيم مدكور, ان حنيناً انطلق بأمر من الخيفة المأمون الى القسطنطينية باحثاً عن الكتب والمراجع بوجه خاص عن مؤلفات جالينوس , وهنالك مترجمون اخرون برزوا في العصر العباسي امثال يوحنا بن البطريق وثابت بن قرّة وقسطا بن لوقا البعلبكي , وغيرهم.
والترجمة في مفهومها الاصح والاعمق هي اعادة ابداع النص على الخصوص اذا كان الاصل ينتمي الى حضارة يختلف بيانها جذرياً عن البيان العربي, لذلك تعتبر الترجمة هنا من المرتبة الثانية.
والجاحظ انتبه الى هذا الامر في كتابه (الحيوان) (159هـ – 255هـ/775-868م) حيث وضع الشروط الضرورية للوصول الى ترجمة مقاربة للنص, وقدم في الوقت نفسه مجموعة ملاحظات حول المظاهر الى تتعلق باللغة كامتلاك زمام اللغة أو لغات العمل والتداخلات اللغوية بالتماثل او عدمه من لغة البداية الى لغة الوصول
عقبى حركة الترجمة تطورت العلوم بمختلف اتجاهاتها  , اذ ابدع العلماء العرب, والمسلمون بالارتكاز على النصوص المنقولة من لغات اخرى ليسموا الى آفاق جديدة في الاكتشافات وبعض الاختراعات وان جحد الجاحدون وانكروا عليهم ذلك .. بحجة انهم ناقلون للحضارات وليس بمبدعين لها … واستمروا بجهودهم الجبارة وفكرهم الثاقب حتى بعد الانكسار السياسي الحاد واندحاره في عهد المتوكل وما بعده …
وخصوصاً في القرنين الرابع والخامس الهجري, فلم تعد بغداد وحدها تتولى رعايتهم, بل شاركتها وزادت عليها مراكز اسلامية وعربية اخرى, كحلب الحمدانيين, وقاهرة الفاطميين وقرطبة الاندلسيين اضافة الى الاسكندرية وانطاكية ودمشق, اما بغداد فقد انطفأ فيها كل شيء بعد هجوم المغول عليها (656هـ-1258م), وقد تتعجب ولا يعجبك ان قائدهم هولاكو قد اجبر احد أساطين العلماء المسلمين من خراسان ليكون وزيره, الا وهو نصير الدين الطوسي الشهير , وهذا يعني أنّ الانكسار السياسي أو العسكري حاد لا مجال للمرونة والصبر على تغييره أساسياً من قبل البديل , اما المجال الثقافي والعلمي فهو تراكمي ومخزون في العقول من عدة اجيال لا يمكن اندثاره ومحوه الا لعدة اجيال متعاقبة (لذلك يقال الظلم لا يدوم واذا دام دمر), الا اذا كان الهجوم قاسياً جداً ومدمراً كلياً بحيث لا يبقى ولا يذر لاختلاف الحضارات والمفاهيم جذرياً كما هو الحال في هجوم التتر والمغول على بغداد فتلك الطامة الكبرى , اذ لم تبق الا العقائد الدينية راسخة في القلوب والعقول , فمن المحال محوها بسهولة الا اذا صاحبهما (اعني الغزو السياسي والعسكري) غزو ثقافي فكري مخطط له باتقان وتتقبله تلك العقول والقلوب المغلوبة على امرها, والعكس صحيح, ان الانتصارات السياسية والعسكرية ولو تحمل بين ثناياها بوادر الرقي والنهضة, فأن ذلك يحتاج الى مدى زمني طويل لتوسيعه وتطويره , والدنيا دول , وأمرها عجب , ولله الغلب !