صَبَاحٌ جَمِيْلٌ عَلَى مَكَّةَ
وُلِدَ الهُدى فالكَائِنَاتُ ضِياءُ :
إن الحديث عن البدايات حديث ذو شجن وسحر خاص ؛ لأن المتحدث عنه هو سيد الخلق أجمعين ، ولقد ولد النبي (صلى الله عليه وسلم ) في فجر الاثنين لاثنتي عشر ليلة مضت من ربيع الأول الموافق العشرين من شهر أغسطس سنة 570 ميلادية ، ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قباذين فيروز ، وذلك في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران أم الهادي والرشيد فجعلته مسجداً يُصلى فيه وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب .
وتذكر الكتب التاريخية أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) نزل على يد الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته ، رافعاً بصره إلى السماء ، وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل وألم .
ولأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يرعى عباده المصطفين الأخيار ، وينظر إليهم نظرة عطف ومودة ورحمة نقف عند واقعة جليلة نعتز بها نحن المسلمين في شتى بقاع الأرض ، ونحرص أن نسردها لصغارنا وكبارنا على السواء، وهي واقعة مرضعة النبي (صلى الله عليه وسلم ) حليمة بنت أبي زؤيب السعدية وتكنى أم كبشة.
وتحدث حليمة السعدية أنها خرجت من بلدها مع زوجها الحارث بن عبد العزى، وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء، ومعظم كتب السيرة النبوية تقص القصة دونما استثناء نقلاً عن سيرة ابن هشام ، تقول القصة على لسان حليمة : ” فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة ( أي لا ترشح ) ، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا ؛ من بكائه من الجوع ، ما في ثديي ما يغنيه ، وما في شارفنا ما يغذيه ، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج ، فخرجت على أتاني تلك ، فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً ، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا رآه إلا وعرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) فتأباه، إذا قيل لها : إنه يتيم، وذلك أنا إنما كانت النساء المرضعات ترجون المعروف من أبي الصبي، فكانت النسوة تقول : يتيم !! وما عسى أن تصنع أمه وجدُّه، فكنا نكره ذلك” .
وهكذا كان حال الطفل الرضيع محمد ، وما أشق هذه الحال، تأبى المرضعات أن تأخذه ، كونه يتيماً ، واليتم كما نعلم ونعي ونفطن ضعف ومذلة وقصور حيلة ، ولكن يؤكد علماء نفس الطفل المعاصرين أن تعرض الطفل لمثل هذه الأحوال من شأنها أن تجعله أكثر صلابة وتحملاً لما يتعرض له من محن في المستقبل. وما أشبه الليلة بالبارحة في المقدمات والنتائج، إن حال تقلب النبي(صلى الله عليه وسلم ) (صلى الله عليه وسلم ) بين العرض والرفض أشبه بحاله حينما عرض نفسه على القبائل بالطائف.
ونجد الله دائماً مع حبيبه ورسوله (صلى الله عليه وسلم ) ، والناظر لأول وهلة لموقف حليمة السعدية ربما يغضب منها على تفسيرها لرفض المرضعات للنبي (صلى الله عليه وسلم ) ، لكن هي نفسها تقدم المبرر المنطقي ، أنها وغيرها يمتهن الرضاعة ، سعياً وراء المال ، وبعض العطايا من والد الرضيع ، ولنرجع ثانيةً لقصتها مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) وكيف تصور السيدة في لغة أكثر بلاغة أخذها للرسول (صلى الله عليه وسلم ) ، تقول : ” فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي ـ وربما تقصد بذلك زوجها الحارث ـ : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه ، قال : لا عليك أن تفعلي ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ، قالت : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ، فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ، فشرب حتى رُوِي ، وأرويت أخاه ، وقام أبوه إلى شارفنا ـ والشارف هي الناقة المسنة ـ تلك يلمسها ، فإذا هي حافل ـ أي كثيرة اللبن ـ فحلبها ، فأرواني وروى ، فقال : يا حليمة والله أصبنا نسمة مباركة ، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن ، قالت : فبتنا بخير ليلة ، شباعاً ، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا ” .
الحدث نفسه ، كما روته حليمة وزوجها الحارث يحمل بسطوره أكثر من سؤال وملمح ، لعل أهمها ذكر لفظ الجلالة على لسان كل منهما ، وربما أكثر المتناولين للسيرة النبوية يعرضون الحادثة كما هي ، أو كما جاءت في نص ابن هشام ، فكلنا يعلم أن العرب قبل البعثة المحمدية كانوا علم علم وتعقل بوجود الله ( تبارك وتعالى ) والدليل على ذلك ذكر حليمة وزوجها لفظة ، بخلاف اسم زوجها الذي يحمل لفظة ” عبد العزى ” ، وربما لفظ الجلالة قسم ثابت الملامح عند العرب قديماً .
ولكن الناظر للواقعة يدرك كم هو أسعد حالاً هو وأولاده وذويه ، ولعله يدرك النعمة التي منَّ الله عليه بها ، وهي نعمة الأمومة والرضاعة من صدر أمه ، فهذا هو حبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) تقول عنه مرضعته : ” والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً ” ، وكيف بحال أبنائك وأنت تطمئن عليهم كل مساء ، وترى ابتسامة أمهم وهي تحتضن صغارها ، وكيف تنظر لحال صغارك وأنت تقرأ قول حليمة : ” فما منا امرأة إلا وقد عرض رسول الله فتأباه ” .
وكلمة تأبى تعني الرفض المطلق الشديد ، ألا يجعلنا هذا أن نزداد عشقاً برسولنا الحبيب (صلى الله عليه وسلم ) .
ثم ما يجعلنا أكثر سعادة بنبينا هو بركته على السيدة حليمة وزوجها ، تلك البركة التي ظهرت في إدرار ثديها ، وغزارة حليبها ، وقد كان لا يكفي ولدها ، لقد اختار الله ( تبارك وتعالى ) هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض لأنها لم تجد سواه ، فكان الخير كله فيما اختاره الله ، وهذا درس لنا ـ جميعاً ـ أن تطمئن قلوبنا بقضاء الله وقدره .
شق الصدر :
تعد حادثة شق الصدر للرسول (صلى الله عليه وسلم ) أثناء وجوده بمضارب بني سعد من إرهاصات النبوة الأولى، ونذير خير لما سيحدث لهذا الصبي الصغير من اصطفاء واختيار له. وعود على بدء لحليمة السعدية التي تخبرنا عن القصة كاملة.
فتقول : “عندما رجعنا بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه إذا أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فهما يسوطانه، فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعا وجهه، فالتزمته والتزمه زوجي ، فقلنا له : مالك يا بني ؟ ، قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئاً لا أدري ما هو ، فقالت حليمة : فرجعنا به إلى خبائنا، وقال أبوه الحارث : يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به”.
والناظر لسياق الحدث السابق يتبين أن حليمة وزوجها قد أحبا الصغير حباً جماً ، ويظهر ذلك بوضوح في قولها ” أبوه ” مرتين، وهذا خير دليل على تعلقهما بهذا الصغير. والرسول (صلى الله عليه وسلم ) يخبرنا عن حادثة شق الصدر وما تحملها من دلائل ذات معنى ، حينما سأله نفر من أصحابه فقالوا له: يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك ، قال : ” نعم ، أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجاً فأخذاني فشقا بطني ، واستخرجا فلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه” .
افتراءُ المستشرقين :
وكعادة المستشرقين من أعداد الإسلام وخصومه ، يتناولون هذه الحادثة بمنظور أكثر غرابة، فالمستشرق فنيكولسون في كتابه ( تاريخ أدب العرب ) ، ومير في كتابه ( حياة محمد ) وغيرهما يرون أن هذه نوبة صرعية ، وهذا بالطبع مردود عليه ، فلم تشاهد علامات الصرع على حبيبنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) طول عمره، وإذا كان الصرع ـ كحالة مرضية ـ يصيب صاحبه بحالات عصبية موتورة وقلق وتوتر دائم ، فكيف هذا والنبي (صلى الله عليه وسلم ) هو النبي ، والزوج ، والقائد ، والمصلح ، والأب ، والمربي ، والمرشد ، والنذير ، وكل هذه الأدوار قام بها النبي (صلى الله عليه وسلم ) في وعي وجلد شديدين.
إن المستشرقين ، يبذلون جهداً بشرياً مقصوراً غير عادي للنيل من النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، وأظن أني قد وفقت اللفظ في ” بشرياً ” لأن قدرة الله وقوته أبقى وأعز وأجل. كل هذا ولابد أن نعي حال هذا الصبي ، الذي يتعرض لمثل هذه المواقف العصيبة ، وغيرها مما ورد في كتب السيرة النبوية ، مثل وفاة أمه صغيراً ، كل هذا أيضاً من شأنه أن يقوي ساعد الصبي على ما ستخبره الأيام اللاحقة من عوارض، وهو ما أشار إليه جده عبد المطلب بقوله : دعوا ابني فوالله إن له شأنا” .
والحكمة من هذا الشق هو الزيادة في إكرامه وإمداده (صلى الله عليه وسلم ) وتقويته وإعداده، ليتلقى ما سيوحى إليه بقلب قوي سليم متين في أكمل الأحوال. وشق الصدر لأنه حادث جلل غيبي يلزمنا التصديق به أولاً ، والوقوف عنده طويلاً بالدرس والتحليل لاستنباط الفوائد والحكم منه، فشق الصدر من جنس ما ابتلى الله به الذبيح وصبر عليه ، بل هذا أشق وأجل ، لأن تلك معاريض وهذه حقيقة، وما أحوجنا هذه الأيام أن تحدث لنا حادثة ولو معنوية لشق صدونا المعتمة ، إن حظ الشيطان منا عظيم في الآونة الأخيرة، في ظل الفتن والمغريات التي تنخر بنا ليل نهار، ولا راد لها سوى عصمة من الله.
وتتجلى الحكمة أيضاً من شق الصدر في القدرة على أن يمتلأ قلب الصبي الصغير إيمانا وحكمة وزيادة في قوة اليقين ، لأنه أعطي برؤيته شق صدره وعدم تأثره بذلك ما آمن معه من جميع المخاوف العادية، ولذلك كان رسولنا(صلى الله عليه وسلم ) أشجع الناس حالاً ومقاماً ،ولذلك وصف النبي (صلى الله عليه وسلم ) بقوله تعالى : ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) ( ( سورة النجم /17) .
قصة بحيرى الراهب :
بعد وفاة عبد المطلب ، جد الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أصبح في كفالة عمه أبي طالب ، ولما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582 ميلادية ، ولما نزل الركب ” بُصْرَى ” من أرض الشام ، وبها راهب يقال له ” بحيرى ” في صومعته ، وكما يقول ابن هشام في النص السابق ( سيرته ) : ” وكان إليه علم أهل النصرانية ” ، وقد نزل القوم به أكثر من مرة ، فلا يكلمهم ، ولا يعرض لعم ، حتى كان ذلك العام ؛ فلما نزلوا بالقرب من صومعته صنع لهم طعاماً ، ويذكر ابن هشام في نصه أنه رأى غمامة حين أظلت الشجرة التي كان القوم تحتها ، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته ، ثم أرسل إليهم بأن يحضروا كلهم صغيرهم وكبيرهم وعبيدهم وحرهم.
ولاشك أن هذا الصنيع قد أثار شك رجل من القوم فتعجب وقال : ” والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيراً ، فما شأنك اليوم؟ ” . هكذا تعجب منه الرجل الذي لم يرد ذكر اسمه في نصي ابن إسحاق وابن هشام بالرغم من أهمية الحدث التاريخي في السيرة النبوية ، وقد تخلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرى في القوم ولم ير الصفة أو العلامة الخاصة بالنبوة ، قال : ” يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي ، فقالوا له : يا بحيرى ، ما تخلف عنك أحداً ينبغي أن يأتيك إلا غلاماً هو أحدث القوم سناً . فقال : لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم ” .
فقال رجل من القوم من قريش : ” واللات والعزى إن هذا للؤم بنا ، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا ” ، ثم قام فاحتضنه ، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم .
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أجزاء من جسده ، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرى فقال له : ” يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه ” ، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن بحيرى استخدم قسم اللات والعزى لأن قومه ـ يقصد محمداً (صلى الله عليه وسلم ) يستعملونه ، فقال له محمد (صلى الله عليه وسلم ) : ” لا تسلني باللات والعزى شيئاً فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما ، فقال له بحيرى : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك به ، قال : سلني عما بدا لك ” .
وقد سأله بحيرى الراهب عن أشياء تتعلق بنومه وهيئته ، وأموره ، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده .ثم أقبل بحيرى الراهب على عمه أبي طالب فقال له : ” من هذا الغلام منك ؟ ، قال : ابني ، قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً ، قال : فإنه ابن أخي ، قال : فما فعل أبوه ؟ قال : مات وأمه حبلى به ، قال : صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلاده ” .
تحليل الواقعة :
هكذا تنتهي القصة / الواقعة في نص ابن إسحاق ونص ابن هشام في سيرتهما عن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ولنا في القصة تأملات وملاحظات .
أولاً ، من الملفت للناظر في سياق الواقعة التي نحن بصدد محاولة فهمها ، لا تظهر شخصية أبي طالب في الواقعة الأكثر جدلاً في السيرة النبوية وهي التقاء الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ببحيرى الراهب ، وكيف وهو سيد قريش كما تحكي السيرة ، ثانياً وأن التجارة التي سافر القوم لها بالشام هو زعيمها وصاحبها ، لذا فيمكننا أن نقر بأن أبا طالب قد علم وعرف في ابن أخيه قوة الجأش والقدرة على لقاء الغرباء دونما خشية أو هيبة للموقف هذا الذي دعا محمد (صلى الله عليه وسلم ) أن يذهب منفرداً للقاء بحيرى دونما شريك أو سند .
ثانياً ، يستقرئ الناظر للنص السابق أن العلاقة ـ وإن كنا نصمت عن وصفها كراهة ـ بين النصارى واليهود تبدو متوترة وقلقة بعض الشئ منذ القدم ، لذا فقد حذر بحيرى الراهب أبا طالب صغيره من اليهود ، هذا ويضيف الدكتور محمد علي الصلابي في كتابه ” السيرة النبوية ” أن بحيرى قد حذر عم النبي (صلى الله عليه وسلم ) من النصارى أنفسهم ، وبين له أنهم إذا علموا بالنبي (صلى الله عليه وسلم ) سيفتكون به ، بل وإنه ناشد عمه وأشياخ مكة ألا يذهبوا بالصبي إلى الروم ، حيث إن الرومان كانوا على علم بأن مجئ الرسول (صلى الله عليه وسلم ) سيقضي على نفوذهم الاستعماري في المنطقة .
وبالرغم من أن النص السابق لابن إسحاق لم يرد فيه هذا الأمر ، لكنه تاريخياً وثقافياً فإن الرومان الذين يدينون بالنصرانية كانوا ولا شك في احتقان وكراهية لظهور الإسلام على وجه الأرض .
ثالثاً ، تزداد مع الأيام ثقة أهل النبي (صلى الله عليه وسلم ) بدءاً بجده عبد المطلب ، ومروراً بعمه أبي طالب بأن هذا الصبي سيكون له شأو كبير في المستقبل ، ولعل حرص بحيرى الراهب في تذكير أبي طالب بضرورة العودة هو وابن أخيه إلى قبيلتهما قبل أن يعلم أحد بوجود هذا الصبي .
***********************************
محمد (صلى الله عليه وسلم ) يشارك قومه :
إن الفتى محمداً صار شاباً يافعاً نافعاً بإذن الله ، يشارك قومه في شئونهم من قبيل هذا مشاركته (صلى الله عليه وسلم ) قومه في حلف الفضول ؛ ذلك الحلف الذي هدم به العرب صرح الظلم ، ورفعوا به منارة الحق ، وهذا الحلف هو بحق من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) في هذا الحلف : ” لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت به في الإسلام لأجبت ” .
وأيضاً اشتراكه في بناء الكعبة الشريفة حينما بلغ خمساً وعشرين سنة ، وقد شارك في بنائها مع عمه العباس ، وكانا ينقلان الحجارة . والقصة واضحة للجميع عند بناء الكعبة أو محاولة تجديدها ، وحيرة قريش في وضع الحجر الأسود ، حتى اتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم من باب المسجد ، وكلمة مسجد تجدها واضحة في نص ابن إسحاق بالرغم من أنها من مفردات الإسلام ، وربما أن الكلمة من المواضعات التي ارتبطت بكل مكان للعبادة . ولما رضوا بذلك كان محمد (صلى الله عليه وسلم ) أول من دخل ، فلما رأوه قالوا : ” هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا ” ، وكلنا يعلم كيف توصل النبي (صلى الله عليه وسلم ) إلى حل واضح بفراسته وبصيرته وفطرته النقية بأنه وضع رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) الركن فيه بيديه ، ثم قال : ” لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوا جميعاً ، فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) بيده ثم بنى عليه .
ـ أستاذ المناهج وطرق التدريس.
ـ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر
[email protected]