ليست كباقي السنين
كانت سنة قميئة تمكَّنت من اعتقالنا تحت طبقات من العتمة، وكان وقعها بالغ القسوة علينا نحن الاثنين، مع اننا كنا نصارعها ولم نتدثر باغطية الاستسلام لمنعطفاتها الحادة، وافلحنا في ان نكسر ما كانت تخبئه لنا من اقدار ممسوسة لتدميرنا، وبقينا محتفظين بتوازننا، ولكنها لم تغادرنا إلا بعد ان زجتنا في زمن كان يتمدد من حولنا مثل سيل جارف وكاد يقتلع منا صبرنا.
لم تكن سنة عادية مثل بقية السنين التي عشناها ولربما حتى التي سنعيشها، لانها خلفت وراءها عبئا ثقيلا، وبسببها اكتظت الذاكرة بخارطة متشابكة من الوجل، وستبقى تشاطرنا ايامنا واحلامنا لفترة طويلة، حتى ان العلاقة معها باتت ملتصقة بنا مثل اسمائنا، وإذا ما حاولنا أن نغافلها في لحظة فرح، ونحن في ذروة احساسنا بنشوة عابرة فلن نستطيع ان نتجاهل سطوتها، فقد اصبحت مهيمنة علينا ما جعلها تملك القوة لتدفعنا الى دُهمَة ظلالها ونحن مستسلمين لها، وما كان امامنا من خيار حتى نشيح بوجهنا عنها، وحتى لو حاولنا ذلك ونجحنا ، فإن شبحها سيبقى شاخصا بما تركته من اثرعلى جسدها حتى بدت كما لو انها شبح امرأة، وكان علينا ان نستأذنها ونحن على حذر منها إذا ما شعرنا بلحظة حبور تومض لنا، او إذا ما تقدمنا بخطوة للخروج بعيدا عن قيود مناخاتها المكفهرة، فنحن ورغم ما ابديناه من اصرار على ان نحتفظ بنوافذنا مشرعة للامل إلا انه لم يعد ممكنا ان نغفل ما تركته فينا تلك السنة من حرقة موجعة تماهت مع كل تفصيلة في حياتنا .
اخر جرعة كيميائية
في تلك الايام كنتُ ارتحل حيثما يأخذني ضعفي، فأتخبط في تفكيري بسبب ماكان يدور في رأسي من افكار كامدة، ودائما ما وجدت نفسي اسيرَ احساس لم يفارقني يقول لي بان انتكاسة صحية لربما ستقف عند خطوتها القادمة، ومثل هذا السهد كان يتراكم عندي بشكل مضاعف. .اما من ناحيتها فعلى الرغم من انها كانت تعيش تحت سطوة المرض والعلاج الكيمائي، الا انها كانت تتمتع بقدر كبير من البأس، لطالما حسدتها عليه، وتمكَّنت بما لديها من ايمان ان تندفع الى اقصى ما يمكن ان تفعله ارادتها لتوقف سهام اليأس من اصابة عزيمتها ، فكان ردها على ما ابتُليَت به ، انها تعاملت مع المرض باعتباره امتحانا، ولابد لها ان تحافظ على ذاكرتها حتى لاتفقد قدرتها على التركيز، وليصبح بالتالي كل شيء في حياتها خاضعا للرصد والمتابعة ، فنظمت وقتها خلال اليوم الواحد مثل اي عسكري يقود معركة وتفرض عليه الحالة ان يكون يقظا، فبدا نظامها الغذائي محسوبا بدقة، ولم تتوقف عن ممارسة الرياضة في البيت، وهذا ما ساعد في ان صحتها لم تشهد انتكاسة، الى ان انتهت من تلقي اخر جرعة، وفي ذلك اليوم ابلغها دكتور لقمان بان تحضر بعد اسبوع الى المستشفى لكي تجري فحصا لدمها لمعرفة الى اين وصلت حالتها الصحية بعد ان انتهت من رحلة العلاج الكيميائي. .ولمَّا خرجنا من المستشفى كانت تبدو غارقة في حالة من الفرح الداخلي، لم اكن بغافل عن الاحساس بها وملاحظتها في ذلك البريق الذي كانت تبحر به عيناها ، حتى انني شعرت بها كما لو انها قد استعادت حيويها التي فقدتها خلال الاشهر الماضية ، مع انها بنفس الوقت لم تكن قد استوعبت بعد فكرة انها اصبحت قريبة جدا من لحظة عبورها الى ضفة الامان، وهذا ما اتضح لي عندما سالتني “هل فعلا لم اعد بحاجة الى ان اتلقى اي جرعة ؟ ” .
العلاج بالليزر
بعد اسبوع ظهرت نتائج فحص الدم وكلها كانت تشير الى ان وضعها مطمئن، وليس هناك ما يبعث على القلق، فابلغها دكتور لقمان بانها ستأخذ فترة راحة لمدة شهر ومن بعدها ستبدأ مرحلة العلاج بالليزر، وما ان سمعت كلامه حتى ارتسمت على وجهها علامات الشعور بخيبة الامل، لانها كانت تعتقد بانها قد انتهت نهائيا من العلاج، بينما عكست الملامح الهادئة للدكتور لقمان بعد ان استوعب ردة فعلها بانه كان يتوقع ان تبدو مغتمة، ولاجل ان يخرجها من تلك الحالة التي سقطت فيها أردف قائلا ” هل تدركين اهمية ما انجزناه عندما تمكنّا خلال المرحلة الماضية من السيطرة على المرض وايقاف تمدده والقضاء عليه، ولكن عليك ان تعلمي ايضا بأنه بغاية الخبث، ويحتاج الى حذر دائم، والتزام دقيق بمواصلة مراحل العلاج، وبذلك سوف نمنع عنه اي فرصة لكي يعاود مرة ثانية، فأنتِ امامك الآن احدى وعشرون جلسة علاج بالليز، حيث ستخضعين لجلسة واحدة في كل اسبوع “.
في مثل حالتها يتحول الماضي في بعض الاحيان الى اشباح تحوم حول الانسان، وتفسد عليه مايشعر به من رضا وانسجام مع نفسه ومع مايحيطه، وكم يحتاج الى قوة تشبه فعل الرصاصة حتى يطلقها عليه وينتهي منه. فبعد ان انهت الجرعات، واستعادت صحتها مثلما استعادت شعر راسها الذي نبت مرة اخرى وباتت تقف يوميا امام المرآة لتسريحه، كانت تظن بانها لم تعد تحتاج الى المزيد من شحنات الامل حتى تدشن ايامها القادمة، لكن كلام الدكتور اعادها مرة اخرى الى الركون في دائرة الحذر تحت ضغط ما ستفتحه اشعة الليز من نوافذ مفتوحة على الترقب بعد ان تخترق جسدها في نفس موضع العملية الجراحية من خلال ثلاثة فتحات .كان طيفا من التوجس يغلف وجهها ، كما لو انها بدأت تشعر بان الوقت لم يحن بعد للاحتفال بالانتصار .
“وبعد ان انتهي من الليزر هل هناك ماينتظرني ايضا ؟ ” ، كان باديا عليها اثناء ما طرحت سؤالها انها لم تعد تشعر بالاطمئنان ، ولهذا كانت كمن يدور حول نفسه باحثا عن امل حتى لو كان ضعيفا .
” اذا ما انتهينا من الليزر،عندها سأكتب لكِ حبوب تاماكسوفين، حيث يتوجب عليك ان تتناولي حبة واحدة كل يوم ، ولمدة خمسة اعوام ” .
لم يكن امامها اي فرصة لتأويل اجابة الدكتور بعيدا عما كانت تحمله من وضوح ودقة .
لاحظتُ بانها كانت تتهيأ لان تطرح سؤالا آخر قبل ان يتابع دكتور لقمان كلامه قائلا ” المشكلة التي امامنا الان، هي ان جهاز الليزر الوحيد في مستشفى رزكاري عاطل عن العمل ، ودائما ما يتعرض الى عطلات بين فترة واخرى، وهذا ما يتسبب في تكدس اعداد من المرضى على قائمة المنتظرين في جدول مواعيد العلاج، وخلال ايام سيصل خبراء المان لاصلاح الجهاز، ولهذا يتوجب عليكِ ان تسجلي اسمك يوم غد في سجل المرضى الذين ينتظرون دورهم. ايضا عليكما ايجاد بديل في مكان آخر، فهناك جهاز موجود في محافظة السليمانية واخر في بغداد، لكن لابد ان تعلما بان قائمة المرضى الذين ينتظرون دورهم طويلة جدا، ولهذا لابد من ان تسجلي اسمك باسرع وقت حتى لاتتاخري عن موعد العلاج، لان التاخير فيه ضرر كبير على صحتك “.
البحث عن جهاز الليزر
كانت الايام تمضي بسرعة، ولم يكن ذلك لصالحنا بعد ان راجعنا مستشفى رزكاري مرتين وتأكدنا من ان جهاز الليزر مايزال عاطلا. ودائما ما كنا نتذكر تعليمات دكتور لقمان بضرورة ان تبدأ مرحلة العلاج في موعدها، وامام هذه المشكلة اتصلت باصدقاء يقيمون في السليمانية، واكدوا لي بانهم اذا سجلوا اسمها فإن موعدها سيكون بعد ثلاثة اشهر، وبذلك شطبنا على خيار السليمانية، ونفس الاجابة ايضا جاءتنا من بغداد ..وهذا مافرض علي ان اجري اتصالات عديدة مع صديقي الفلسطيني المقيم في الاردن المخرج المسرحي عصام سميح لاجل ان يحجز لنا موعدا في مستشفى الحسين لعلاج الامراض السرطانية في العاصمة الاردنية عمان، وبدأ فعلا في الاتصال بالمستشفى وحاول معرفة كافة التفاصيل المتعلقة بالحجز والتكاليف. وقبل ان ينتهي شهر الاستراحة باسبوع وصَلنا خبر تصليح الجهاز في مستشفى رزكاري في اربيل ، وعلى اثر سماعنا للخبر شعرنا براحة كبيرة لانه رفع عنا عبء السفر الى اماكن بعيدة ، خاصة وأن صحتها لا تسمح بذلك، هذا اضافة الى انه وفر علينا مبالغ كبيرة كان من الوارد ان تثقل كاهلنا، وماهي إلاَّ ايام معدودة حتى بدأت تتلقى العلاج بالليزر لمدة واحد وعشرين اسبوعا وبمعدل جلسة واحدة في الاسبوع.
معلمة من الفلوجة
كان موعد وصولنا الى المستشفى يبدأ عند الساعة الثانية بعد الظهر وهو وقت مبكر جدا ، لكننا كنا نضطر الى ذلك لاجل ان تحظى بتسجيل اسمها في اول القائمة حتى يتاح لها بالتالي فرصة تلقي العلاج بوقت مبكر، لان عدد النساء اللواتي كن ينتظرن دورهن يتجاوز الثلاثين امرأة يوميا، وكل واحدة منهن عندما تدخل الى غرفة الليزر المحكمة الابواب كانت تستغرق وقتا يصل الى اكثر من نصف ساعة، وهذا ما كان يؤخرنا بالعودة الى البيت في كثير من الاحيان الى حدود الساعة الثامنة مساء. وامام ذلك الوقت الطويل الذي كنا نقضيه في صالة الانتظار والذي يصل الى حدود السبع ساعات كان من المنطقي ان تلجأ النساء الى تبادل الاحاديث في ما بينهن، ولم يكن غريبا ان نلتقي بنازحات من المدن التي تعرضت للاحتلال من قبل سلطة تنظيم الخلافة مثل الانبار والموصل وتكريت والحويجة. احداهن معلمة من مدينة الفلوجة، كانت ترافق شقيقتها الصغرى المصابة بسرطان القولون اضافة انها كانت مصابة بمتلازمة داون او البلاهة المنغولية وكانت في العاشرة من عمرها. . تلك المعلمة التي لم تبلغ الثلاثين من عمرها مازالت قصتها التي حكتها لزوجتي عالقة في ذاكرتي، اولا لانها كانت تتمتع بجمال لافت للنظر وشخصية قوية يكشف عنها اسلوبها الذي سردت به قصتها، وثانيا لانها رفضت كل عروض الزواج التي جاءتها، بعد ان قررت تكريس حياتها لرعاية شقيقتها، لانها لم تتحمل فكرة ان تتزوج وتتركها وحيدة مع والدتها الكبيرة في السن، خاصة وان صحتها قد تدهورت منذ ان فقدت ثلاثة من ابنائها عند نقطة سيطرة تابعة لاحدى الميليشيات المذهبية المدعومة من ايران، فبعد ان نجحت بالخروج سالمة مع بناتها واولادها من مدينة الفلوجة اثناء ماكان الجيش العراقي يحاصرها لتحريرها من سلطة تنظيم الخلافة، طلب عناصر النقطة بان تصعد النساء الى حافلة كانت تقف عند ناصية الشارع ليتم نقلهم الى المخيم المعد لاستقبال النازحين ،اما الشباب فقد تم اقتيادهم على شكل طابور طويل الى ارض خلاء ، بعيدا عن النقطة، بحجة التأكد من عدم وجود اسمائهم ضمن قائمة المشتبه بانتمائهم الى تنظيم الخلافة، واخبروا اهاليهم بان من كان موقفه سليما سيلتحق بعائلته في المخيم بعد ان ينتهي التحقيق معه الذي قد يستمر يومين او ثلاثة ايام . ومنذ ذلك اليوم لم ترَ المعلمة اشقاءها الثلاثة لانهم لم يرجعوا الى المخيم، واختفت اخبارهم مع مئات الرجال مثلهم، وعجز اهاليهم عن معرفة مصيرهم، ولهذا اتخذت المعلمة قرارها بشطب فكرة الزواج نهائيا، وانشغلت برعاية والدتها، وازدادت اصرارا على موقفها بعد ان نال السرطان من شقيقتها .
قوة الايمان
انا وهي كنا نتحسس انفسنا طيلة عام كامل ، لنتأكد من اننا مازلنا نحتفظ بوجودنا الادمي مثل بقية البشر الذين عادة ما كنا نلحظ السعادة في وجوههم من خلال نافذة السيارة وهم يمارسون حياتهم الاعتيادية، اثناء ذهابنا وايابنا الى المستشفى، خاصة وان رحلة العلاج كانت سلسلة متواصلة من الفزع، وكنا نترقب فيها ما ستسفر عنه من تداعيات، فكان امرا طبيعيا ان نستحيل الى اشلاء متناثرة طيلة فترة الانتظار ونحن نتقلَّب بافكارنا هنا وهناك، في محاولة منّا لاستبعاد الكوابيس التي باتت تلازم ظلمة ليالينا، وجُلَّ ما كنا نحرص عليه ان نحتفظ بما تبقى لدينا من ايمان يربطنا مع العالم ، وينأى بنا بعيدا عن السقوط في هوة افكار قد تأخذنا الى ناحية الحسد والغيرة من الاخرين لانهم يعيشون حياتهم الطبيعية بصحة وسعادة .
يتبع ..