دراسات هذا الكتاب تقارب موضوعاً يتصل بالكتابة الشعرية وما اقترحته دروس التناص والتأثر؛هوالمثاقفة الشعرية، مما يعد ضرورياً لتكوين الشاعرالذي لايمكن أن يكتفي بموهبته وقدراته،ولثقافة القصيدة التي يشحب دمها وتفتقر إلى الحيوية حين تنقطع عن المصادر التي ترفد الموهبة وتعمقها بجانب الخبرة والتجربة الإنسانية.
وإذا كان للترجمة والدراسات المقارنة إسهامها الواضح في المثاقفة مع الآخر بطريق تقديمه كما في متونه وعبرها فيكون باثّأً والمتلقي العربي مستقبلاً، فإن درس المثاقفة، والمثاقفة الشعرية خاصة ، يهب القراءة فرصتن: أولاهما :أنه يتفحص وجود الآخر والصلة به عبر متون عربية يكون التناص والتأثر والهضم أهم مبرراتها وأركانها أيضاً.وثانيهما:أنه يتيح فنياً تلمس الكيفيات النصية التي تمت بها
عملية المثاقفة سواء أكانت بطريق التأثر الفردي أي شاعر بآخر ، أوتأثر شاعر بظاهرة شعرية، وتدرس أيضاً الكيفيات الممكنة للصياغات النصية، وفي مقدمتها الجانب اللغوي والتركيبي ثم عناصر الخيال والتمثلات الذاتية، والأشكال والأساليب التعبيرية.كما أن الجانب الموضوعي أو المضموني سيكون مادة لدراسات المثاقفة رغم تحفظ الحداثة منهجياً وتعبيياً على كتلة الموضوع وإدراج النصوص تحته كفريق لا تميز بين كتاباته، وتستبدل به البحث عن الدلالة في النص وما تأخذه من تلاوين وتنويعات مباشرة أو رمزية .ولكننا نستطيع أيضاً بفعل رؤى المنهج البيئي مثلاً أن نتبين موقف الشعراء من الآخر ممثلاً بمدينته ورمزيتها وإيحاءاتها والموقف منها شعرياً. وفي مستوى آخر تتوسع دائرة المثاقفة لتشمل التأثر بالأفكار والرؤى والتصورات الغربية وسواها من نتاج ثقافات الآداب الأجنبية في مجال موسيقاها وإيقاعاتها .. ورصد تنوع تلك التأثرات وتجدد مراجعها – كما ستبين دراسات الكتاب- ، بفعل التقارب الثقافي وتعدد منابع المثاقفة جغرافياً ولغوياً وثقافيا
إن درس المثاقفة غير بعيد عهد في الدراسات النقدية والثقافية وما يجاورها أو تجاوره من الحقول المعرفية. فقد جرى في التقليد الشائع في دراسات الشعرية العربية أن تتم المقارنات داخلياً.، بين نصوص ذات حاضنة واحدة ، رغم أن تاريخ النقد العربي ترك لنا مدونات تؤكد تأثر الشعراء بالنتاج الشعري أو الفكري للثقافات المجاورة والبعيدة التي تم التواصل معها بطريق الترجمة ، ربما من المكرر القول بأن أشعار المتنبي وحكم أرسطو تصلح مثالاً لذلك بعد تخفيف التمحل الذي تمت به قراءة تلك العلاقة.ومثلها ماشاع في الشعر العباسي من تأثر بمقولات فلسفية يونانية ومن حكم الهند وسرد الفرس ، وهو مما أتاحته الصفة الكوزموبوليتية للمدينة العربية وانفتاحها على الثقافات الأخرى.وكذلك تأثر العلوم اللغوية والبلاغية والفلسفية بالمنطق اليوناني.
وبالإنتقال إلى العصور الحديثة سنشهد كيفيات أخرى للمثاقفة تتم عبر التماس المباشر مع الآخر بالدراسة والتعلم ، وبنشاط الترجمة ونشوء الحقول المتخصصة بالترجمة والأدب المقارن .
وسوف تتعزز تلك الصلات بالهجرات الكبيرة التي تمت بشكل موجات لم يكن الرعيل الأول من المهاجرين العرب إلا روادها الذين فتحوا طرقها.وسوف تغدو المنافي والمهاجر كما سيتبين في دراساتنا ، ساحات ممكنة لتعميق التثاقف .لكن الهبَّة التكنولوجية والثورة الوسائطية أغنت المهاجرين الجدد من الشعراء والكتاب عن الإندماج الثقافي بمجتمعاتهم الجديدة ،وأعادت صلتهم بأوطانهم وآدابها كما لو كانوا فيها.
ورغم أنني من الذين يلاحظون عدم تفاعل قصيدة المنفى والمهجر والمغترب مع محيطها الجديد ، بالقدر الكافي الطارد للعزلة الثقافية والخوف من الآخر، والإحباطات التي عاناها كثير من شعراء تلك البيئات التي لم تفلح في دمج بعضهم بإيقاع ثقافاتها ، فقد ظل خطاب بعضهم عاطفياً لا ينصاع لأعراف المعرفة ، فضلا عن غياب المشغّل والمؤثر البيئي الشعري الجديد في شعرهم الذي لم يجد لديهم مِعَداً هاضمة تتمثل ولا تجتر ، فغالبهم يجهل لغة مغتربه وشعرائه وسياقاته الثقافية ، مستثنياً أمثلة ممتازة لشعراء ومثقفين من الشباب خاصة يتفاعلون ثقافياً مع هذا المحيط ، وتقدم قراءاتهم وتجاربهم إضافات مهمة للقصيدة العربية الحديثة. لكن التنوع – رغم ذلك – حاصل ومؤثر بفعل قوانين التراكم الكمي والتحول النوعي التالي له. كما أن الحرية التي تتيحها الحداثة لمتبنيها تسمح باستيعاب المكان وتمثل مفرداته والتعبير عنه ولو بدرجات متفاوتة وكيفيات مختلفة. كما ترد هنا عوامل الثقافة البصرية المتاحة وتعدد طرائقها كمؤثر في التكوين الذاتي والإعداد الثقافي للشعراء.
ولا نعني بالثقافة البصرية هنا الاندهاش بالمرئيات العيانية ، بل تمثل المكان كوجود جمالي وليس التعاطف معه ، إذ قد يكون المكان معاديا أو مفردة في عناصر رفض التعايش مع المكان الجديد ، أي المنفى. وهنا تحضرنا لتمثيل حالة شعراء كتبوا في مدن وأماكن معينة ما يمكن تسميته: أهاجي تنفّر القارئ من وجودها.
وقد انتبه إدوارد سعيد إلى هذه المسألة واعترف بمعاناته من المكان الجديد على مستويات كثيرة: تتعلق بالهوية والوجود والثقافة واللغة ؛ لتصل إلى ما يسميه: حالة طباقية لها أعمق الأثر في تفكيره وعيشه داخل هذا المكان وخارج مكانه هو.
لقد عالجت دراسات الكتاب الوعي بالمكان المفترض للتثاقف والرؤية الشعرية التي تحتويه.كما توقفنا عند مظاهر أخرى تتصل بالتثاقف هي الإستشراق كدرس لتفحص المؤثر وقراءته معرفياً وكشف خطابه.
ورأينا في عملية نقد النقد كلاماً ثالثاً يبين لنا كيفية التثاقف مع المنهج وتطبيقاته الممكنة على النصوص الشعرية المقروءة بهدي تلك المناهج ورؤاها .
وبهذا المثلث المفترض :التأثر والإستشراق ونقد النقد تمت مراجعة عدد من النصوص ذات الدلالة بغضِّ النظر عن تطابقها مع رؤانا وتصوراتنا.
إن (تنصيص الآخر) كما يقترح الكتاب هوعملية معرفية حضارية، فضلاً عن كونها من حيثيات التحديث في الفنون والآداب وسياقها الفني والجمالي .فحين يتم الإقتراب من الآخر ليكون نصاً لا وجوداً تمثالياً شاخصاً ككتلة واحدة يُقبل أو يُرفض، تكون الكتابة الشعرية قد كسبت ذلك الرافد المهم لتعميق مجرى حداثتها، ومنح الهواء المطلوب لظهور الثمار الجديدة وتجسيدها في أفراد النصوص، والظواهر الثقافية المحيطة بها..
حاتم الصكَر
ناشفل-تنسي
( مقدمة كتاب ” تنصيص الآخر” – دراسات في المثقافة الشعرية والمنهج ونقد النقد” للدكتور حاتم الصكر) الصادر عن دار خطوط وظلال الاردنية)