لا يخفى علينا أن كُتاب هذه الورقة البيضاء هُم من الاقتصاديين الغربيين الذين طالما رأوا النظام الرأسمالي هالة تعلوا فوق جميع أنواع الأنظمة الاقتصادية الأخرى. كأنما الرأسمالية هي الحل النهائي والأبدي للاقتصاد العالمي الذي لا يمكن لأي فكرة أخرى أن تكون أفضل منها, وتنصف الجميع مثلها, وتلبي حاجة الإنسان الطبيعة من الرغبة في امتلاك الممتلكات والأراضي.
جاءت الورقة بنظام رأسمالي مرةً أخرى وبشكل آخر من ما جاءتها الأمريكان بعد عام 2003 بعد سقوط النظام الاشتراكي البعثي.
بالرغم من تحول العراق إلى النظام الرأسمالي, ما حدث بعد الاحتلال هو تضخم في القطاع العام الذي حصل نتيجة زيادة في إيرادات النفط واستمرار الحكومة في توفير تعيينات مركزية للخريجين والعاطلين عن العمل مما أدى بشكل تدريجي طوال 17 سنة إلى المزيد والمزيد من اعتماد الشعب على الحكومة كتأثير كرة الثلج وعدم قدرة الشركات الخاصة على منافسة الدولة في السوق, والتي بدورها أفلست المزيد من الشركات وقلت الحوافز عند الأشخاص الراغبين في التأسيس والربح.
بإختصار, الورقة بأكملها هي عبارة عن تضئيل دور الحكومة واستئصال يد الدولة من الهيمنة على السوق العراقي ودعم القطاع الخاص. إن تمت الموافقة عليها, فسوف نشهد بيع الحكومة للممتلكاتها العامة إلى الشركات الخاصة كمحطات الكهرباء والبنايات الحكومية المالية والإدارية. وسوف نشهد أيضاً تقليل من التعيينات المركزية بكافة مجالاتها العسكرية والإدارية والخدمية.
لكن الورقة أهملت الورم الخفي الأصلي وراء فشل الحكومة في تحريك الاقتصاد العراقي نحو الأمام. هل نحن لم نجرب الخصخصة والشركات الخاصة الطامعة في كسب المال فقط؟ ألم تكن الحكومة تستعين بالشركات المحلية والاجنبية من أجل البناء والهندسة وتوفير خدمات العامة من الكهرباء والماء والاتصالات؟ أليس الشركات الخاصة هُم من يستخرجون النفط والمعادن من أرضنا؟ ما الذي جعل الحكومة تظن الآن بأن المزيد من الخصخصة سوف تغير حال العراق؟ ما الذي جعلها تظن بأن المنافسة – كالمنافسة الأحزاب للسلطة التي جاء بها الامريكان – الشركات طمعاً بالمزيد من المال لا غير ستكون جيدة للعراقيين والعراقيات؟
المشكلة الحقيقية هي أن القطاع العام لم تقدر على الانتاج لأنها لم تستثمر في الشركات المنتجة للسلع القابلة للتداول مثل التصنيع وغيرها. بل ركزت على الخدمات فقط من دون إنتاج سلع حقيقية ملموسة. العراق يعيش في عالم من الخدمات، حيث غالبية عمالة العراقية هم خدم حتى في القطاع الخاص مثل الاتصالات.
ويجب أن تعلم الحكومة أن أرتفاع نسبة موظفي القطاع العام لا يتوجب عليها أن تؤثر على اقتصاد الدولة أو أن ترجع لها بعواقب سلبية بالضرورة. يمكن للدولة الزيادة من قطاعها العام ولكن عليها ان تبدأ بفرض رسوم وضرائب اضافية، ضرائب على موظفي الدولة بشكل خاص، وكذلك ضرائب على الشعب بأكمله بشكل عام، كضرائب الصحة وغيرها. وهذه ربما الهدف الوحيد الإيجابي من الورقة البيضاء التي تريد أن تضبط من ايرادات الضرائب, والتي يمكن أن تدفع الحكومة نفسها إلى الأمام للتخلص من لعنة النفط, وعمل موازنات موسعة ومستقرة.
ما نستطيع أن نفهمه من الورقة هو أن العراق متجه نحو المزيد من الرأسمالية والخصخصة الغربية. وبطريقة أو بأخرى، يحاول الكاظمي أن يجعل ماليات الحكومة ديناميكية، وليست ثابتة، تعتمد كلاً من رواتب الموظفين والمتقاعدين وكذلك الضرائب وغيرها من صادرات المالية للحكومة على إيرادات المالية لها. أي تخفيض الرواتب وزيادة الضرائب عند انخفاض النفط، وإعطاء الرواتب بكامل مستحقاتها والرجوع إلى النسب الطبيعية من الضرائب عند أرتفاع أسعار النفط. ما تفعله الحكومات العراقية الآن هي اعطاء رواتب الموظفين بغض نظر عن إيرادات الحكومة، أما عن طريق الإقتراض, أو تأخير الرواتب حتى تصعد أسعار النفط.