مع (كتابات) .. د. علاء قوقة : التفاعل الحي بين المبدع والمتلقي ميزة المسرح التي لا ينازع فيها !

مع (كتابات) .. د. علاء قوقة : التفاعل الحي بين المبدع والمتلقي ميزة المسرح التي لا ينازع فيها !

  • ما يضمن نجاح المسرح واستمراره نوعية الإبداع الذي يقدمه وليس الكوميديان والراقصة !
  • المسرح يعيش أزمة وعي لما يمثله في المجتمع وما يحتاجه من تربية دائمة لكوادره.
  • على المسرحيين الحفاظ على هويتهم الثقافية لأنها مخزون رؤاهم وأفكارهم الإبداعية.

خاص : حاوره – محمد البسفي :

المسرح.. يظل هو الفن الأكثر زخمًا في واقع اصبح أكثر صخبًا بقنوات ومنصات ومواقع تنقل على مدار الساعة أمواجًا من فنون هشة وفن زائف ووجوه إما موهومة أو مفروضة.. فيظل المسرح هو “السيد” رغم كل هذا، الذي يمتاز بنعمة التقاء المبدع والمتلقي “وجه لوجه”، في تفاعل حي نابض بموجات مبدع “موهوب” يبذل كل ما ملك لإثبات واستحضار موهبته؛ ومُشاهد يرقب باستمتاع راصدًا مستوى الأداء التمثيلي ورؤى النص وفلسفات النص والحركة والإضاءة.. ووو إلى آخر إبداعات “أبو الفنون”..

كل هذا وأكثر؛ كشفه لـ (كتابات)، في حديث فني/ثقافي راق، الدكتور “علاء قوقة”، الفنان المصري وأستاذ التمثيل والإخراج في “المعهد العالي للسينما”. صاحب الكلاسيكيات المسرحية التي يحييها الآن، إما إخراجًا أو تمثيلاً، وتزخر بها المسارح المصرية والعربية اليوم؛ بالإضافة إلى مساهمته بالأداء المتميز في الكثير من مسلسلات وأفلام لفتت الأنظار بقيمتها الفنية العالية.

(كتابات) : بداية .. كيف ترى الحركة المسرحية، العربية عمومًا، والمصرية خاصة، اليوم ؟

  • أعتقد أن المسرح العربي يختلف قليلاً عن المسرح المصري تحديدًا، لأن المسرح المصري يتمتع بكم إنتاجات وأشكال متنوعة وكثيرة للغاية.. ما بين المسرح الجامعي، والمسرح المدرسي، ومسارح قصور الثقافة، والمسرح المستقل، والمسرح الخاص، ومسرح الدولة، بالإضافة إلى قطاع الأوبرا.. فالمسرح المصري يحتوي على عدد كبير من الإنتاجات التي تخرج في أشكال مسرحية متعددة.

وقد شهد المسرح المصري، في الفترة الأخيرة، تطورًا من قِبل المخرجين الشبان الذين يحاولون إثبات وجودهم، والذين ربما استفادوا من إطلاعهم على الأعمال الأجنبية، سواء عبر المهرجانات العامة أو من خلال السوشيال ميديا، والتي أفادت بفتح الآفاق لمشاهدة أي عرض مسرحي حتى ولو مدفوع الأجر، بالإضافة إلى إتاحتها فرص بث بعض العروض مجانًا.. فهناك إطلاع كبير وجيد من قِبل هؤلاء المبدعين الشبان لرصد التجارب الجديدة واستغلال الأفق المفتوح، الذي فتح اليوم على مجمل المسرح العالمي بشكل كامل، وليس قاصرًا مثلاً على العروض التي تبث من المسرح الأميركي فقط.. كل هذا ساهم بشكل كبير في فتح أفقهم لتناول العروض المسرحية، وقد رأينا لهم بعض العروض المسرحية؛ ربما لا تشارك في المهرجانات العربية أو الدولية، نظرًا لقصر قنوات اتصالهم مع منسقي عروض تلك المهرجانات.

هذا عن المسرح المصري بشكل عام.. أما لو ألقينا الضوء على المسرح المحترف؛ المتمثل في مسرح الدولة، (البيت الفني للمسرح)، فالحقيقة العروض التي تعرض عليه تخضع لظروف مختلفة قليلاً عن روح الهواية، ومن وجهة نظري الشخصية أنه لم ينجح من تلك العروض إلا التي تحتوي على مضمون جيد وإقبال جماهيري عال وحركة نقدية مواكبة ومحاولات تسويق دؤبة.. لكن أيضًا نجد أن أكثرها تميزًا كانت عروض المخرجين الشبان مثل: “تامر كرم وشادي الدالي”، وعرض (ديوان الغابة)، و”محمد علام ومحمد الصغير”؛ وغيرهم من الأسماء التي قدمت عروض جميلة تضمن جودة فنية إلى حدًا كبير وتمتعت بإقبال جماهيري.. أما عن مسرح القطاع الخاص فهو يشهد صعودًا وهبوطًا، فمنذ فترة نجد له نشاطًا وإن كان بشكل عام هو أقل كثيرًا من نشاط القطاع الخاص في فترات سابقة.. أستاذنا “جلال الشرقاوي” كان له سابقًا عرض تقريبًا كل عام؛ الآن لم يعد متواجًدا بشكل قوي.. و”محمد صبحي” يقدم حاليًا ليالي أثناء الإسبوع؛ وإن كان مستمرًا بعمل بروفات العروض جديدة.. مسرح “كايرو شو” بدأ بثلاث عروض بينها ما أصابه النجاح المحقق للعائد والجودة الفنية، وفيهم ما لم يحقق هذا العائد، لكن يحمد له محاولاته في تنشيط الحركة المسرحية الخاصة أو التجارية بشكل ما، فقد قدم (الملك لير)؛ وهو عمل كلاسيكي أصيل، بالإضافة لعمل للأطفال لم يحظى بالنجاح هو (فريزون)، ومسرحية (3 أيام في الساحل) لـ”محمد هنيدي”، ويعمل الآن على عرض (علاء الدين) للأطفال بطولة الفنان “أحمد عز”؛ وهو يحقق نجاح ورواج.. الأساس في الموضوع أن “كايرو شو” حاول أن يصنع نماذج مختلفة لطبيعة عروضه بمناهج وأهداف مختلفة..

في تقييمنا للمسرح المصري بشكل عام أراه ينتج عروضًا قوية جدًا أكثرها في الجامعة، و”الهناجر”، التابع لـ”دار الأوبرا”، وفي “مركز الإبداع”، وبعض العروض القليلة في “البيت الفني للمسرح”.

بالنسبة للمسرح العربي.. أنا شاهدت الكثير من العروض في مهرجانات مختلفة، طبعًا نحن لا نستطيع الإطلاع الكامل على الحركة المسرحية العربية بشكل كامل، لكن من خلال ما شاهدته يجعلني القول بأن هناك تطور في المسرح العربي.. فمثلاً المسرح الخليجي شهد تطورًا كبيرًا؛ وكذا مسرح شمال إفريقيا، المسرح المغربي والتونسي والجزائري، فهناك مستويات مميزة للعروض التي شاهدتها عبر المهرجانات، فمثلاً جائزة المسرح العربي الأخير كانت من نصيب الجزائر عن عرض (GPS)، رغم وجود عروض قوية كانت في المهرجان مثل العرض المغربي.. فهناك حركة وهناك شباب يقدم أعمال جيدة، لكني ألاحظ أن هذه العروض لا تستمر لعدد كبير من الليالي مثلما يحدث في مصر.. ففي مصر مثلاً كانت بعض العروض تستمر لمدة 250 ليلة عرض، على فترات مختلفة بالطبع، ولكن إجمالي عدد الليالي يمكن أن يصل إلى 300 ليلة عرض، وهو رقم غير مسبوق.. لذا أعتقد أن السبب في ذلك أن الدعم الذي يمنح للمسرح في الخليج وشمال إفريقيا غير كافٍ لعدد عروض كثيرة مع عدم الاهتمام بالدعاية المكلفة.

(كتابات) : ألا ترى أن القيم الاستهلاكية قد أكلت كثيرًا من دعائم المسرح العربي اليوم.. بمعنى أن تحت دعاوى وشعارات شعبوية مثل: “قدم ما يريده الجمهور”، وليس “ما يفيد الجمهور”، قد أفقد المسرح سماته من تثقيف وتوعية وإرتقاء بالذوق العام ؟

  • إن مقولات من قبيل: “هذا ما يريده الجمهور”؛ أو “انزل لمستوى الجمهور”.. أعتقد إنها اصبحت تؤثر في مستوى العروض المسرحية لفترة ما سابقة؛ وهي الفترة التي نشأ فيها ما يسمى بعروض المسرح التجاري، الذي اسميه “المسرح المبتذل”، الذي يتدنى إلى مستويات وجود راقصة وكوميديان ومطرب، حتى اصبحت “توليفة” يعمل بها بغض النظر عن مدى أهمية أو جودة النص، فهذا غير هام.. الحقيقة إن هذا المسرح كان متواجد في فترة من الفترات، لكن الغريب أن منذ ما يقرب من العامين ظهر ما يسمى مجازًا بـ”مسرح مصر”، وهذه مسألة خاصة بالمسرح الخاص في مصر، وهي ظاهرة سميت بالمسرح ولكنها ليست بالمسرح إطلاقًا وإنما مجرد “اسكتشات”، ولكن العجيب أنها لاقت رواجًا وكانت مدخل لإعادة الجمهور إلى المسارح.. يعني لك أن تتخيل أن المسرح قبل ظاهرة ما يسمى بـ”مسرح مصر”؛ كان الإقبال الجماهيري ليس على المستوى المطلوب أو المرغوب، ولكن بظهورها الجمهور إنطلق لحضور المسرح، فعاد الإقبال والرواج لعروض المسرح الجادة، بمعنى أن الجمهور عاد إلى العروض الجادة والتجريبية الشبابية وعروض الجامعة، حينما تبيع تذاكر، ويعيدون عرضها في مسارح خاصة..

فإذاً مقولة: “هذا ما يريده الجمهور”؛ هي مقولة خاطئة جدًا ومن يتبعها ويؤمن بها لا يملك من الإبداع أو من علم الجمال ورسالة المسرح الهادف ولا يعلم كيفية بناءه أو تقديمه أو يدرك من القيم الاجتماعية التي يطرحها المسرح، والمسرح يقوم بدوره المنوط به توعويًا وتثقيفيًا واجتماعيًا لأن هؤلاء يفتقدون لكل هذه القيم يتخفون وراء مقولات رغبة الجمهور وغيرها من الشعارات الاستهلاكية..

أقول أن الجمهور لا يريد هذا على الإطلاق، بدليل أن عروض من هذا المستوى قد فشلت فشلاً زريعًا بكبار النجوم.. بالنسبة لـ”مسرح مصر” بدأ شبابي لطيف يستهدف الضحك، ولأنه بدأ عبر بث تليفزيوني صنع الرواج السريع؛ إذاً المسرح المنتج حينما يتم دعمه بالدعاية اللائقة والقنوات الداعمة أو عقد بروتوكولات بين جهات الإنتاج المسرحي وقنوات التليفزيون أو ما يوازيه من منصات “السوشيال ميديا”، يحقق المسرح الجيد الكثير.. لكن “الجمهور لا يريد هذا” بالعكس الجمهور يريد الذهاب إلى مسرح لا يسمعه كلمة نابية تجرح ابنته أو زوجته أو تسبب له أي احراج، ولا يرى عرض مهتريء وأي حد يقول أي حاجة..

وأنا أؤمن بأن المسرح عمومًا يشهد موجات صاعدة وهابطة كسُنة الحياة.. لكن لو المسرحيين تبنوا مقولات: “المسرح الجاد والأصيل هو الذي يبقى”؛ أعتقد أن هذا سوف يحدث فارق كبير.. من ضمن الأعمال التي تشرفت بالمشاركة فيها عرض (هنا هنتيجون)؛ وهو عرض من المسرح الكلاسيكي، و(يوم أن قتلوا الغناء)؛ وهو لأيضًا من المسرح الأسطوري، لم أكن اتخيل مستوى الإقبال الجماهيري عليهما ولأيام طويلة، فالعرض الأخير تجاوز الـ 300 ليلة عرض، و(هنا هنتيجون) دخل 150 ليلة عرض، لدرجة أن الناس كانت ترجع لأن ليس لها أماكن، وهي عروض لا تقدم “التوليفة التجارية” التي تضمن الاستمرار، وإنما ما يضمن لها النجاح، حقيقة، هو نوعية الفن وجودة الأداء والجهد المبذول والمعتنى به.

(كتابات) : هل هي أزمة مسرح.. أم أزمة “منظومة” ثقافية متكاملة ؟

  • طبعًا المسرح في أزمة؛ لأن العمل المسرحي لم تقدم له الدعاية الكافية.. المسرح يستحق اهتمام ورعاية أكبر، يستحق “دعم مالي وفني وبنية تحتية وقواعد ملزمة وبروتوكول وميثاق شرف” وأشياء كثيرة حتى يحدث النهوض والبعث بشكل قوي من جديد..

المسرح في الخليج يلقى اهتمام؛ لكن عدد الجماهير لا يحقق الرواج الكافي الذي يمده بعدد ليالي عرض أطول، فأعتقد أن العرض الخليجي الواحد لا يستمر ليالٍ كثيرة لأنه يفتقر للإقبال الجماهيري، بالتوازي حينما تذهب العروض المصرية إلى السعودية أو الإمارات مثلاً – وهذا أحد الأدلة على قوة المسرح المصري – تلقى رواجًا كبيرًا وإن كان محددًا بعدد الليالي المقررة سلفًا.. وأنا لا أدعي معرفتي الكاملة بالمسرح العربي ومشاكله، غير ما يعرض وأشاهده خلال المهرجانات العامة، بعكس ما أعرف عن المسرح المصري..

فنحن بالفعل في أزمة.. وهذه الأزمة متعددة الجوانب منها الاقتصادي؛ وجانب منها ثقافي مرتبط بوعي الإدارة لما يمثله المسرح في المجتمع وما يحتاجه من دعم وكيفية تربية كوادره دائمًا في جميع عناصره من فنيين وعمال ومخرجين ومهندسي ومنفذي الديكور، يجب تربية الكوادر بشكل مستمر.

كما أعتقد أن ما يحدث فارق كبير في مستوى نهوض المسرح أيضًا؛ تفعيل دور الدعاية والإعلان والتسويق له مع عدم المغالاة في أسعار التذاكر، لأنه ربما يكون من أحد أسباب نجاح عرض مثل: (يوم أن قتلوا الغناء)؛ أن تذكرته لم يتعدى ثمنها الـ 30 جنيهًا، بما يعادل 2 دولار تقريبًا، حتى يكون في متناول يد الشباب، وهي الفئة العمرية التي تعد طليعة جمهور مشاهدة المسرح؛ لما يمتازون به من خفة الحركة عن حركة الأسرة الكاملة.. كل هذه جوانب يجب أن تُدرس. بالإضافة إلى أهمية دراسة ظاهرة الناس الذين يصرون على حضور عرض واحد لعدة مرات ربما تصل إلى 30 و40 يوم/مرة (!).. هذه ظاهرة يجب أن تُدرس: ما الذي يجعل شباب يقدمون على مشاهدة عروض بعينها 30 مرة ؟!..

فهناك أزمة بالفعل.. ولا يمكن أن نستدل على حركة مسرح بعرض أو عشرة عروض، خاصة أن إنتاج العروض المسرحية في مصر يتعدى الألف عرض سنويًا، ولكن يجب علينا الاعتراف بأن المسرح الرسمي أو “مسرح الدولة” يقدم عروض جيدة، وهذا في حد ذاته شيء مبشر وجيد، وإن كان هذا لا ينفي أننا مازلنا في أزمة تحتاج إلى تنظيم مؤتمر، وربما لعدة مؤتمرات للتحاور وتبيان الجوانب المختلفة لأزمة المسرح.

(كتابات) : العولمة، كواقع ثقافي يعتمد الشمولية، فُرض على مجتمعاتنا العربية.. هل تراه مسؤولاً عن ذلك الوضع المسرحي الحالي ؟

  • بالنسبة للعولمة.. فهي مسألة لها جوانبها الإيجابية كما أن لها جوانبها السلبية.. الجوانب الإيجابية تتمثل في قدرة الفنان الإطلاع على العروض المسرحية والكتب والمراجع العلمية من كافة أنحاء العالم، فقد ذابت الحدود والمسافات بين المسرحيين.. إلخ، لكن المشكلة الرئيسة في العولمة هي محو الثقافة القومية أو الهوية، ومحو ثقافة الشعوب.. فكما هو معروف أن كل شعب له ثقافته وتقاليده والملامح التي تحدد هويته، فالعولمة اتجاه إلى ذوبان كل هذه الفوارق الثقافية، وهذا شيء سلبي وسييء في العولمة، ولكنها فرضت على الجميع، ويجب على المسرحيين أن يكونوا على وعي: أن لا يفرطوا في هويتهم الثقافية ولا في عاداتهم وتقاليدهم، لأن هذا هو المخزون الذي لا يجب أن ينضب ويمدهم بالأفكار والرؤى والطموحات والآمال المستقبلية..

فمن البديهي أن الشعب التايلاندي مختلف عن الشعب الأسكتلندي عن الإفريقي الجنوبي عن شمال إفريقيا عن الخليج، كل شعب له ثقافته الخاصة وهويته، فلابد أن نأخذ حذرنا كمثقفين وكمسرحيين أن نستفيد من العولمة بما يفيد موهبتنا وإبداعنا ونرفض منها ما يمحو هويتنا الثقافية.

(كتابات) : ألا ترى معي.. أن المسرح العربي – والمصري خاصة – قد أبتعد كثيرًا عن قاعدته الجماهيرية؛ سواء في المضمون من حيث “واقعية” طرحه من موضوعات، أو في الشكل من حيث وسائل الوصول لفئات أعرض وأكبر من المجتمع ؟

  • الجمهور وعلاقته بالمسرح مرهونة بسمعة العرض، التي تتكون عبر وسائل الدعاية والإعلان أو بعمليات التسويق.. أما عن المحتوى الذي يتصف بالبُعد عن الواقع واختيار قضايا وموضوعات بعيدة عن “هنا والآن”، التي تستخدم الإسقاط والرمز.. إلخ، ربما يبدو أنه ابتعاد عن الجمهور، ولكن هي وسائل فنية يمارسها المؤلفين والمخرجين للتعبير عن ما يريدون قوله دون أن يحدث لهم أزمات رقابية أو ما شابه، لكن هذا ليس سببًا لإحجام الجمهور، بالعكس.. فأنا ضربت مثلاً بعرضي: (هنا هنتيجون) و(يوم أن قتلوا الغناء)، وقبلهما جسدت في مسرحيات: (الحبل) لـ”أوجين آونيل”؛ و(من يخاف أوجينا وولف) لـ”إدوارد أوليبي”؛ و(مسافر ليل)؛ وهو عرض يبتعد عن فكرة “هنا والآن” وله طبيعة عبثية خاصة. الموضوع ليس المشكلة، بالعكس كلما كان الموضوع مغرق جماليًا بشكل عام في أن يعطي إمتاع للمتفرج، فالمشاهد موجود، بغض النظر عن إن الموضوع واقعيًا أو ليس واقعيًا..

الموضوع الواقعي الذي يعني: “هنا والآن”؛ قد يكون يحتوي على مشاكل أكثر من أن تكون إسقاطية عبر التاريخ وعبر الأزمنة المختلفة. في النهاية المضمون يمكن أن يصل إلى المتفرج حتى عن طريق الفانتازيا وعن طريق مسرح العبث وعن طريق العروض التجريبية، لكن يجب أن يكون المبدع هنا هو الفيصل في الأمر؛ لأنه القادر عن أن يصل بالمتفرج إلى حالة المتعة.. المتفرج إن قلت له مقولتك التي تريدها بشكلها الجاف المباشر قد تؤثر سلبًا؛ بينما العروض التي تحتوي على التورية والمجاز والرمز والإسقاط تعطي للمتفرجين مساحات للفهم أكبر وأوسع، حيث تتعدد بها مستويات التلقي.

وفكرة وجود مستويات للتلقي في النص؛ فكرة جوهرية جدًا، فيجب أن يؤخذ العرض المسرحي على هوى كل متفرج.. هناك من يأخذه بشكله الواقعي وآخر يستشف ما وراء الموضوع وثالث يفكر في فلسفة العرض وأبعاد موضوعه وهكذا.. فإذاً العروض التي تحتوي على القيم والرؤى العميقة؛ هي التي تظل مناسبة لفئات مختلفة من المجتمع، فمثلاً هناك العروض الكوميدية التي تلجأ إلى أنها تجسد أحداث حالية، مثل السخرية من جائحة (الكورونا) أو التهكم على بعض الإعلانات التي يعرضها التليفزيون …إلخ. نعم هي عروض “هنا والآن”؛ ولكنها لا تلقى أعجاب ورواج فئات عريضة من المجتمع، وربما لا نجد سوى الجمهور السطحي هو الذي يعجب بها فهي تعجز عن الوصول إلى فئات أكبر من المجتمع، بينما العرض الذي يتضمن مستويات عدة للتلقي هو الذي يبقى وينفع في النهاية ويجد الرواج.

(كتابات) : أزمة عودة إزدهار الحركة المسرحية من جديد.. هل هي أزمة مؤلف أم تمويل أم تقنية ؟

  • أزمة المسرح الحقيقية الآن، من وجهة نظري، تبدأ من أزمة المؤلف.. لأن المؤلف هو العجلة التي تدور لإنجاح العمل المسرحي، فهو البداية، إن لم يوجد مؤلفين قادرين على طرح رؤى وأفكار وأهداف في نسق درامي قيم، لا يوجد مسرح جيد، في إعتقادي.. ومن منطلق فكرة أن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي، يمكنني مجازًا وضع المؤلف والمخرج في خانة أهمية واحدة.. وبعد قليل سوف نقول مهندس الديكور وبعدها الممثل.. فيمكننا أن نرى الأزمة في النهاية هي “أزمة مبدع”، بداية من المؤلف وما يتبعه من عناصر المنتج الفني برمته.

يلي “أزمة المبدع”، الأزمة المالية والأزمة التقنية للمسارح.. لأن المسرح الجيد يمكن أن يقدم في أماكن معدومة التجهيزات أو فقيرة من أي تقنيات، ويمكن أن يقدم بدون مال. العرض الفني طالما يحمل في طياته سمات الإبداع الجيد يفرض وجوده.

لكن هذا لا يغفل حقيقة أن الفنان المسرحي يحتاج إلى حياة كريمة، طالما كان ممارسًا للإبداع المسرحي ومنخرط في العملية المسرحية ويضحي في سبيلها، وهنا ياتي دور الجانب المادي في المسألة.

بالتالي تظهر الأزمة المسرحية بكل هذه الجوانب: الجانب الإبداعي والجانب المادي أو الاقتصادي والجانب التقني المرتبط بتقنيات المكان والبنية التحتية للمسارح وما تضمنه من إمكانيات، ولكن يمكننا التغلب على ذلك بأشياء كثيرة، أعتقد أننا بدأنا تنفيذها منذ فترة، وهي إقامة منافسات بين المؤلفين والنصوص المسرحية سواء لمسرح الكبار أو لمسرح الأطفال، وهذا شيء محمود، كما أعتقد أن البعثات لها دور كبير وكذا الترجمات وانتشار الكتب سواء بشكلها الورقي أو الإلكترونية والأكاديميات المختلفة، وما تصدره لنا من خريجين ومبدعين.. والاهتمام بالتعليم في هذه الأكاديميات مهم جدًا، فالتعليم هو حجر الأساس لمستقبل مسرح أفضل من حاضره الآني؛ فالأجيال المقبلة هي حاملة الراية المسرحية، وعليهم تطوير المسرح والقفز به، فيجب من الآن الاهتمام بتوفير مستوى عال وجيد جدا للخريجين والدارسين.

(كتابات) : بمباشرة.. هل يتحكم رأس المال في الحركة المسرحية.. فكرًا وتوظيفًا وتفاعلاً ؟

  • إلى حدًا كبير يتحكم المال في هذا التوظيف.. الحقيقة علينا أن نعترف أن المال له “باور” كبير وقوي جدًا في إحداث هذا الأثر.

(كتابات) : هل يوجد غيابًا لحركة نقدية جادة وبناءة للمسرح اليوم ؟

  • دور النقد في تطوير الحركة المسرحية دور جوهري جدًا، وله جانب مؤثر للغاية.. ولكنني أرى أن الفترة الأخيرة قد شهدت، لا أعلم بماذا نسميها، هل هي فترة انحسار أم تدهور لحركة النقد !.. هل يرجع هذا للكثير من المجاملات التي يمارسها بعض النقاد تجاه بعض الفنانين ؟.. أو لعدم وعي بكيفية تحليل العرض المسرحي ؟.. أم هي العملية التحليلية للعرض المسرحي التي تم إختزالها في تحليل “النص” المسرحي فقط دون الخوض في العملية المهمة بالأساس وهي “العرض” ذاته بكل ما اشتمل عليه من من عناصر ومفردات تحتاج إلى متخصص فعلاً في النقد من أجل تحليل الصورة والعبارة وحركة الممثلين على المسرح والإضاءة والملابس ومدى ملائمتها؛ بالإضافة إلى تحليل الأبعاد الدرامية وحركة الإيقاع في العرض المسرحي ويحلل السينوغرافيا بشكل عام ويحلل الجمهور..

فالحركة النقدية تشمل كل هذا، أنا الحقيقة حينما أقرأ أي نقد مسرحي الآن أجد أن ثلاثة أرباع المقال النقدي عن “النص” نفسه، وفي نهايته يذكر الممثلين ببعض العبارات القصيرة وعن الديكور والإخراج بعبارات مقتضبة جدًا.

فأرى أنه على الأساتذة الذين يدرسون النقد، وقد فقدنا الكثير منهم في الفترة الأخيرة، أن يوجهوا الطلاب والدارسين إلى أن النقد المسرحي ليس قراءة في “النص” وتحليله، وأنما يجب أولاً أن يتصف بالصدق فلا يوجد نقد يجامل أو يحابي أحدًا؛ أو على النقيض يقوم بالإنتقاص والانتقام.. يجب أن يكون نقدًا صادقًا يقوم على علم ليس إنطباعي أو له أهداف شخصية من وراءه، ثانيًا يجب أن يكون متضمنًا لجوانب العرض المسرحي بشكل مفند ومحلل جيد ودقيق؛ ويكون هذا بأسلوب أدبي فني ناقد، حتى لا تصبح المسألة مجرد تسويد صفحات جريدة أو مجلة..

الحقيقة من وجهة نظري أن النقد المسرحي يحتاج إلى تطور وأن يتواجد بشكل ودور قوي.. من جهة أخرى يوجد ما يمكننا تسميته أزمة قراءة ربما يعاني منها جميع أطراف الحركة المسرحية، فبرغم أن الناقد ربما يقرأ بعض المقالات النقدية إلا وأننا نجد أن بعض النقاد لا يقرأون حتى نقد زملائهم، وكذا الفنانون والمبدعون المسرحيون والجمهور العادي أعتقد أنهم لا يقرأون النقد المكتوب، وهذه مشكلة كبيرة.. فأنا كمبدع أو فنان مسرحي أنتج عملي واستمر دون قراءة نقده أو استاء واغضب من الناقد مبتعدًا عنه لانه سجل على عملي ملحوظة ما أو أراد توجيهي في أمر ما، فنحن كشعوب عربية نكره من ينقدنا سلبًا؛ مع أنه من المفترض أن يحدث العكس؛ فالذي ينقدني سلبًا هو من يوجهني إلى أن أكون أفضل وعليّ أن استفيد كمبدع من حركة النقد، سواء ما يقال عني أو عن زملائي، لأننا جميعًا في مركب واحد، والناقد هو البوصلة التي يستند إليها الفنان.

(كتابات ) : تتكرر دائمًا شكوى المسرحيين من التأثير السلبي لتقدم وسائل الاتصال التليفزيونية والتكنولوجية على الإقبال الجماهيري على المسرح.. بصراحة لماذا لا يسعى المسرح إلى الناس إينما كانوا ويترك مركزيته وبرجه العاجي ؟

  • شكوى المسرحيين من أن “السوشيال ميديا” تجذب منهم الجماهير، أعتقد أنها مخاوف غير حقيقية، لأنه حينما أنطلق “الستالايت” وبثت القنوات الفضائية، التي تعد الآن بالآلاف، قيل نفس هذا الكلام، ولكن هذا لم يحدث.. ومع ظهور الشبكة العنكبوتية قيل أيضًا أنها سوف تجذب البساط من تحت قدمي المسرح؛ وهذا لم ولن يحدث.. لسبب بسيط؛ هو أن المسرح يمتلك في جوهره أهم ما يميزه، وهو الوجود والتفاعل الحي بين المبدع والجمهور، وهذه ميزة يفتقدها أي مجال فني أو ميديا أخرى. وستظل ميزة لصيقة بالفنان المسرحي، كما يتمتع بها الراقص المسرحي والمطرب سواء على مسرح الأوبرا أو على أي مسرح آخر..

الوجود الحي والتفاعلي مع المتلقي؛ هو الجوهر الحقيقي الملموس الذي سيبقى، وما تقدمه السينما والفيديو والسوشيال ميديا يتم مشاهدته عبر “شاشة”، لكن الوجود الحي هذا يظل ميزة أصيلة يتصف بها العمل المسرحي، والجمهور سيظل يرتاد المسرح طالما يقدم فن وإبداع حقيقي.. مادام هناك مبدعون يعملون حساب لهذا المتفرج الذي يُصر على الحضور والتواجد في المسرح والإلتقاء بالمبدع، فيهتم بإنجاز عمله على أفضل وجه وأن يبدع بجد ليثبت أنه يستحق هذه المكانة التي يضعه فيها المتفرج.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة