خاص: إعداد- سماح عادل
ظهرت أيام انتفاضة تشرين 2019 عروضا ارتجالية، كما غطت اللوحات الجدران، وانطلقت الأغاني تغنيها القلوب قبل الحناجر، أحس الناس أنهم يملتكون شوارعهم،لذا اندفعوا لتنظيفها وتجميلها وترتبيها لتليق بجمال أرواحهم.
بمناسبة ذكرى ثورة تشرين العظيمة نواصل نشر ملف عن (تأثيرات ثورة تشرين الثقافية) وكيف تجلت تلك التأثيرات على أرض الواقع. ونجمع آراء مجموعة من الكتاب والمثقفين والمتفاعلين مع أحداث ثورة تشرين.
مراجعة شاملة..
يقول الكاتب “جودت جالي”: “صحيح أن من يبادر إلى الانتفاضات والثورات هم ليسوا المثقفين وإن كانوا من الدعاة إليها، بل أبرز الدعاة إليها بالكلمة، وربما بالفعل أيضا، إلا أنه من الصحيح أيضا أن الانتفاضة لا تستطيع الاستمرار في خطها المطلوب والمتصور من دون أن يلتحق بها المثقفون ويبادرون إلى تصدرها ويكونون طليعتها، لأن الناس العاديين، أصحاب المصلحة المباشرة في الانتفاضة والواضعين الأصليين لمطالبها وطبيعتها، الذين يكفيهم شرفا لا ينازعهم عليه أحد أنهم فجروا الانتفاضة ووضعوها على السكة، وأغلبهم شباب قليلو الخبرة قليلو المعلومات، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية، سيكونون عرضة في أغلب الحالات إلى ما يولده الصراع من تقلبات ويصبحون هدفا للماكنة القمعية ودعاية الأحزاب التي تشكل الانتفاضة خطرا عليها”.
ويوضح: “يصبح من الضروري أن يقوم المثقفون بدور المنظم والمانع من الانحراف الذي قد ينتج عن طول الصراع غير المتكافئ، فتعمد فئات من المنتفضين، بدافع التعب وانعدام موارد الإدامة، إلى القبول بحلول سريعة تضعها السلطة وهذه الأحزاب في طريقهم. هنا يأتي دور الأشد عزما من المنتفضين ودور المثقفين معا، ويدا بيد، لإدامة الزخم والتثبيت على المطالب الأساسية الجوهرية المؤدية إلى خلق واقع جديد هو الوطن، الذي تسوده العدالة وتجد فيه القدرات الوطنية الازدهار اللازم لبناء مجتمع متآخ متصالح بين قومياته ومذاهبه ومعتقداته السلمية. إلا أن المثقفين، برأيي، فشلوا في جانب مهم وهو تجسيد المطالب في وثائق مكتوبة تقدم إلى الحكومة لرفع المستوى الجدلي بين الانتفاضة، وبين الحكومة إلى المستوى المثمر والمنتج، تاركين للحكومة نفسها التي تتحكم بها أحزاب السلطة نشاطا مهما وهو تقديم البدائل التي غالبا ما تكون ليست هي البدائل التي يريدها المنتفضون، فالمثقفون الذين لم يعتادوا على النضال العلني طيلة عشرات السنين لم يحسنوا استثمار فرصة العلن والقدرة على التحرك إلى أن تداركت أحزاب السلطة الأمر وأخذت زمام المبادرة بيدها، بعد أن أصيبت بالارتباك والبلبلة أول الأمر كما أن القوى المنظمة، الكيانات السياسية، التي تتطابق مبادئها مع مطالب المتظاهرين نأت بنفسها عن التصدي علنا للقيادة، إما بسبب تحالفات مع قوى السلطة أو ضعف القدرات وهذا عكس تأثيره على عزم الانتفاضة”.
ويؤكد: “إن المثقفين، والاتحادات والنقابات المهنية التي ينتمون إليها، فيهم الكفاءات القانونية والاختصاصية اللازمة لصياغة دستور وقوانين بديلة لم يوظفوا هذه القدرات في وثائق تقدم إلى الحكومة، وكان بإمكانهم عقد لجان مختصة لوضع قوانين بديلة وقد بدأ العمل فعلا بمبادرات في ساحة التحرير ثم اختفت فجأة. إن بقاء الانتفاضة على هذا المنوال قد منح الفرصة لتصويرها على أنها حركة تمردية فوضوية وبالتالي تبرير أية ضربة توجه إليها، وفي قناعتي إذا لم ترتق الانتفاضة إلى مستوى الند الجدلي للحكومة، وتفتح حوارا منتجا معها يسوغ وجودها كما بينت توا، فمن الأفضل الحفاظ على أرواح الطليعة الخيرة من شباب الوطن والانسحاب إلى مراجعة شاملة والبدء من جديد بشكل سليم، دون أن يكون كلامي هذا انتقاصا من التضحيات العظيمة في الانتفاضة التي لم ير العراق مثلها منذ أكثر من قرن، وربما أكثر، ولكني من الذين يرون أن كل تضحية يجب أن تكون مبررة وفي مكانها، يقابلها مكسب، ويمكن الإحساس بأن تقدما ملحوظا جوهريا يحدث، وليست أرضا أبرز ما فيها أنها فخ للقتل”.
ثورة فكر..
وكان رأي الكاتب “محمد سيف المفتي”: “ما أجمل هذا السؤال وما أوجعه، ثورة تشرين هي مرآة المجتمع العراقي، هذه الثورة التي عرت السياسي والمثقف من آخر أوراق التوت، ثورة أظهرت للعالم أن الفساد الأخلاقي قد نال من قلوب السياسيين والمثقفين وكذلك طبقة التكنوقراط وطريقة تجاوبهم مع الهم العراقي أفقد الثقة بهم وإلى الأبد، خصوصا من كان يسير فوق أجساد الشباب المطالب بالعصيان المدني متوجها إلى عمله، يا لوجع الخذلان. غسلت دماء شباب العراق شوارع العراق وأظهرت الوجه الحقيقي لمن يحكم البلاد، وألقت الضوء على سياسات لا تحترم الإنسان العراقي بل تهتم بخيرات بلاده”.
ويستنكر: “وجاءت ظاهرة اختطاف النساء التي تتعارض مع القيم العراقية والإنسانية، أمام صمت من الدولة ومن المؤسسة العشائرية التي كانت تشن حربا على بعضها في حوادث بسيطة، مع صمت رجال الدين وكل المنابر. بالفعل انطبق علينا قول الشاعر “مظفر النواب” “القدس عروس عروبتكم”، في هذه اللحظة سقط ما تبقى من بناء كل المراجع في العراق بما فيها المرجعية الثقافية، السياسية والدينية، وأصبح العراقي ينظر إلى نفسه عاريا تماما، وأكتشف أن كل ما سمعه من وعود وتمثيل للقيم منذ عقود كان مجرد كلام لا يتفق مع الأفعال”.
ويضيف: “فلم يبقى لشباب العراق إلا تضامنهم وتكاتفهم، فأصبح ابن الغني والفقير معا وابن البيئة الشعبية ينام جنبا إلى جنب مع ابنة الطبقة المترفة، وابن القرية مع ابن العاصمة يتشاركون في الحلم ويزرعون الأمل لغد أجمل بكل الوسائل المتحضرة ليجابهوا وحشية النظام بالسلام. كما أن غياب ظاهرة التحرش الجنسي في ساحة التحرير، في بلد تتسم حياته بالكبت الجنسي، كان من أرقى المؤشرات على وعي المشاركين بالثورة وتآخيهم. وهنا أعطت الثورة درسا للشعب العراقي في كيفية الرفض والاحتجاج باستعمال الأسس الديمقراطية الصحيحة والمسالمة، في خلق الرأي الشعبي استفاد منه عدد ليس بالقليل ومر مرور الكرام على الشريحة الأكبر”.
ويؤكد: “أما بالنسبة للأدباء والفنانين فعلينا أن نعترف بأننا مقصرين ومقصرين جدا تجاه ثورة فكر كان يتوجب علينا أن نتآزر في احتضانها بكل الإمكانيات. سأذكر حقيقة قد تكون صادمة، لو وقف سياسي، أديب، فنان أو رجل دين يتكلم عن ثورة تشرين وسمعت صوت التكتكت في الشارع فسوف أعطي ظهري لهم جميعا واقف احتراما للتكتكت وأشاهد لأنه أصدق منهم جميعا. ما جرى في العراق لا تغطيه ورقة من شجرة توت نحن بحاجة إلى غابة لتسترنا. ويبقى الأمل في شباب الساحات من مختلف المشارب الفكرية ومن مختلف الخلفيات الثقافية، هم صناع التغيير قدموا فنا، ثقافة، أدبا وخلقا جديدا لم نعتد عليه، وهنيئا لمن لحق بالركب وأثبت إنسانيته. دعم شباب الثورة فرض عين على الجميع، بدعمهم نخلق فكرا جديدا غاب لعقود عن بلداننا”.
عروض ارتجالية..
ويقول الكاتب “فالح حسين العبد الله”:” لقد كان لثورة تشرين التأثير الكبير على الحياة العراقية بأكملها، اقتصادية، سياسية، اجتماعية، و ثقافية، خصوصا، وقد كانت اللوحات التي رسمها الثوار أو الإشارة لمنجز ثقافي بصري فني سواء في الرسم أو الخطوط أو الزخرفة، وتبعتها الصورة الملتقطة من خلال أجهزة الموبايل التي عوضت عن الكاميرات في توثيق أحداث الثورة الأولى، قبل سرقة الثورة وتخريب مضمونها. وكان للثورة تأثير مباشر وسريع على الشعر سواء الشعبي منه أو الفصيح بكل أشكاله. أما تأثيرها على الفنون فقد كانت هناك عروض مسرحية شبه ارتجالية في ساحات التظاهرات، وهذه لا تعد سوى عروض انفعالية ألهمتها الحماسة الناتجة عن الأحداث، والتأثير بقي ضعيفا في مجال السينما لمحدودية المنتج السينمائي في العراق، ولم نرى سوى محاولات بسيطة لبعض الشباب المتحمس”.
الثورة ظلت سلمية..
ويقول الكاتب “داود سلمان الشويلي”: “للثقافة والأدب الذي هو الواجهة النوعية الصافية للثقافة، دور كبير في الثورات أينما كانت وفي أي وقت. إذ تلعب دورا فعالا ومؤثرا، خاصة في الثورات السلمية، مثل ثورة تشرين العراقية في عام 2019 ضد الظلم والاستبداد والقهر والفساد والنهب والسرقة التي تقوم به الأحزاب المهيمنة على رقاب أبناء الشعب العراقي، وبعد أن تم إسقاط بغداد على يد الغزو الأمريكي وتنصيب بول بريمر حاكما على العراق، الذي قام بتجميع هذه الزمرة الفاسدة التي يقول عنها هو: أنهم جمعهم من شوارع أوربا، وأزقتها، وهكذا تسيد الفاسد على الشعب العراقي الأبي”.
ويواصل: “إن هذه الثورة ظلت سلمية على العكس من ثورات الشعوب العربية لأنها تعرف جيدا أن الشعب العراقي قد ملّ الحروب، وأنه أكثر ديمقراطية من حكامه، وأن ما يطالب به هو حق من حقوقه التي سلبت، ولهذا ظلت هذه الثورة سلمية على الرغم من أن البعض من سياسي السلطة يحاول حرفها من سلميتها إلى أن تكون غير سلمية، فأبقى على سلاح الكلمة، وأبعد السلاح القاتل بالنار، وأفشلت هذه السلمية أسلوب القنص، واستخدام الكاتم، والاغتيالات التي قامت بها جهات حزبية ولها علاقة بالحكومة”.
وعن التأثيرات الثقافية للثورة يوضح: “وقد أثرت هذه المواقف لأبناء ثورة تشرين العراقية في مسيرة الثقافة والأدب والفنون. لقد كانت الكتابات الأدبية، في الشعر والرواية والقصة وفي المسرح وباقي الفنون، فضلا عن الثقافة، كانت مسايرة لهذه الثورة، إنها تنبع منها لتصب فيها، فشخصت الكتابات الثقافية مبادئها، وبينت أهدافها، ومراميها، وتوضّحت مطالبها، وقالت قولها في اختيار رئيس الوزراء، وفي قانون الانتخابات، ومن يرشح لها. وكتب الأدباء، طليعة المثقفين، الروايات، والقصص، والقصائد. ورسم الفنانون اللوحات التي جسد كل شيء في الثورة. وقدمت المسرحيات، تمجد فيها، وتعلّي من أسسها، وأصولها، وأهدافها، وقيمها، حتى بات الشعب العراقي مشاركا فيها ولا تفوته فائتة عنها، حتى لو جاءت من رجل دين، أو مسئول كبير، أو شيخ عشيرة يحاول الاصطياد في الماء العكر الذي صبوه إلى جانبها ففشلوا وبقيت رايتها عالية كالشمس. لقد رأى الشارع العراقي جدّة في الأنواع الأدبية والفنية والثقافية من خلال ما تقدمه هذه الأنواع من موضوعات تحت شعارات الثورة، نازل آخذ حقي، وأريد وطن، وبالروح والدم نفديك يا عراق، هذه الشعارات وغيرها وجدت طريقها في الكتابات الثقافية، والأدبية، والفنية”.
ويضيف: “لقد كان الخطاب الثقافي، والخطاب الأدبي، والخطاب الفني، الثوري، تشرينيا بحق. وقد تجلى ذلك عندي من خلال نشرت رواية “نخلة خوص سعفها كثيف” في بداية هذا العام، وقد صدرت عن دار فنون في القاهرة. ونشرت مجموعة قصص قصيرة، وقصيرة جدا، في الصحف العراقية والعربية تمجّد، وتشيد، وتوضح أهداف ومرامي هذا الثورة العراقية”.