23 ديسمبر، 2024 11:13 م

 لقد انتهت موقعة الجمل بألوف الضحايا ، وهي أول موقعة يقتل فيها المسلم أخاه المسلم ، وفي وصفه لهذه الموقعة وما تمخضت عنه من آثار مؤلمة ، يقول طه حسين : ” وكأن العرب في ذاك اليوم قد عادت الى جاهلية الجهلاء وضلالتها العمياء ، ونسيت دينها السمح أو كادت تنساه ، وكأن العرب في ذلك اليوم قد جن جنونها وفقدت صوابها ، فلم تدر ما تأتي وما تدع . أو كأن الفتنة قد شبهت على العرب ، حتى رأى المسلمون أنفسهم في ظلمة ظلماء ، حتى كأنهم الذين وصفهم الله ( تعالى ) في القرآن الكريم ، حين قال : ” أو كصيب من السماء ، فيه ظلمات ورعد وبرق …” . وقد وصف الكاتب مقتل الشهيد كعب بن سور قاضي البصرة ، ذلك النصراني الذي إستهوته قيم الإسلام وسماحته ، فاعتنق هذا الدين مؤمنا بعظمة تعاليمه ورفعة قيمه ، وانبرا وسط المتقاتلين رافعا كتاب الله المجيد ، عسى أن يوقف نزيف الدم بينهم ، ولكنه تلق سهما من أحدهم أرداه قتيلا ! . كل ذلك حدث قبل خمسة عشر قرنا ، وتلك أول فتنة بين المسلمين كان بالامكان درؤها بالحوار والوصول الى حل يرضي الجميع . غير أن المؤلم حقا أن المسلمين ، حكاما ورعية ، واصلوا التقاتل وسفك الدماء فيما بينهم الى يومنا هذا ، تاركين لأعدائهم أن يوحدوا صفوفهم وأن يعززوا سطوتهم  ويهيمنوا على الأمة ما استطاعوا . وأنت ترى إن ما جرى ويجري بين المسلمين ، لم يحدث  في أي أمة  على هذه الأرض . وأذا كانت بعض الأقوام قد مرت ، في مرحلة من تاريخها ، بحوادث من العنف فيما بينها ، إلا أنها ثابت الى رشدها وتوحدت ونبذت التقاتل بين أبنائها ، وسعت الى السلم والتآخي ، وجعلت من الحوار وسيلة لحل خلافاتها ، ودفنت الى الأبد الحقد والكراهية وأسباب الفرقة ، وأقبلت على العمل الصالح والبناء من أجل أوطانها .
      إنها فتنة سوداء يشعلها كل من يريد لأمتنا التمزق والشتات والذل ، وقد جعل هذا الرهط من تدهور أمتنا هدفا له لتحقيق مصالحه ، وأنشأ لهذا الغرض غرف عمليات ، للبحث عن وسائل التفرقة والكراهية بين الأديان والمذاهب والإثنيات المتآخية ، مستخدمين كل الوسائل  التي تثير الفتن والبغضاء والإقتتال بين الطوائف على أختلافها ، لتصبح المنطقة كلها ، وبكل خيراتها ومقدراتها وسكانها تحت سطوتهم .
      فهل أن فهم هذا الأمر عسير على أبناء أمتنا ، وصعب على ذوي العقل والبصيرة والإدراك من رجالنا ! ؟. في هذه الظروف المعقدة التي تمر بها بلادنا ، حيث تتكالب علينا المحن والمشكلات من الداخل والخارج ، تنهض الحاجة الى الحكمة للخروج من الأزمة ، والعمل قبل القول من جميع الأطراف ، وبخاصة من يمتلك الحل والنهي ،  الى إزالة أسباب الاختلاف ، قبل أن يستبد بنا كيد ألآخرين .
     إن كل مخلص في هذا الوطن على ثقة من أن تشتتنا وتقاتلنا إنما هو نصر لأعدائنا وخسارة فادحة لبلدنا ، في ظل ساحة متأزمة تنتظر المفاجآت . وعلى كل منا أن يعمل على درء الفتنة وإزالة كل ما يعيق وحدة الشعب وتضامنه ، وتحقيق المساواة والتآخي بين طوائف الشعب كافة للخروج ببلدنا من الأزمة الراهنة سالما ، وهو ما ينتظره الجميع ممن بيده الحل والنهي ان شاء الله .