لطالما كانت قمة ١٩٦٧م العربية بالخرطوم هي مثار فخر نخب السودان، و لطالما تحدث عنها الساسة و الدبلوماسيون و المثقفون و الصحفيون في الخرطوم باعتبارها إنجازً للسودانيين.. تلك القمة التي أعقبت هزيمة حرب “النكسة” و انعقدت في ظل انقسام و شكوك بل و قتال بين حكومات عربية “ملكية” ضد حكومة ناصر المصرية و أنظمة انقلابات عسكرية موالية لها، و كان أهم إنجازاتها تسوية الخلاف بين “الزعيم” ناصر و الملك “فيصل” و إنهاء التوتر بين الحكومات العربية لتتوحد في مواجهة العدو، ثم كان اتفاق (لا اعتراف، لا صلح، لا تفاوض مع إسرائيل) تلك اللاءات التي أصبحت عنوان لتلك القمة و حكمت علاقة العرب بإسرائيل “و ببعضهم البعض لنصف قرن تقريباً” ..
في السودان يقال عن الشخص الذي بدّل رأيه و رجع عن موقف سابق بأنه “لحس كلامه” و طبعاً كانت هناك انظمة سابقة للنظام السوداني في “لحس” موقف اللاءات الثلاث و كانت لها مفاوضات و تفاهمات و تعاون علناً أو اسراً مع إسرائيل أولها مصر باتفاق كامب ديفيد ثم الاردن و منظمة التحرير و و و …
البحث في عرض التطبيع المقدم اليوم الي الحكومة الانتقالية في السودان يجعلها تنضم الي قائمة الذين تراجعوا عن مواقفهم، و لحسوا كلامهم “و ازدردوا لاءاتهم”.
و مع كون ذلك عسير علي من عاشوا عقود مجد القومية العربية و شعاراتها و من ترعروا في عهد صعود الاسلام السياسي و “اشواق” تحرير القدس و استعادة امجاد صلاح الدين.. إلا أن الأغلبية ما عادت تلك الشعارات تهمها و لا تعنيها، لكن الجدل يدور بمعظمه حول مشروعية الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب التي و بدلاً عن مساندة نظام السودان الانتقالي الساعي لإقامة ديمقراطية مستدامة بعد عقود من حكم تيار دعم الارهاب تخلت عن شعارات دعم الديمقراطية و طفقت تبحث أن انتصارات رخيصة لدبلوماسيتها علي أعتاب سباق البيت الأبيض!
إدارة ترامب تستغل الوضع الحرج و الهش للسودانيين و تربط العلاقة بين الخرطوم و تل ابيب-القدس بملف الارهاب فيما يتجاوز الابتزاز الي الاحتيال السياسي لتنتزع منهم تطبيع !
الملاحظة الغريبة ان اميركا لم تمارس أية ضغوط علي بغداد التي اسقطت نظامها (نظام البعث) ليطبع مع اسرائيل بينما تضغط علي السودان الذي احدث نقلة سياسية بدفع ذاتي!
ليجد السودانيين “بمن فيهم الفخورين بلاءات الخرطوم” أنفسهم مضطرين لإزدراد لاءاتهم تلك .. دون أن يفقهوا أن تلك اللاءات كانت و بالاً عليهم! فحين انتجوها و أصلحوا بين ناصر و الملك دعم الاول انقلاب الضباط الأحرار علي حكومة الخرطوم “المنتخبة” صاحبة اللاءات و قابلة الصمود العربي بينما ساند الثاني صعود الاسلام السياسي الذي ذج بالسودان في قوائم الإرهاب و غيرها من المحن!
نعرف انه مضي الزمن الذي كانت فيه للعرب قضية مركزية واحدة يلتفون حولها و يسندهم كل داعمي حركات التحرر الوطني في العالم، اليوم تشهد المنطقة نحو خمسة قضايا مركزية اضافية “الحرب في سوريا، و اليمن، و ليبيا، و اضرابات العراق، و لبنان، و الصومال المنسي..” كل ذلك في اجواء فتور في العلاقات “الازمة الخليجية” و اندثار التضامن..
لكن في اتون كل هذه الفوضي علي كل عاصمة “بما في ذلك الخرطوم” ان تشق طريقها بمفردها و ان ترعي مصالحها دون الانتقاص من مصالح الآخرين.