انه عاشوراء , في البياع وبين محل واخر اقيم سردق وعلقت لوحة سوداء هذا موكب فلان الفلاني وصوت مكبرات الصوت الذي لاينقطع يروي واقعة الطف بصوت باكي اليم وصراخ متواصل, لم يتسنى لي مرة واحدة فهم االواقعة من مكبرات الصوت. انها السبعينات حيث البعث الحاكم مازال يتيح ممارسه الشعائر الحسينية قبل ان يمنعها لاحقا. في ليلة العاشر تسهر الناس حتى الصباح وهي تبكي وتنشج وتستمع لمقتل الامام الحسين(ع) . في يوم المقتل تشتد الفعاليات والشعائر. اكثر ماكان يثيرنا في صغرنا مسرح الشوارع. رأيت ذات مرة فتاة في العاشرة من عمرها في هودج على ظهر بعير في قافلة طويلة اشبه بمشهد من فيلم الرسالة مازلت أذكر شعر الفتاة الاشقر الطويل المبعثر وقد رش عليه علف الدواب التبن وكانت تنظف شعرها والحزن يغلف وجهها وسمعت من يهمس هذه زينب فانفجرالحاضرين على جانبي الطريق بالصراخ والنواح والبكاء. ولكن العرض المسرحي الكبير والذي يسمى بالتشابيه كانت تجرى فصوله في ارض جرداء تقع بين منطقة العامل والبياع. هنا ترى المقتل ان كان لك نصيب فالحشود الغفيرة تسد عليك مجال الرؤيا وذات مرة استطعت ومن معي رؤية مجموعة من الناس تراقب العرض من سطح بيت مجاور فانضممنا اليهم ولم يكن صاحب البيت موجودا. رأينا الفرسان بالبدلات الزرقاء والحمراء والصفراء والخيام البيضاء ثم اشتعل حريق وارتفعت سحب الدخان وكانت الناس تتفاعل وهي تصرخ وتبكي ثم فجأة وبعد الحريق مباشرة هجم الجمهور كله دفعة واحدة ومن كل الاتجاهات نحو الخيام المحترقة وحصل هرج ومرج واختلط الحابل بالنابل كما يقول الرواة ولم افهم مايجري ولكن سمعت طراطيش من الكلام ان الناس تتعارك من اجل خرق ممزقة ومحترقة من الخيام التي اندلعت فيها النيران. وهناك من كان يتحدث عن ان الممثل الذي يقوم بدور قاتل الحسين الشمر يتعرض للرفس والضرب وهو يصرخ ياعالم هذا تمثيل فيردون عليه وكيف ترضى بهذا الدوريابغل, الم تجد دورا اخر. ومازلت اذكر وانا اقف في وسط موقع المعركة ورائحة الدخان لم تبارحها بعد ان انفض الناس وذهبوا في حال سبيلهم. كانت ارض المعركة خالية تماما من كل شئ, ولم تترك خرقة واحدة صغيرة اخذها معي للبيت.
لم افهم مقتل الحسين الا من كتاب طه حسين علي وبنوه ومن كتاب حياة الحسين لعبد الحميد جودة السحار, صوت البكاء والنواح يعلوا على كل الاصوات. افتقدنا تلك الاجواء العفوية لاحقا, منع البعث الحاكم الشعائر الحسينية كما منع اشياء كثيرة. كان يمارس علينا دور الاب والمرشد ولو سمح بتلك الفعاليات على حالها فلربما ماكنا وصلنا الى حالنا اليوم.
التشابيه التي يفعلها شباب هذه ألايام تثير السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي ففيها المبالغة والخيال مايجعلها مادة للتندر
وخصوصا وانها تتم بامكانات شحيحة ومتقشفه فقديما كانت تبدو لنا في تلك السن المبكرة وكأنها على درجة عالية من الحرفية لكن اليوم اصبح الامر مكشوفا.
هل كان كل طموح الطبقة السياسية التي تتصدر المشهد السياسي اليوم هو اقامة الشعائر الحسينيه فقط ؟ لا توفير الخدمات ،لا توفير ابسط مستلزمات الحياة لا العيش بكرامة، لا العمل من اجل المستقبل، فقط اقامة الشعائر الحسينية وسيرضى الحسين عنهم، سيكفيهم غضبه وسيشعرون بالراحة والسكينة حتى لوسرقوا الملايين وخزنوها خارج البلاد.
رسالة الحسين هي الايثار والتضحية بالذات من اجل المبدأ ، لاتضحوا بأنفسكم ، لااحد يريد ان تفعلوا ذلك, فقط تصالحوا مع انفسكم فربما ترون من حولكم.اغيثوا المحتاج فهذا يريح ضمائركم أو لا تفعلوا ، بل كفوا فقط عن طغيانكم وفسادكم واتركوا الناس تعيش بسلام وكرامه ولاتجعلوها تبحثى عن لقمتها في المزابل فيما تلعنون يزيد وتلطمون صدروكم لأنكم خذلتم حفيد رسول الله.
هامش
الارض الجرداء حولتها امانة بغداد في السبيعنات لمتنزه ثم تحول المتنزه الى علوه للحصى والرمل وبعدها اقيمت عليه وزارة التجارة السوق المركزي في بداية الثمانينات وهو المشروع الذي نفذته شركة كورية كواحد من خمس اسواق في بغداد.