خاص: كتبت- سماح عادل
ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا مقاطع من فيلم “عشائي مع أندريه” my dinner with andre ، وهو فيلم أمريكي قديم إنتاج 1981، حيث يؤول المشاركون لتلك المقاطع معانيها ويقولون أنها أشارت إلى وجود مؤامرة عالمية لتغييب وعي الإنسان، ولجعل الناس منقادين وتابعين لنظام عالمي جديد.
لذا بحثت عنه لأشاهده، بعد أن تملكني الفضول لمعرفة ماذا تناول هذا الفيلم الذي أنتج في أوائل الثمانينيات في أمريكا، وشاهدته على أحد المواقع المتوفرة على الانترنت.
يبدأ الفيلم ب “والاس” كاتب مسرحي، يحكي عن نفسه، وعن أن أحوال عمله المتدهورة بسبب عزوف الناس عن المسرح، ومرور المسرح بأزمة، مما يعني أنه بلا عمل، يعيش مع حبيبته التي تعمل نادلة لتستقر حياتهم، ثم وبمقابلة أحد أصدقائه صدفة يحكي له عن صديق آخر، كان يمر بتغييرات نفسية، جعلت المحيطين به يتعجبون من أمره، حيث سافر إلى عدة بلدان وتغيرت سلوكياته، واقترح صديق والاس عليه أن يقابل هذا الصديق أندريه.
وبالفعل يتفقان على العشاء معا، وتكون بداية الفيلم رحلة ذهاب والاس إلى المطعم الذي دعاه إليه اندريه. ويتعجب والاس من استطاعة أندريه أن يذهب إلى عدة بلدان وإعالة أسرته في نفس الوقت، رغم أن عمله في المسرح متوقف، في حين أن والاس نفسه لا يستطيع العمل ويعاني من ضيق العيش.
ويتابع المشاهد والاس وهو يركب القطار ويستمر في الحكي ثم يشاهده وهو يدخل مطعما فاخرا حتى والاس نفسه يندهش أن أندريه دعاه إلى مطعم فاخر.
ويأتي اندريه، ويجلس الاثنان والاس و أندريه إلى طاولة ويبدأن في تناول العشاء، وحديث طويل يكون النصيب الأكبر فيه ل أندريه حيث يسأله والاس عدة أسئلة عن حياته وأحواله ويظل أندريه يحكي.
التفاعل الجماعي..
يحكي أندريه أنه وأثناء عمله في المسرح تقابل مع مخرج مسرحي آخر، والذي أتاح له فرصة الذهاب في رحلة مع أشخاص لا يجيدون التحدث بلغته، وعاشوا فترة من الزمن في إحدى الأماكن الطبيعية المليئة بالأشجار والأماكن الفسيحة، وكانوا يتواصلون عن طريق الغناء. وكيف أن تلك التجربة غيرت فيه كثيرا حيث أحس بالتواصل الإنساني، تواصل من نوع مختلف غير ذلك التواصل الذي اعتاد عليه.
ثم تجربه أخرى لمسرح ارتجالي، قام بها أندريه مع نفس مجموعة الناس، ثم دعوا مجموعة أخرى للمشاهدة، ويحكي أندريه كيف تفاعل الناس وارتجلوا بشكل جماعي غناء وحركات راقصة، وحتى حركات ارتجالية أخرى وكيف أن ذلك الارتجال أن جماعيا، وكان ينم عن تفاعل بين البشر بشكل جماعي.
اعتقد كمشاهدة أن أندريه كان يقصد أنه كان يفتقد لتلك الجماعية، ففي المجتمع الغربي هناك تمجيد للفردية، كما أن الرأسمالية نفسها عملت على تبديد الحس الجماعي والتفاعل الجماعي، وأصبح كل فرد يعيش حياته منعزلا ومغتربا عن المجموع، مما أبهر أندريه، ذلك الأمريكي الذي يعيش حياة الفردية بكل تفاصيلها، حين انخرط في تجربة ينخرط فيها الناس ويتفاعلون بشكل جماعي، وذاق طعم التفاعل وسط المجموع والاندماج وسطهم. ووالاس يستمع إلى تلك الحكايات باستغراب واندهاش أقرب إلى الاستنكار، ربما يستنكر انبهار أندريه نفسه.
ثم يتنقل أندريه إلى حكايات أخرى، ويستمع والاس وهو يمضغ الطعام، يحكي أندريه عن توزعه النفسي وشعوره أنه كان يعيش حياة زائفة وغير مشبعة، اكتشف ذلك حينما مر بتلك التجربة التي حكاها ثم بسفره إلى عدة بلدان لم تنهكها الرأسمالية، وظلت تحتفظ ببعض سمات الإنسانية، طبعا أندريه لا يذكر الرأسمالية، وإنما يعلي من شأن تلك المجتمعات التي زارها والتي تلعب فيها الطبيعة دورا كبيرا، كما أن التعاملات بين البشر مريحة وسلسة.
ثم انتقل للحديث عن وفاة والدته وكيف أن الطبيب أخبرهم وهو فرح أن أمه تحسنت، لكنها في الواقع كانت حالتها الصحية متدهورة مشيرا إلى أن الطبيب كان مغيبا، كان ينظر من خلال رؤيته وعالمه الخاص المغلق الذي منعه من أن ينتبه إلى مأساوية الموقف، حيث ابن وزوج عجوز ينتظران سيدة عجوز، يتمنيان أن تشفى لكنهما يعرفان إنها النهاية، وأنها تحتضر. لكن كل ما لفت انتباه الطبيب تحسن جزء من جسد المريضة، ولم ينتبه إلى حالتها الكلية، أو مأساوية الموقف على المستوى الإنساني. كما أشار أندريه إلى أصدقاءه الذين قابلهم بعد وفاة والدته مباشرة، والذين تجنبوا بشكل متعمد الحديث عن وفاة أمه وفقده لها، وتحدثوا في أمور أخرى تافهة، يبتسمون أحيانا ويضحكون أحيانا أخرى، ويصف أندريه كيف شعر بالحزن لذلك. وكأنه يقارن بين الإنسان الأمريكي الغربي الذي أصبح مفتقدا للحس الإنساني. والذي يختلف كثيرا عن الأناس الذين رآهم في إفريقيا والهند والبلدان الأخرى، والذين في رأي أندريه مازالوا يتملكون حسا إنسانيا أعلى.
افتعال..
لينتقل الحديث وبشكل مباشر عن سلوكيات الناس في أمريكا خاصة في الحفلات والتجمعات، وأخيرا يشاركه والاس في الرأي بعد أن كان مجرد مستمعا سلبيا، حيث كل فرد يضع لنفسه صورة متكاملة من السلوك، المتعارف عليه اجتماعيا، سلوك مفتعل، وتصرفات محسوبة تخلو من انفعالات وردود أفعال إنسانية طبيعية، والاس نفسه يذكر أنه حضر إحدى الحفلات هو وحبيبته وشعر بالإحراج، ولم يكن يتصرف بطبيعته لأنه شعر بالافتعال السائد بين الحضور، كما شعر بأنه غير مقبول بسبب أنه بلا عمل، أو أنه كاتب وممثل مسرح، وهذه ليست مهنة كبيرة الشأن في تلك المجتمعات.
كما اتفق أندريه ووالاس حول أن المجتمع يفرض أنماطا معينة، الأب الزوج، الأسرة، أنماطا معينة لابد وأن تكون وفق نماذج متعارف عليها، والناس في أمريكا لابد وأن يمارسون حياتهم وفق تلك الأنماط والنماذج.
الإحساس العام بالملل..
كما انتقل الحديث إلى الإحساس العام بالملل، بالتغييب، لكن أندريه أو والاس لم يذكروا كلمة التغييب، إنما تطرقوا إلى إحساس الناس في أمريكا بأن حياتهم غير مريحة، حياة غير ممتعة، ويصرح أندريه أن حياة الإنسان الطبيعية إلى زوال، وأن فترة الستينات كانت آخر فترة يعيش فيها الإنسان مشاعره وأحاسيسه وحياته بشكل طبيعي، لكن حدث تغييب للناس ليصبحوا أشبه بالآلات أو بالمنقادين، ينفذون ما يملى عليهم، وأن هناك نظام ما وراء ذلك التغييب، التلفاز يغيب وعيهم، نمط الحياة، نيويورك مثلا إحدى المدن التي يشعر فيها الإنسان أنه مستلب وأنه يعيش وفق ما خطط له أن يعيش، ويذكر أنه وزوجته فكرا كثيرا في هجر نيويورك لكنهم لا يفعلون مع ذلك.
ثم يذكر نماذج عرفها تركت المجتمع الأمريكي الغربي بإرادتها وعاشت في مجتمعات أقرب إلى الطبيعة، أو أفراد وهبوا حياتهم لأهداف نبيلة لكي يتخلصوا من الملل والشعور بالاغتراب.
تقديس العلم..
لكن جاء اختلاف أندريه وولاس حين ذكر أندريه أن المجتمع الغربي يعلي من شأن العلم على حساب التنكر للطبيعة، فقد كان رأي والاس أن الاهتمام بالعلم وشروطه أمر جيد، وأن الإيمان بالمصادفات أو الرسائل من الطبيعة أو الأحداث خارج نطاق العلم أمر مضحك، فالعلم ومراعاة شروطه هو السبب الأساسي في ازدهار الحضارة الغربية.
ثم تناقشا في أمر ألا يفعل المرء شيئا، أن يخصص وقتا للتأمل في الطبيعة وفي التمتع بالهدوء والسكينة، لكن والاس استنكر ذلك مؤكدا أنه لو جلس وقتا دون أن يفعل شيئا فإنه يشعر بالسخافة يشعر بأنه بلا قيمة، لابد وأن يفعل شيئا ليشعر بقيمته، في حين أن أندريه لم يوافقه الرأي وينم هذا عن شعور والاس بأن قيمة الإنسان تنبع من نتائج أعماله، وما يقوم به من أعمال بينما أندريه يشعر بأن قيمة الإنسان موجودة في كونه إنسانا.
وانتهى العشاء ليرحل أندريه إلى طريقه ويرحل والاس إلى بيته، ووالاس من تعبيرات وجهه يفهم المشاهد أنه ما يزال يرى أن أندريه غريب الأطوار، وأنه بصورة ما يتصرف بغرابة.
الفيلم مميز، أنتج في الثمانينات، عبارة عن حديث طويل في أمور شتى ومتنوعة لكنها في رأيي كمشاهدة تصب في فكرة هامة ورئيسية، هي تشوه المجتمع الغربي، الذي مجد العلم وقدسه على حساب هجر الطبيعة، المجتمع الرأسمالي الذي توحش واستلب الإنسان وأشعره بالاغتراب عن إنسانيته وطبيعيته، أفقده تواصله مع الكون والطبيعة، وحتى مع غيره من البشر، وقطفه مثل ثمرة، ليتركه يتعفن من الشعور بالملل والاغتراب.
مجتمع فرض على الإنسان أنماطا معروفة ومحفوظة من السلوك، وصور ذهنية عن أدوارهم الاجتماعية، وأهداف وخطط ومشاريع يجد الإنسان نفسه مجبرا على الامتثال لها، وإلا يصبح منبوذا من مجتمع يقيس الإنسان بحسب ما ينجز من أعمال، وحسب ما يحقق من نجاحات تتعلق بالأموال والمادة أكثر.
-فيلم My Dinner with Andre هو فيلم درامي كوميدي أمريكي في عام 1981 من إخراج Louis Malle، تأليف بطولة Andre Gregory و Wallace Shawn. يلعب الممثلون نسخًا خيالية لأنفسهم يشاركون محادثة في Café des Artistes في مانهاتن.