حينما تتجول في صفحات تاريخ العراق الحديث لتبحث عن التظاهرات والاحتجاجات التي تحولت لانتفاضة وثورة سلمية ستجد على قمة الصدارة “ثورة تشرين” التي انطلقت كتظاهرة يقودها مجموعة من الشباب خططوا لتجمعهم وانطلاقهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) تحت عنوان المطالبة “بوطن مفقود”، بعد ان سرقت جميع احلامهم بالعيش والحصول على وظائف تلبي طموحاتهم، وهم يشاهدون اموالهم وخيرات بلادهم يسرقها “الفاسدون” من دون خوف او محاسبة، حتى اصبح “السادة” من اصحاب المعالي والمقام الرفيع يتحدثون عن سرقاتهم “جهارا نهارا” ويمنون على “عباد الله” بانهم “حررونا من نظام قمعي كان يرأسه صدام حسين ويتعمدون ترديدها في اكثر من مناسبة في طريقة مكشوفة لاهانة الشعب.
في بداية الساعات الاؤول للتظاهرة التي حاولت الاقتراب من ساحة التحرير اعتقد الجميع بانها ستكون مجرد تجمع للشباب سينتهي خلال ساعات قليلة ويعود لجميع لمنازلهم، بسبب “خيبات الامل” التي اصابتنا في السنوات السابقة بعد ان صادرت العديد من الجهات السياسية التظاهرات والاعتصامات التي كانت تخرج للمطالبة بالاصلاح لكنها سرعان ما تعلن انتهاء موسمها بحصول قادتها والجهة السياسية التي ترعاها على مناصب في الحكومة، لكن، ماحصل غير خارطة التظاهرة حينما اطلقت قوات امنية رسمية وملثمون يرتدون الملابس العسكرية النار على المتظاهرين واتبعتها رصاصات القناصة من الاسطح القريبة لساحة التحرير وشارع السعدون في بغداد لتلاحق الشباب، فيسقط هنا شهيد وهناك جريح، وبدلا من اصابة المتظاهرين “بالهزيمة” كما كانت السلطة تتوقع، ازدادت اعداد المحتجين وبدأت الاصوات ترتفع لنصرة الشباب ونقل صورة القمع الذي يتعرضون له، ليشاهد الجميع ماتفعله الحكومة وبعد ساعات انقلبت “المعادلة” لتتسع التظاهرة وتتحول الى انتفاضة “كبرى” وصلت لجميع المحافظات واصبحت وسائل الاعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي تشاهد لحظات القنص والقتل المتعمد للشباب المحتجين، حتى ان احدى اللقطات التي مازالت عالقة في الاذهان، مشهد الرجل الكبير الذي خرج للقوات الامنية في ساحة التحرير حاملا العلم العراقي ليحاججهم بايقاف اطلاق النار على المتظاهرين، فكان الرد باسقاطه على الارض مع الراية، لكنه بحركة لا ارادية امسك بالعلم ورفض ان يسقط من يده، ليكون هذا المشهد واحدا من مئات المشاهد التي “الهمت” الشباب للبقاء في ساحات الاحتجاج قبل ان تتحول التظاهرة الى اعتصام مفتوح.
ومع ازدياد قمع السلطة للمحتجين وبمواقفة القوى السياسية التي باركت ماتفعله حكومة رئيس الوزراء في حينها عادل عبد المهدي، ارتفعت بالمقابل اعداد المحتجين وشهدت جميع الساحات تجمعات بشرية من الشباب والنساء والشيوخ وحتى الاطفال وهم يواجهون قنابل الموت ورصاص القناصة على جسر الجمهورية وفي الحبوبي والحلة والنجف وكربلاء وواسط والديوانية والسماوة والبصرة بفخر كبير ويتعاملون معها “كلعبة” ممكن ان تنتصر فيها او تكون الخسارة بموتك، فكان صمودهم اسطوريا حير “قادة السلطة” والجهات التي استمرت بممارسة اسلوب “التقسيط” مع الثورة من خلال استخدام جميع الوسائل التي تمتلكها مرة “بزج” عناصر مشبوهة لتخريب سلمية الاحتجاجات ومرة بافلام مفبركة تعرضها على وسائل الاعلام التي تملكها حتى اصبحت تطلق على المتظاهر السلمي وصف “الجوكر” وتتهمه بالعمالة للسفارة الامريكية، في وقت كانت جيوب الشهداء او الجرحى الذين يسقطون في ساحات الاحتجاج لا تجد فيها سوى “علبة سكائر” ومبلغ من المال لا يتعدى سعر تلك العلبة، حتى ان العديد منهم اضطر لبيع هاتفه الشخصي (الموبايل) للبقاء في الساحات وعدم مغادرتها، لكن على الجانب الاخر، كانت السلطة تجتمع في كل ليلة لتحدد الطريقة التي تواجه فيها الشباب المحتج، وكيفية اصدار اوامر القتل.
اكثر مايثير الاستغراب في يوميات الثورة التي تمكنت من اسقاط حكومة عبد المهدي واجبرته على استقالة بعد رسالة المرجعية الدينية التي وقفت مع الشباب المحتج منذ الايام الاولى للثورة، وهي تامر بعض الاطراف عليها ومحاولة مصادرتها بفرض القيادة “غير الشرعية” ولعل واحدة منها حينما حاول زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر التدخل وفرض مرشحه محمد توفيق علاوي لرئاسة الوزراء كبديل عن عبد المهدي، وحينما رفضت الساحات الموافقة على “مشروع السيد الصدر” تحرك اصحاب القبعات الزرق لفرض ارادتهم بقوة “التواثي” والتشهير بالمحتجين، لكنها فشلت بالنهاية فالشباب الذي تصدى للقناصة والقنابل لن تهزمه “الهراوة”، حتى جاء اليوم الذي سرقت فيه الثورة على الرغم من جميع تلك التضحيات التي تجاوز بنحو سبع مائة شهيد والالاف من الجرحى، حينما قدمت القوى السياسية مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، باعتباره من رحم احتجاجات تشرين، والذي يحاول اليوم، استخدام هذه “الكذبة” لتبرير بقائه في السلطة حيث ابلغنا في الذكرى السنوية الاولى للثورة، بان “هذه الحكومة جاءت بناءً على خريطة الطريق التي فرضها حراك الشعب العراقي ومظالمه وتطلعاته”، ليكمل بعدها قائلا، “نؤكد الوفاء لشعبنا ولخريطة الطريق التي فرضتها دماء شبابه الطليعي وتضحياتهم”، متناسيا بانه كان رئيسا لجهاز المخابرات في وقت كان الشباب يتعرضون للقنص وعمليات الاغتيال في الشوارع وتفجر جماجمهم بالقنابل، وكان يحضر جميع الاجتماعات الحكومية التي تسجل فيها عمليات التخطيط لاقتحام الساحات ومواجهة المحتجين، لا اعلم كيف يمنح الكاظمي لنفسه هذه الشرعية، وهو حتى الان وبعد مرور اربعة اشهر على حكومته لم نسمع بمحاكمة قتلة المتظاهرين، او محاسبة فاسد اشترك بسرقة خيرات البلاد والعباد، في وقت تخبرنا اللجنة المالية في مجلس النواب بان اعظم انجاز لحكومة الكاظمي خلال هذه الفترة، فقدان ستة تريليونات دينار من اموال الاقتراض لسد النفقات، لا نعلم اين ذهبت، فلك عزيزي القارئ ان تتخيل فقدان هذه المبلغ خلال اربعة اشهر فقط، فماذا سيفعل الكاظمي لو استمر لسنتين او اربع سنوات بحكومة تديرها مجاميع على “الفيسبوك” مهمتهما تلميع صورة سيدها فقط، على الرغم من فشله بتحقيق جميع التعهدات اخرها تحرير الناشط المختطف سجاد العراقي، الذي يعلم الجميع هوية الخاطفين والجهة التي توفر الحماية لهم.
الخلاصة:… ان الخطأ الكبير الذي ارتكبته ثورة تشرين “بنية صافية” غياب القيادة الحقيقية التي تفاوض بصوت المواطن، وهو ما فسح المجال للمنتفعين من امثال “مستشاري الكاظمي” والمطبلين المحيطين به بعنوان الفريق الحكومي، على اخذ دور الفاسدين في الحكومات السابقة فاصبحت الصفقات تعقد عن طريقهم والمعاملات المشبوهة تمرر من خلالهم، وهذا يحتاج في ذكرى تشرين، إلى اعادة دراسة تتجنب جميع تلك الاخطاء في حال قرر الشباب المنتفض العودة بقوة للساحات لتغير من صعد على اكتاف المضحين، اخيرا… السؤال الذي لابد منه.. هل نمتلك القدرة على تصحيح المسار من جديد؟….