5 نوفمبر، 2024 12:25 م
Search
Close this search box.

أيا أهل النخيل سلاما

أيا أهل النخيل سلاما

(في الذكرى السنوية اﻷولى لإندلاع ثورة الشعب العراقي، ثورة اﻷول من أكتوبر عام 2019).
أمام مبنى بلدية كاليه (Calais)الفرنسية، يشمخ نصبا تذكاريا لستة رجال وبأوضاع وحركات مختلفة، كانوا قد قدمّوا أرواحهم قربانا، يفتدون بها مدينتهم. أعمارهم وملابسهم كانت متفاوتة بشكل واضح، عاكسة طبيعة مكوناتهم الإجتماعية وكذلك خلفياتهم الثقافية. انهم بإختصار عصارة عطر الياسمين ومن خيرة أبناء مدينتهم وفخرها. أمّا أصل الحكاية فتقول: ان ملك انكلترا أدوارد الثالث وبعد أن حاصر المدينة إياّها وأوشك أن يحقق نصره النهائي المزعوم، وذلك بإستباحتها وإزالتها من الوجود وتصفية كل مَنْ فيها، قرَّرَ وفي اللحظات اﻷخيرة التوقف عن تنفيذ ما رماه، وذلك نزولا عند طلبات ورغبات وإستغاثات، جاءته من هنا وهناك ومن بينهم وعلى رأسهم زوجته. وكبديل عن مخططه الخبيث هذا وما انتواه وكي لا يبدو ضعيفا، فقد وضع شرطا أمام أهل المدينة، مفاده أن يتقدم ستة من عيون أبناءها وقدوتهم وهم حاسري الرؤوس، مُذلين، مُهانين ومقيدين أيضا. وبهذا الإستعداد والوقفة الشجاعة وروح التضحية التي أبداها هؤلاء الرجال الستة، استطاعوا إنقاذ اﻷرض التي أنجبتهم ومن قََبْلُ إنقاذ ساكنيها.
وبسبب من هذه الواقعة التي أتينا على ذكرها، فسيتحول هؤلاء الرجال الستة في ما بعد وعلى مدى قرون لاحقة الى أيقونة وأبطال خالدون، وسيتحول اﻷثر أو النصب الذي تم نحته على يد الفنان رودان الى قبلة يؤمها الناس وعلى تعاقب أجيالهم. انها واحدة من حلقات الحرب التي سُمّيت بحرب المائة عام، والتي كانت رحاها وفصولها قد دارت بين قطبين كبيرين آنذاك، هما فرنسا وبريطانيا، وذلك في سنة 1347. كذلك وهذه لعلها النقطة اﻷهم والتي تعنينا في هذه المناسبة، سيعدَّها المؤرخون، واحدة من صفحات المجد التي حفرتها إرادة الشعوب، وباتت مزارا لمتطلعي الحرية وعاشقيها في العالم.
بين كاليه المدينة الفرنسية التي هي حديث ساعتنا وناصرية العراق شيء من التناغم والتشابه والعزف المشترك. فالتأريخ هنا وفي لحظة كالتي نعيشهاسيعيد نفسه، وهذه المرة على شكل مجد وسمو. فمدينة الناصرية التي يليق بها أن نُسمّيها بزهرة الجنوب العراقي، وإذا ما أردنا التحدث عنها بإعتبارها نموذجا ومثالا يحتذى به للمدن الباسلة، فهي اﻷخرى من ماس ونور وكرامة، وأبناءها رجال تضحية وإقدام. وربما هي أكثر تحسسا وتوقا للحرية قياسا الى غيرها من المدن. وإن شئنا دقة الوصف وتعميمه فهي لا تختلف كثيرا عن سائر مدن العراق اﻷخرى، وبشكل خاص تلك التي أنصفها التأريخ وشرَّفها بأن أطلق عليها وسمَّاها بالمدن المنتفضة. وربما تتمتع (الناصرية) ببعض من الخصوصية ولنقولها بكلام واحد صريح فهي أيقونة ساحات العز اﻷخرى وبإمتياز، ومنها يستمدون العزيمة والإصرار على تحقيق أهدافهم السامية. وإذا ما أردنا التحدث وبلغة اﻷرقام عن حجم التضحيات التي جادت بها وعلى ضوء ما دونته يوميات الإنتفاضة، فسنجدها وقد بلغت أرقاما تفوق كل التوقعات، وستهتز لبسالتها فرائص اﻷعداء ويجبنٌ أشجعهم إن كان بينهم رجالا، وسيتربع شهدائها على عرش البطولة بثبات وفخر.
وما دمنا قد دخلنا في باب المقارنة او بالأحرى استحضار تجربة مدينتين، تشتركان في تصديهما لقوة غاشمة، فلابد من التوقف عند بعض الحقائق: فكاليه الفرنسية قد تمت إستباحتها على يد قوى أجنبية، أتتها من خارج الحدود. وفي صراع كهذا سيجد الغازي أو المحتل من الأسباب ما تبرر فعلته وما يخطط له، وخاصة في زمن الحروب التي تنشب بين الدول. بينما الناصرية وشقيقاتها من المدن العراقية اﻷخرى المنتفضة، تعرضت ولا تزال الى حرب إبادة، بهدف إسكات صوتها الوطني وعلى يد مَنْ، على يد حفنة مَنْ يُفترض بهم أبناء جلدتها وحماتها. واذا ما حسبنا حجم التضحيات التي قدَّمها شبابها فهو يفوق وبما لا يدع مجالا للشك وبأضعاف مضاعفة ما قدمته تلك المدينة الفرنسية، ونحن هنا لسنا بصدد التقييم أو التقليل من حجم الخسائر و الدماء التي قدمها الشعوب على طريق تحقيق خياراتها المشروعة وحقها في الدفاع عن نفسها.
اﻷنكى من ذلك وما يُلفت النظر ويثير الدهشة والغرابة، انَّ عمليات القتل والتصفية التي تعرض لها أبناء مدننا العراقية المنتفضة، قد شهدت تفننا وألوانا من الدناءة والخسة، كان من بينها ما هو أشدٌ فتكا ونذالة، بل ماهو محرم دوليا وأخلاقيا وفي كل الشرائع واﻷديان والأعراف. وليس ببعيد أن يكون القتلة قد استعانوا بتجربة حكم بول بوت، زعيم الخمير الحمر في كمبوديا ورئيس دولتها في سنة 1975، حين أوصى بيادقه: من اﻷفضل قتل البريء خطأً، على عدم قتل العدو. أو وفي وصية أخرى: لا تنسى الجذر حين قطع الشجرة. فأي سادية هذه وأي إنحراف. والفضيحة اﻷكبر، أنَّ مرتكبي الجرائم بحق شبابنا المنتفض، لم تقف أمامهم ولم تثنيهم عن فعلتهم أي من الإعتبارات، لا الوطنية ولا الدينية ولا المذهبية، والتي كثيرا ما يتشدقون بها.
وإسترسالا في موضوع المقارنة بين شكلي التعامل في الحالتين، فالملك الإنكليزي أدوارد الثالث وعلى الرغم مما كان يحمله من حقد وكراهية ضد أبناء المدينة التي قام بغزوها، لكنه في النهاية راح صاغيا، مستجيبا لرجاء الرحمة التي أصدرها البعض، الاّ أن جلادي العراق وقتلته، لم يصغوا لأي نداء أو صرخة إستغاثة ومن أي مصدر كان، ومهما علا شأنا ومرتبة، إن لم يمعنوا أكثر في غلّهم وحقدهم، ولا أريد هنا التحدث عن سيف ذو القربى وكم هي مضاضته، فلستم عنه بغافلين.
وإذا كان التأريخ قد خلَّدَ أبطال تلك المدينة الباسلة المسماة كاليه بعد خمسة قرون على تأريخ وقوعها، فإن تخليد إنتفاضة العراقيين التي نشهد فصولها في هذه اﻵونة سوف لن تكون بعيدة واﻷيام بيننا. فما أن تمر بضعة سنين على ذكرى إندلاع ثورة اﻷول من اكتوبر عام 2019 الاّ وستكون مدن النخيل ومن أقصاها الى أقصاها قد شهدت إحتفالات غامرة، إحتفاءا بإنتصار ثورتها وتكريما لشهداءها، وبشكل خاص تلك المدن التي وقفت على الساتر اﻷول وبمواجهة نظام حكم فاسد، كان قد تربع على حكم البلاد على حين غفلة من الزمن، وبتواطئ وتسوية، وبصفقة مشبوهة لم تعد خافية على أحد، ومن قبل قوى خارجية أرادت للعراق وأهله أن يؤكل لحمه نيئا. انها كبوة حصان أصيل لا ريب في نهوضه.
أمّاشكل الإحتفالات المتوقعة، فأرجح السيناريو التالي: سيتنادى أحفاد جواد سليم وزها حديد ومحمد غني حكمت واسماعيل فتاح الترك وغيرهم من النحاتين العراقيين الى عقد إجتماع موسع، قد يختارون له هور الغموكة، الواقع ضمن قضاء الشطرة إداريا مكانا لهم، بإعتباره قد شهد من قبل إحدى الإنتفاضات المباركة، ليشرعوا في تداول أمر نحت نصبٍ تذكاري عرضه السماوات واﻷرض، يُمجِّدُ شهداء الوطن،ستزين به ساحة الحبوبي، حيث شهدت إنطلاق الشرارة اﻷولى للثورة وبالتزامن مع إندلاعها في سائر ساحات العز اﻷخرى. وفي سنوات لاحقة وعلى ما أرجحه، سيتحول هذا (النصب) الى مزار وقبلة للأجيال القادمة، وسيمسي مكانا للتبرك وإستذكار أولئك الرجال اﻷبطال الذين ضحوا بأرواحهم الزكية من أجل عراق أبهى. ومن هذه الساحة وبمناسبة إندلاع ثورة أكتوبر وبتقليد سيصبح ثابتا ومع إطلالة المناسبة وفي كل عام، ستصدح اﻷصوات عاليا وبأناشيد وطنية، ستؤديها باقة من البنات الحلوات، يمثلن مختلف مناطق العراق ومكوناته، ولعل خير فاتحة للمهرجان أو الحفل، ستكون بصوت أحد فنانيها الكبار وهو يشدو:
استمد الشجاعة منك
ومنك العزيمة تأتي الي
على شكل سيف يتوجني
ويشد يشد يدي
وإن مسَّكَ الضرٌ أسرعت
مدرعا بشمسٍ وفيء
وعرفت اﻷذى عن حبيب وأهلي وخل وفي
ﻷنك أنت الصباح الذي نام فيه الوفي.
وخير خاتمة لهذه الإحتفالات هي إلقاء قصيدة الجواهري الكبير: يا دجلة الخير، وبصوت أحد أبناء شهداء ثورة تشرين العظيمة.

ملاحظة: النص الآنف للشاعر هاشم شفيق، لُحنه الفنان سامي كمال، وأداه بصوته الجنوبي اﻷصيل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات