17 نوفمبر، 2024 3:48 م
Search
Close this search box.

مقهى الأطلال..

بهدي من ملائكة السماء.. أخذت قلمي وحقيبتي السوداء.. متجهة نحو مقهى “الأطلال”.. هكذا فضلت أن أسميها.. فهي من بين الفضاءات التي يسرح فيها خيالي.. وتسافر فيه أفكاري.. تارة تتبعثر فيها أوراق أشجاري.. فأصبح قارئة للفنجان.. وتارة ترسو فيها مراكبي.. أصبح فيها ملاكا.. تقع مقهى الأطلال في حي أكدال بمدينة الرباط… مثل أشياء كثيرة، جميلة في حياتي.. اكتشفتها بمحض الصدفة.. هناك من يقصد المقهى ليشرب قهوته.. بالسكر أو بدونه.. وهناك من يأتي ليصب في القهوة كل همومه.. هناك من يذوب في عشق حبيبته.. خلسة.. هناك من يبحث عن مصيره.. هناك.. يذرف دمعه ويحرق سجائره.. حسرة.. وهناك من يبحث عنها في كل مكان.. دون أن يجد لها أثرا.. وهناك من يتقن فن تجاهل من حوله.. حتى يزيدها ألما.. وهناك من يأتي فارسا.. ليكتب آخر قصيدة من قصائده.. أو يضرب له موعدا كأنه في إحدى حدائقه.. هناك من يأتي ليختلي بنفسه.. ويسمع موسيقى.. قد تذكره بالأحباب.. فيهم من ترك جرحا عميقا.. قبل أن يرحل بعيدا.. وهناك من قضى نحبه مات شهيدا.. هناك من يجعل من كل هؤلاء فريسة له.. وبين هذا وذاك.. يطل الأمير الصامت.. واثق الخطوة يمشي ملكا.. آخذا الأنظار باهتمامه لأدق التفاصيل.. قبل أن يرحل مجددا.. تاركا وراءه تاريخا حافلا بالمنجزات.. تاركا صدمة في أوساط معجبيه ومحبيه.. هناك المخلص للمكان والوفي لطبعه.. كالأمير.. وهناك من يتنقل بين المقاهي باحثا عن هويته.. كالمجنون..
قبل وصولي للمقهى المفضلة لدي.. علي أن اجتاز مقاهي كثيرة غالبا ما يكون موقعها وعرضها أكثر جمالية وقيمة.. إلا أن “الأطلال” لديها سحر خاص علي.. فضل صاحبها أن يطلق عليها اسم “برونيز”.. وهو اسم لحلوى أساسها الشوكولاطة السوداء.. اكتشفها صاحبها بمحض الصدفة.. بعد أن نسي سهوا إضافة مادة أساسية وهي الخميرة الكميائية التي تعطي حجما إضافيا للحلوى.. أسعدت الحلوى اللذيذة شعوبا كثيرة في أمريكا والصين وأوروبا.. إلا أنها لم تنل إعجابي أبدا.. بسب الإفراط في حلاوتها.. ولزوج طعمها.. أفضل “روسكوس” الحلوى الاسبانية البسيطة.. دون إضافة الشوكولاطة لها.. فرغم بساطتها لا تحتمل نسيان مكون من مكوناتها..
في يوم من أيام كورونا اللعينة.. وأثناء ليالي الحجر الباردة.. قررت أن أكون أكثر تفاؤلا وتكيفا.. عملا بالمقولة الشهيرة لدينا في المغرب.. “الراس اللي ما يدور كدية” والكدية هي المرتفع من الأرض كالهضبة.. ومن المعلوم أن الهضبة ثابتة لا تتحول.. يُضرب به المثل للمرء الذي يستمر على نفس النهج حتى وإن بدا له عدم سداد الرأي.. وحتى لا أكون كذلك.. وكغير عادتي.. أضفت جرعة من العسل الأسود على القهوة.. التي كنت أحتسيها بالأمس بدون إضافة السكر.. وغيرت سماع الأسطوانة المشروخة ” يا وطني نحن أحبابك.. هوى وطني فوق كل هوى” بأغنية “الأطلال” التي أحبها العشاق.. للشاعر الكبير إبراهيم ناجي.. وألحان الموسيقار رياض السنباطي.. أستمتع بنكهة القهوة البرازيلية ونغمات مقام راحة الأرواح والصبا.. مقام الراست والنوا.. كأنني أسمعها لأول مرة.. أخذني جمال الأداء حتى نسيت من أنا.. ونسيت وهم الوطن.. تبا لكل الأوطان.. تبا للجرح العميق الذي ضيع عني فسحة الأمل.. هل رأى الحب سكارى مثلنا.. كم بنينا من خيال حولنا.. يا حبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء… ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعد ما عز اللقاء.. كلمات ليست كالكلمات.. إيقاعات أحس بها، نبضات في قلبي.. تحملني نحو ولادة فجر جديد.. إلى ما لا نهاية..
فبينما أنا جالسة بالقرب من النافذة.. غارقة في سعادتي الآنية.. بل غارقة في أفكاري وتصميم مقدمة تليق بالأمير.. كموضوع لروايتي الآتية.. مرت سيدة طويلة القامة.. تبدو في الخمسين من عمرها.. إلا أنها تقاوم الشيخوخة بالألوان الزاهية.. بأظافرها الطويلة.. وبطريقة استعراضية.. تعرض خلخالها.. وأساورها.. الذهبية.. حتى تبدو أكثر فتنة وجمالا من كل نساء العالم.. بل أكثر نرجسية وغباء.. حينما اختارت أن تجعل المنافسة الغير شريفة سلاحا لها.. غبية حينما جعلت العبث أهم شيء في عالمها.. وجعلت من مطاردة الرجال هدفا لها.. مستعينة بأقدم وسيلة استعملتها حريم السلطان.. لإضفاء الشرعية على سيطرتها.. زمن وغد البنات وقتلهن وهن أحياء.. عندما كانت المدرسة لا تسمح باستقبال البنات.. اقتحمت السيدة الكريمة جدران المكان بدون حياء.. قامت بتكسير الجدار الرابع بكل وحشية.. كادت القصيدة أن تفقد براءتها.. وكادت الكراسي أن تسخر من تفاهتها.. وكادت الحلوى السوداء أن تصرخ من ويلات أفعالها.. كل شيء فيها فاضح يفشي أسرارها.. جاءت لتنفذ مخططها.. أن تهزم القادة والزعماء على أرض فراشها.. فويل لمن صادف طريقها أو وقع أسير شباكها.. يأخذ الندم والوحل منها نصيبا.. كم من فارس مزيف قتل في”الوفاق” فوق صدرها.. فالسيدة الكريمة.. عازمة كل العزم على أن تجتاح سكينتي وتدنس بأقدامها موطني.. معبدي صنعته بيدي.. شهادة ميلادي تحكي قصتي.. لاحظت ذهولي الممزوج بخجلي.. بدون استئذان، أخرجتني من هدوئي.. قامت باقتحام عالمي الذي لا يتسع أصلا إلا لجنوني.. امتحان عسير مررت به.. فهل أطردها من مملكتي، عملا بمبدأ الدفاع عن الشرعية.. والشرعية تختلف باختلاف انتمائهم.. وتستدعي في كثير من الأحيان استعمال القوة للحفاظ على المكتسبات.. أم أنهج منهج اللياقة التي يفرضها علي آداب المعاملة.. فلكل أسلوبه لتحديد القيمة الاعتبارية للأشياء.. ولكل موقفه تجاه النتائج المتوقعة.. هناك من يرى أن قيمة الأشياء تكمن في ظاهرها.. وهناك من يرى أن عزة النفس هي الإنسانية نفسها.. هي خمسة وأربعون دقيقة عشتها.. كانت من أصعب اللحظات التي أتذكرها.. لوحات استحضرها الموقف.. وما آلت إليه أوضاع القيم في البلاد.. فلم أدر هل أنعي نوعي، حسرة.. أم أترك الأمير يحتضر فوق السرير، انتقاما.. فالموقفين لا يناسبان وضعي بتاتا.. اشهد يا تاريخي.. يا جدران “الأطلال” أنني كلما قررت إضافة العسل للقهوة.. أو تغيير أغنيتي المفضلة.. تجدني أعود لنقطة الصفر.. اشكي همي واحتسي المرارة.. وكلما قررت أن أكون أكثر جمالا وهدوءا تأتي أحداث تجعل مني بطلة رغما عني.. هي قصص قصيرة، أجد نفسي مضطرة بان احكيها لكم تباعا ككل مرة.. (يتبع).

أحدث المقالات